بسم الله الرحمن الرحيم

السبع الموبقات ( التولي يوم الزحف )



الحمد لله بحمده نبدأ. وعليهنتوكل وإليه نلجأ . لا نسأل سواه ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.أحمد الله وأشكره وأتوب إليه وأستغفره وأستعين به وأستنصرهوأسأله اللطف في قضائه في جميع الشئون . وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله شرفه وفضله وزينه وجمله واصطفاه واجتباه ووفقه وهداه فكان خيرة خلق الله . اللهم صل وسلم وبارك علي رسول الله محمد خير عبادك وعلي آله وصحبه وكل مسلم آمن بآيات ربه ففاز بقربه وتمتع بحبه وسار علي دربه إلي يوم الدين . أما بعد فأوصيكم وإياي عباد الله بتقوى الله وأحذركم ونفسي من عصيان الله ثم أستفتح بالذي هو خير . يروي الإمامان الجليلان البخاري ومسلم رحمهما الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " اجتنبوا السبع الموبقات الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات ".
عباد الله أيها المسلمون :
التولي يوم الزحف : هو الهروب من ساحة المعركة خنوعا ووهنا وجبنا وأنانية. وحبا لسلامة النفس من الموت . وغضا للطرف عن سلامة المؤمنين . وهو مصطلح مأخوذ من قوله تعالي " إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ". ومن ثم يكون التولي ( في يوم الزحف ـ في يوم الحرب ـ في يوم الجهاد) . وهو كبيرة من أكبر الكبائر وعده النبي من الموبقات التي توبق صاحبها في النار .
والجهاد علي أربعة مراتب : جهاد النفس وجهاد الشيطان وجهاد الكفار وجهاد المنافقين . أما جهاد النفس: فيكون بتعلم الدين ثم بالعمل بعلوم الدين ثم بدعوة الغير إلي هذا الدين وذاك العمل ثم بالصبر وتحمل المشاق في سبيل ذلك . أما جهاد الشيطان : فيكون بجهاده في دفع الشبهات ودفع الشهوات . وصدق من قال :

وخالف النفس والشيطان واعصهما وإن هما محضاك النصح فاتهم
وأما جهاد المنافقين : فالأخص فيه اللسان وجهاد الكافرين : فالأخص فيه اليد . والجهاد إما واجب وجوب عين وإما واجب وجوب كفاية .الأصل أن الجهاد فرض كفاية على المسلمين وذلك إذا كان الكفار في ديارهم ونحن في ديارنا لم يحتلوا لنا أرضاً ولم يعتدوا لنا على موقع أو حق لنا واسمع لربك (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً) .(التوبة :122) . ووجوب العين في حالات: 1ـ إذا حضر المكلف في الصف يتعين عليه الجهاد (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا) وقال ((يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفًا فلا تولوهم الأدبار) . 2ـ إذا حضر العدو إلي بلادنا سلمكم الله قال تعالي ((يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة). 3ـ إذا استنفر الحاكم شخصا يتعين عليه الجهاد لما روي الإمام البخاري رحمه الله ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية . وإذ استنفرتم فانفروا" أي إذا طلب منكم الخروج إلى الحرب فاخرجوا. ويقول الله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل) . 3ـ إذا احتيج إلى ذلك الشخص ولا يسد أحد مسدَّه إلا هو.
ويجب الجهاد علي المسلم الذكر العاقل البالغ الصحيح الذي لديه من الزاد ما يكفيه حتى يعود . المسلم فلا يجب علي غير المسلم . الذكر فلا يجب علي المرأة فقد روي البخاري رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها قالت قلت: يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ قال: جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة" ولا يمنع من خروجهن للتمريض ونحوه . العاقل فلا يجب علي غير العاقل . الصحيح فلا يجب علي المريض واسمع لربك (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا الله ورسوله) [سورة التوبة: 91] . ويقول الله تبارك وتعالى: (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج) [سورة الفتح: 17] . البالغ فلا يجب علي الصغيرولأنه عبادة، فلا يجب إلا على بالغ فقد روي الشيخان البخاري ومسلم عن ابن عمر قال : "عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني" أما عن إذن الوالدين فالجهاد الواجب لا يعتبر فيه إذن الوالدين أما جهاد التطوع فإنه لا بد من إذن الوالدين المسلمين الحرين أو إذن أحدهما روي البخاري ومسلم عن ابن مسعود: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال:" الصلاة على وقتها." قلت ثم أي؟ قال: "بر الوالدين." قلت: ثم أي؟ قال:" الجهاد في سبيل الله" . " وروي البخاري وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه عن ابن عمر: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأذنه في الجهاد. فقال: أحيٌ والداك؟ قال: نعم. قال:" ففيهما فجاهد. وفي كتاب شرعة الإسلام: " ولا يخرج إلى الجهاد إلا من كان فارغًا عن الأهل والأطفال وعن خدمة الوالدين، فإن ذلك مقدم على الجهاد، بل هو أفضل الجهاد".
والجهاد إذا وجب ينبغي فيه الثبات وعدم الفرار" يا أيها الذين امنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار، ومن يولهميومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنموبئس المصير. فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبليالمؤمنين منه بلاءً حسناً إن الله سميع عليم. ذلكم وان الله موهن كيد الكافرين .إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وغن تنتهوا فهو خير لكم وانتعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئاً ولو كثرت وان الله مع المؤمنين" فقد نزلت هذه الآيات في نصح المؤمنين للثبات يوم بدر يوم الفرقان بين الحق والباطل يوم التقي الجمعان ورغم نزول الآيات بخصوص هذا اليوم إلا أنها عامة فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يقول علماء التفسير . فيكون الثبات سبب للنصر . وللنصر عوامل أخري : منها:1ـ الإيمان بالله ظاهرا وباطنا وصدق الله " وكان حقا علينا نصر المؤمنين ".2ـ والصبر "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران : 200]. 3ـ والإخلاص لله" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ "[محمد : 7]. 4ـ والإعداد المادي "وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ [الأنفال : 60]. 5ـ والائتلاف وعدم الاختلاف " وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال : 46] . 6ـ والإقدام وعدم الإحجام "َقالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [المائدة : 23] . 7ـ والتوكل علي الله والمشورة "وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال : 46] .
أما التولي يوم الزحف فهو خنوع ووهن وسبب من أسباب الهزيمة وقد ذكر العلماء أنه علي ثلاث حالات : يكون حراما : عندما يكون الفريقان متكافئان نظريا فيحرم التولي لأنه يحدث خللا في قوة المسلمين فيؤدي للهزيمة . وهذا هو النوع المقصود في حديث النبي والذي عده من الموبقات وفي ذلك وعيد شديد من رب العالمين قال فيه " فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير "فمن فر فقد رجع بغضب من الله . ليس هذا فحسب بل ومأواه جهنم وبئس المصير نعم . و بئس المصير واسمع لربك "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً [النساء : 56] . وروي الإمام الطبراني عن ثوبان مرفوعا عن النبي صلي الله عليه وسلم " ثلاثة لا ينفع معهن عمل الشرك بالله وعقوق الوالدين والفرار من الزحف» . ويكون مباحا : لأحد سببين أو كليهما وذلك في قوله تعالي " إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلي فئة "فلا يجوز التولي يوم الزحف إلا بهذين الوضعين " متحرفا لقتال "أي يوهم العدو أنه يفر ثم يكر عليه وهذا مطلوب في الحرب فالحرب خدعة ومطلوب فيها المكر والحيل . أو متحيزا إلي فئة تعني أنه رأي ثغرا قد انفتح أمام الكفار فيفر من مكانه مسرعا إلي ذلك الثغر ليسده فهو ينتقل من مكان إلي مكان من أجل المصلحة" يا أيها الذين امنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار ومن يولهميومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة " ففي هاتين الحالتين يكون التولي حلالا . وأما الحالة الثالثة : فتكون عندما يكون الفريقان غير متكافئين يري بعض العلماء أن الفرار هنا حرام فلا يفر المجاهد مهما كانت النتيجة وذلك تفعيلا لقول الله "يائيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار " والبعض يري جواز الفرار مستدلين بقوله تعالي((وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَىالتَّهْلُكَةِ)) وبما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا في سرية من سرايا رسول الله صلىالله عليه وسلم فحاص الناس حيصة، وكنت فيمن حاص فقلنا كيف نصنع وقد فررنا من الزحفوبؤنا بالغضب؟ ثم قلنا لو دخلنا المدينة فبتنا ثم قلنا لو عرضنا أنفسنا على رسولالله صلى الله عليه وسلم، فان كانت لنا توبة وإلا ذهبنا!! فأتينا رسول الله صلىالله عليه وسلم قبل صلاة الغداة فخرج إلينا فقال من القوم؟! فقلنا نحن الفارون أوالفرارون فقال:لا، بل انتم الكارون أنا فئتكم، وأنا فئة المسلمين، قال: فأتيناه حتى قبلنا يده صلي الله عليه وسلم . وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله عن التولي يوم الزحف ؟ فقال لا يفر الرجل من رجلين لكن من ثلاثة فلا بأس . فلا يجوز الفرار من مثليهم قال تعالي " أن يكن منكم مائة يغلبوا مائتين" .
الثانية:
بعض الناس يعد من قتل هلكة وهذا خطأ لأن المجاهد الذي يخرج من أجل الله إن مات مات شهيدا وإن عاد عاد بخير وغنيمة وصدق الله " قل هل تربصون بنا إلا إحدي الحسنيين "والحسنيان هما النصر أو الشهادة ففي النصرة عزة الإسلام والمسلمين ورفع راية الإسلام عالية خفاقة وفي الشهادة منزلة من منازل الجنة " َلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ"[آل عمران : 169]. وصح عن النبي (من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق) ، فالجهاد لا يخطر على باله، وقد لا تتاح له الشهادة التي يتمناها فهذا خالد بن الوليد قال : شهدت مائة معركة في الجاهلية والإسلام وما في بدني إلا رمية بسهم أو طعنة برمح وأخيراً أموت على فراشي كما يموت العبيد فلا نامت أعين الجبناء . ويصح في ذلك ما روي الإمام مسلم رحمه الله (من سأل الله الشهادة بصدق، بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه). فيستطيع أن يأخذ بنيته أجر الشهادة وأجر الجهاد . وهذا كله مشروط بإخلاص النية لله روي الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم ط إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة، رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمه، فعرفها،قال‏:‏ فماذا عملت فيها‏؟‏ قال‏:‏ قاتلت فيك حتى استشهدت، قال‏:‏ كذبت، ولكنك قاتلتليقال‏:‏ جرئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلمالعلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال‏:‏ فما عملت فيها‏؟‏قال‏:‏ تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال‏:‏ كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقالعالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي فيالنار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه، فعرفها،قال‏:‏ فما عملت فيها قال‏:‏ ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك،قال‏:‏ كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقيفي النار‏.‏