ليس الإيمان في الإسلام مجرد قول وادعاء، بل لا بد من أن يكون مقروناً بالعمل، وإلا بقى مجرد دعوى بلا دليل، وقولاً بلا برهان، وفي هذا يقول سبحانه: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم} (آل عمران:31).



وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي أنزلت لأجله هذه الآية. فذكر المفسرون أقوالاً أربعة:



الأول: ما أخرجه الطبري، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الحسن من طرق؛ قال: قال أقوام على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والله يا محمد! إنا لنحب ربنا، فأنزل الله: {قل إن كنتم تحبون الله} الآية. وأخرج أيضاً الطبري، وابن المنذر، عن ابن جريج، نحوه. وهذه الرواية لا تعيِّن القوم الذين نزلت في حقهم الآية، بل جاءت مطلقة، (أقوام) هكذا.



الثاني: روى الطبري وابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير، قال: نزلت في نصارى نجران، وذلك أنهم قالوا: إنما نعظم المسيح، ونعبده حباً لله، وتعظيماً له، فأنزل الله تعالى هذه الآية رداً عليهم. وهذه الرواية تنص على أن القوم الذين نزلت في حقهم الآية، هم نصارى نجران، وقد وفدوا على النبي -صلى الله عليه وسلم-، يسألونه مسائل بشأن عيسى عليه السلام، وكان من أمرهم أنهم ادعوا محبة الله...فأنزل الله فيهم هذه الآية؛ امتحاناً لقولهم، وتبياناً لأمرهم.



الثالث: روى الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - على قريش، وهم في المسجد الحرام، وقد نصبوا أصنامهم، وعلقوا عليها بيض النعام، وجعلوا في آذانها الشنوف -جمع شنف، وهو القِرْط-، وهم يسجدون لها، فقال: يا معشر قريش! لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل، ولقد كانا على الإسلام، فقالت قريش: يا محمد! إنما نعبد هذه حباً لله؛ ليقربونا إلى الله زلفى، فأنزل الله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله} وتعبدون الأصنام؛ لتقربكم إليه {فاتبعوني يحببكم الله}، فأنا رسوله إليكم، وحجته عليكم، وأنا أولى بالتعظيم من أصنامكم. وهذه الرواية تفيد أن الآية نزلت في قريش قوم النبي -صلى الله عليه وسلم-.



الرابع: روى الواحدي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن اليهود لما قالوا: {نحن أبناء الله وأحباؤه} (المائدة:18)، أنزل الله تعالى هذه الآية، فلما نزلت، عرضها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على اليهود، فأبوا أن يقبلوها. وهذه الرواية تفيد أن الآية نزلت في شأن اليهود.



وبعيداً عن سند هذه الروايات، فالمتأمل في مضمونها يجد ألا تعارض بينها، إلا من جهة تحديد القوم الذين نزلت في حقهم، والذي يمكن قوله هنا: إن الرواية التي تذكر أن الآية نزلت في قريش لا يمكن التعويل عليها؛ لأن السورة مدنية، وهذا يضعف القول: إن الآية نزلت في مكة. ثم هي ضعيفة من جهة السند، وقد قال الطبري في هذا الصدد: "وأما ما روى الحسن -وهو ما جاء في الرواية الأولى-، فلا خبر به عندنا يصح...فإذ لم يكن بذلك خبر على ما قلنا، ولا في الآية دليل على ما وصفنا، فأولى الأمور بنا أن نلحق تأويله بالذي عليه الدلالة من آي السورة؛ لأن ما قبل هذه الآية من مبتدأ هذه السورة وما بعدها خبر عنهم، واحتجاج من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ودليل على بطلان قولهم في المسيح. فالواجب أن تكون هي أيضاً مصروفة المعنى إلى نحو ما قبلها ومعنى ما بعدها".



المعول عليه في هذه الروايات الرواية الثانية، وهي تفيد أن الآية نزلت في المدينة؛ لأن وفد نجران جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في المدينة، ويرجح هذه الرواية أن سياق الآيات السابقة لهذه الآية كان حديثاً عن هذا الوفد، وهذه الرواية اختارها الطبري سبباً لنزول هذه الآية، حيث قال رحمه الله: "والأولى بتأويل الآية، قول محمد بن جعفر بن الزبير؛ لأنه لم يجر لغير وفد نجران في هذه السورة، ولا قبل هذه الآية، ذكر قوم ادعوا أنهم يحبون الله، ولا أنهم يعظمونه، فيكون قوله: {إن كنتم تحبون الله فاتبعوني} جواباً لقولهم، على ما قاله الحسن". وهذه الرواية أيضاً مال إليها القرطبي كسبب لنزول هذه الآية.



والآية خطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقول للوفد من نصارى نجران: إن كنتم كما تزعمون أنكم تحبون الله، وأنكم تعظمون المسيح، وتقولون فيه ما تقولون، حباً منكم ربكم، فحققوا قولكم الذي تقولونه، إن كنتم صادقين، باتباعكم إياي، فإنكم تعلمون أني رسول الله إليكم، كما كان عيسى رسولاً إلى من أرسل إليه، فإنه إن اتبعتموني، وصدقتموني على ما أتيتكم به من عند الله يغفر لكم ذنوبكم، فيصفح لكم عن العقوبة عليها، ويعفو لكم عما مضى منها، فإنه غفور لذنوب عباده المؤمنين، رحيم بهم وبغيرهم من خلقه.



والآية واضحة الدلالة على أن الإيمان لا بد أن يكون مقروناً بالعمل، وأن مجرد دعوى الإيمان من غير عمل لا تساوي في ميزان الله شيئاً، وأن العمل بما أمر الله به ورسوله هو عنوان صدق محبة الله وصدق محبة رسوله، وأن دعوى المحبة من غير العمل، لا قيمة لها عند الله.



وقد قال ابن كثير: هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي في جميع أقواله وأحواله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ)، متفق عليه.



وقال بعض الحكماء العلماء: ليس الشأن أن تُحِبَّ، إنما الشأن أن تُحَبَّ، والمحبة لا تحصل إلا بالعمل الصالح. وقال بعض السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله، فابتلاهم الله بهذه الآية، فقال: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}. وقال سهل بن عبد الله: علامة حب الله حب القرآن، وعلامة حب القرآن حب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعلامة حب النبي -صلى الله عليه وسلم- حب السُّنَّة، وعلامة حب الله وحب القرآن وحب النبي وحب السنة حب الآخرة، وعلامة حب الآخرة أن يحب نفسه، وعلامة حب نفسه أن يبغض الدنيا، وعلامة بغض الدنيا ألا يأخذ منها إلا الزاد والبُلغة.



ومن آثار المحبة طلب القرب من المحبوب، والاتصالِ به، واجتناب فراقه. ومن آثارها محبة ما يسره ويرضيه، واجتناب ما يغضبه، فتعليق لزوم اتباع الرسول على محبة الله تعالى؛ لأن الرسول دعا إلى ما يأمر الله به، وإلى إفراد الوجهة إليه، وذلك كمال المحبة.



أخيراً، فإن من كان محباً لله تعالى لا بد وأن يكون في غاية الحذر مما يوجب سخطه، وإذا قامت الدلالة القاطعة على نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- وجبت متابعته، فإن لم تحصل هذه المتابعة، دلَّ ذلك على أن تلك المحبة ما حصلت. والحب المزعوم إذا لم يكن معه اتباع الرسول فهو حب كاذب؛ لأن المحب لمن يحب مطيع؛ ولأن ارتكاب ما يكرهه المحبوب إغاظة له، وتلبس بعدوه.