القصة نسيج لحدث يحكي عبرة، ويوصل فكرة وقد حث القرآن عليه قال تعالى ( فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(الأعراف:176) وأحسن القصص ما قصه القرآن في كتابه قال تعالى( نحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ) (يوسف:3) فقصص القرآن حق لا يعتريه الزيغ ولا الكذب قال تعالى (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) (آل عمران:62) ولقد قص علينا القرآن حكاية أمم غابرة يذكرنا بحالهم ومآلهم قال تعالى ( كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) (طـه:99) فذكرنا بأحوال قرى آمنت وأخرى عتت عن أمر ربها قال تعالى (تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا )(الأعراف:

من الآية101) وأردف القرآن بقصص للأنبياء لا غنى للذاكرة عنها فذكرها وأعرض عن أخرى قال تعالى( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) وقصص الأنبياء في القرآن عبر وحكم يستنير بها الضال ويسترشد بها الحائر قال تعالى ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف:111) فشأن القصة تثبيت الأفئدة وعظة من حكم الزمان مع الإنسان قال تعالى (وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (هود:120) وسوف نعيش في رحاب القرآن نسترشد بقصصه ونتعظ بعبره ونستفيد من أحكامه فننال من الله تعالى السداد والقبول.

لما كثر الظلم في بني إسرائيل وكهنتهم من بعد موسى إلى عهد زكريا عليهما السلام، استفحل طغيان الماديات على عقولهم في جميع جوانب حياتهم، بما في ذلك القضايا الإيمانية، يقول عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه: (إنَّ بني إسرائيل لَمَّا طال عليهم الأمد، وقست قلوبهم، اخترعوا كتابا من عند أنفسهم، استَهوته قلوبُهم واستحلته ألسنتُهم واستلذَّته، وكان الحقُّ يَحول بينهم وبين كثير من شهواتهم، حتَّى نبذوا كتابَ الله وراءَ ظهورهم كأنَّهم لا يعلمون..

فقالوا: تعالَوا نَدعُ بني إسرائيل إلى كتابنا هذا، فمَن تابَعنا عليه تركناه، ومَن كره أن يتابعنا قتلناه. ففعلوا ذلك)، وقال الله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) (البقرة:87) ، وسوف اتناول عرض القصة بالبيان والتحليل.

نسب عيسى عليه السلام

ولد عيسى عليه السلام من غير أب، فهو عبد لله ورسوله، وكلمته، ألقاها الى مريم وروح منه، وامه مريم بنت عمران بن ماثان من ولد سليمان بن داوود عليهما السلام، وذكر اسمه في القرآن بلفظ المسيح تارة وهو لقب له، وبلفظ عيسى وهو اسمه العلمي، وبالعبرية يوشع الذي يعني المخلِّص، إشارةً إلى انه سبب لتخليص الكثيرين من آثامهم وضلالهم، وبكنيته ابن مريم تارة أخرى.

بداية القصة

كان عمران أبو مريم رجلاً عظيماً بين العلماء في بني إسرائيل، وعندما حملت زوجه، نذرت بتحرير مولودها لخدمة بيت الله، ولما وضعت، تبين لها ان الجنين انثى، بينما كانت ترجو ان يكون ذكراً، فتوجهت الى الله تعالى كالمعتذرة أو الآسفة، (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (آل عمران:36)) وتقبل الله ذلك النذر منها.

وحين وضعت امرأةُ عمران مريم، لفتها في خرقة، وخرجت بها إلى بيت الله، تنفيذاً لنذرها، فتنازعوا على كفالتها التي أرادها زكريا، على اعتبار ان زوجته خالتها، لكن القوم رفضوا، واشترطوا أن يقترع معهم، فاقترع وظهر قلمه، -أي سهمه- وفعلوا ذلك ثلاثا، فكان القلم نفسه هو الظاهر، فكفلها زكريا.

بدأت مريم تترعرع في كنف الله، وفي رعاية نبي الله زكريا، وكانت تتعبد الله تعالى، وتتعلم الانجيل وتحفظه، وفي اثناء ذلك، كان سيدنا زكريا يرقب عليها احوالاً غريبة، وكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، فيسألها قائلاً: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران:37)..

وكان ذلك تهيئة لها لما ستحمله من وليد يخالف العادات والتقاليد، وتنبيها إلى قدرة الله الغالبة، لا سيما وان سيدنا زكريا قد بلغ من العمر عتيا، ولم يُرزق الولد، فبعد هذا التنبيه توجه إلى ربه قائلاً: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) (آل عمران:38)، ولمكانتها اصبح للملائكة وجود من حيث الرعاية والحث على العبادة، تمهيدا للاصطفاء الذي تُعد له، ومقدمات لما هو آتٍ من معجزة المولود الذي ستقدمه للبشرية.

البشارة بمولد عيسى

نشأت مريم نشأة طهر وعفاف، مكلوءة بعناية وحراسة الله، ولما بلغت مبلغ النساء، وكانت في الثالثة عشرة من العمر، كانت تأوي وحيدة الى خلوة للعبادة، ولم تُرع الا بالملك جبريل الذي ارسله الله اليها، وجاءها على صورة فتى، فأخذها الرعب، وظنته يريد بها سوءً، واستعاذت منه، ووصفته بعدم التقوى، فأخبرها انه مرسل من الله تعالى ليهب لها غلاماً زكياً، حينها استعجبت من أمرها، لأنه لم يلمسها احد من الناس فكيف ستلد؟ حينها هوّن جبريل عليها الأمر، وأحال ذلك الى قدرة الله، ونفخ في جيب درعها -جيب قميصها-، فوصلت النفخة إلى رحمها فإذا هي حامل.

سر ولادة المسيح

الله تعالى هو خالق الأسباب ومقدرها، وقادر على خرقها، وتغييرها ليلفت الناس اليه، ولما ارادت امرأة عمران ذكراً، لعله يكون النبي المرتقب، وهبها انثى، وكان منها ذلك النبي العظيم الذي ابعد الله ولادته عن المعتاد بين الناس، فجعله بلا أب، شأنه شأن ادم، قال تعالى (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران:59)..

وكل ذلك من اجل ان يرد البشرية الى قدرته سبحانه وتعالى اذا طغى تعلقهم بالماديات، ومع أن نواميس الكون في الولادة تخضع لقانون الزوجية، إلا أن هذه السنن تحكم المخلوقين لا تحكم الخالق، فكانت ولادة عيسى اعجازاً وخرقاً للعادة قال تعالى: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) (المؤمنون:50) فكان الحمل، ومرت الأيام.. وجنينها يكبر في بطنها، وما كانت تحس شيئاً من المعاناة، فحملها نعمة طيبة. وروي عن مجاهد انه قال: قالت مريم كنت إذا خلوت حدثني وكلمني، وإذا كنت بين الناس سبّح في بطني، حتى جاء الشهر التاسع).

لحظة الولادة

خرجت مريم بعيداً عن اعين الناس، حتى الجأها الطلق الى جذع نخلة في بيت لحم، قرب القدس في فلسطين، حينها تمنت الموت، لأنها عرفت أن الناس يتهمونها ولا يصدقونها، فأنساها كرب الولادة، وما ستسمعه من الناس ما كان من كلام الملائكة من البشارة بعيسى عليه السلام، وما كان من كلام ولدها عيسى لها،{فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا}، قيل إن جبريل، وقيل إن عيسى عليه هو من قال لها:{أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً}. وهو نهر جارِ.

سمعت مريم ابنها الوليد يطلب منها أن تكف عن حزنها، وأن تهز جذع النخلة لتنال بعض ثمارها، وتأكل، وتشرب، ولا تفكر في شيء، وتترك الباقي لله تعالى، ولم تكد تلمس الجذع حتى تساقطت عليها الرطب، فأكلت وشربت ولفت الطفل في ملابسها، وانشغل تفكيرها في شأنه، وأخذت تتساءل في نفسها: كيف سيستقبله اليهود؟ ماذا سيقولون فيه؟

هل يصدق أحد من الكهنة أن الله هو الذي رزقها هذا الطفل؟ خصوصا ان ولادتها تصادفت مع موعد عودتها المتعارف عليه من الخلوة، فكان لا بد أن تعود إلى قومها، وكان من تفطن لذلك احد العباد الذي يدعى يوسف النجار، وهو خطيبها، وقريبها، فلما رأى غلاماً على كتفها وليس لها زوج، فعرَّض لها بلسان الأدب قائلاً: يا مريم هل يكون زرع من غير بذر؟ قالت: نعم، فمن خلق الزرع الأول.

ثم قال: فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم إن الله خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى. قال لها: فأخبريني خبَرَك. فقالت: إن الله بشرني {ان اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابن مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ، وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنْ الصَّالِحِينَ}.

لحظة المواجهة والمعجزة

لما ولدت مريم عيسى عليه السلام ذهب الشيطان، وأخبر بني إسرائيل أنها قد ولدت، فأقبلوا يشتدّون، ودعوها اليهم (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ). وتضمه لصدرها وتمشي به في جلال وبطء.. تساءل أحدهم: أليست هذه مريم العذراء؟ من هذا الغلام الذي تحمله؟

وبدأوا يسألونها: ابن من هذا يا مريم؟ لماذا لا تردين؟ هل هو ابنك؟ وكيف جاءك وأنت عذراء؟ .. الى آخره من الاتهامات التي بدأت تنهال عليها، وهي رافعة رأسها، واثقة بربها، تومض عينيها بالكبرياء والأمومة، ويشع من وجهها نور يفيض باليقين، ولما كثر الكلام وصُب عليها الاتهام، قالوا ما نقله القرآن عنهم: (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً) (مريم:28) فضاق بها الحال..

وامتنع لديها المقال، وأشارت الى عيسى، أن كلموه، فكانت المعجزة التي ادهشت بني اسرائيل، حينما نطق عليه السلام، و(قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا)- (33) مريم.

وما أن انتهى الوليد من كلامه حتى كانت وجوه الكهنة والأحبار شاحبة، وعلموا أن مجرد مجيء المسيح يعني إعادة الناس إلى عبادة الله وحده، وهذا معناه انتهاء الديانة اليهودية الحالية، فاتفقوا على إخفاء قصة ميلاده وكلامه في المهد، واتهموا مريم العذراء ببهتان عظيم، وهو البغاء، فرحلت بابنها عن اعين هؤلاء خوفاً عليه، وذهبت إلى مصر، وقيل فلسطين، والمهم أن الله حفظهما وهيأ لهما مكاناً صالحاً للعيش يستقرون فيه.