أبشر أخي، أبشري أختي!


تفاءل، بدِّد يأسك... لو لم يُرِد بك الخيرَ؛ ما بلَّغك هذا الشهر.
مات غيرُك قبل أن يُدركه، ولعله غادرنا قبل بدء الشهر بيوم أو يومين، وأنت الذي عشت!! أراد الله من إمداد عمرك أن يرفع قَدرك.


آفة أي عبادة هو اعتيادها، وعند الاعتياد يَتسلل المللُ إلى القلبِ، ومن وراء المللِ التذبذب والانقطاع، ولذا كان على أصحاب الذكاء والرشد الإيماني أن يَنظرا إلى هذا الضيفِ الكريمِ نظرةً جديدةً، تختلف من عام إلى عام؛ ليدوم موسم جَني الثمار، ويَبقى نبعُ الخير والفوائد فياضًا مستمرًّا، وكأنَّ رمضانَ جوهرةٌ ثمينةٌ سقطت عليها أشعة الإيمان لتعكس آلاف الأوان، فينقرض معها الملل ويعود نسيًا منسيًّا.
فلنجعل لرمضانَ هذا العام طعمًا آخرَ، ووظيفة جديدة، ودورًا غيرَ مسبوق.


وهذا الدور: أن يكونَ أعظم عون لك على التغيير. وذلك التغيير هو الذي يَقود إلى تغيير الأمة بأسرها. وتغيير نُفوسنا اليوم هو الأساس اللازم لدخول التغيير الإلهيِّ المُرتقب حيِّز التنفيذ، وهو ما نطقت به الآية: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد: 11]، لكن على قلوبِ الكثيرين منا أقفالها!!


رمضان فُرصة أغلى من الذهبِ لإحداثِ التغيير المنشود، وذلك لأسباب ثلاثة رئيسة:


-1 طول فترة التغيير:
فالصائم يَلتزم ثلاثين يومًا بالانقطاع عن الطعام والشراب والشهوة طواعيةً وبإرادتِه، ويتحكم في انفعالاته، فلا يَرُد على سباب وإهانة، بل يتترَّس بقوله: «إني امرؤ صائم»، وهي مدة طويلة كافية لإحداث التغيير المنشودِ إذا صدقت النوايا، وإذا كان علماء النفس يُشيرون إلى أن استمرارَ المرء على السلوك نفسِه من 6 إلى 21 مرة يَغرس الفعلَ في النفسِ ويُحوِّله إلى سلوكٍ، فإنَّ بركةَ الزمانِ اليومَ بتفتُّح أبوابِ الجنة وتغليق أبواب النار، وضعف العدو بتصفيد الشياطين؛ حتى لا تصل إلى ما كانت تصلُ إليه قبل رمضان، وعموم العفو ليشمل عُتقاءَ كلِّ ليلة، كلُّ هذا بمثابة عواملَ مساعدةٍ فعالة تجعل النتيجة أروع والتغيير أدوم.


نعم؛ يستمر مَوسم الانقلاب في رمضان 30 يومًا متصلة لتكونَ بمثابة المحافظة على جرعة دواء فعالة، وذلك يُؤدِّي إلى حدوث الشفاءِ والقضاء على أيِّ أثر للوباء، وهو لونٌ من ألوان التربية الربانية المباركة؛ فإن تطبيق الإنسان لعمل واحد يوميًّا - ولو كان يسيرًا - يَصنع الكثير، فكيف لو كانت حزمةَ أعمال؟! ورمضان من هذه الزاوية هو نوع من أنواع النظام الإلزاميِّ للشخص غير المنظم أو المنظم على السواء، يُدرك فيه ما لا يُدركه في غيرِه من أيام العام.


فكيف لا تَتغير اليوم؟! وليس فرصة أسهل منها اليوم، وإن لم يكن اليوم؛ فبالله متى؟!
إن المواظبةَ على العمل الصالح فترةً والانقطاعَ عنه فترةً تُضعف تأثيرَه على القلبِ، بخلاف المواظبة والاستمرار، ولذا كان من رحمة الله بنا أنْ فَرَضَ علينا الصيامَ شهرًا كاملًا لمنفعتِنا، وحرَّم علينا الإفطار بغير عُذر ولو ليوم واحد، فظاهر الأمر إلزامٌ، لكنَّ باطنَه فضلٌ وإنعامٌ، ولهذا لا تجدُ مسلمًا صامَ هذا الشهر بحقه إلا وقد تأثرَ قلبُه وسَرَتْ فيه نفحةٌ علويةٌ، ويَبقى استمرارُ التأثُّر مرتبطًا بالإنسان نفسه؛ هل يحمي رصيده الذي اكتسبه من غفلة طارئة أو نسيان دائم أو يقع فريسة لهما؟!


2- السباحة في اتجاه التيار:
كثيرًا ما تجد نفسك الصائم الوحيد في جيرتك أو محل عملك، أو الحافظَ لسانَه وحدَه وسط قوم يَنهشون أعراض الناس وهم يَتبسَّمون، أو شعارك الحياء بين قومٍ لا يَستحون، وبالمعصية يفتخرون، وتكون المقاومة عندها والثبات على المبدأ من علامات البطولة الفذَّة؟!
وهذا ما لا تَجده في رمضان، فأنت في شهر الصوم تصوم مع الجموع الغفيرة... تذهب إلى صلاة التراويح وسط أمواج المؤمنين الهادرة، وتشهد ختمات القرآن وسط ألوف من الطامعين في المغفرة. ولذا لا تَستوحشْ من قِلةِ السالكين، بل تتشجَّع، ويَقْوَى قلبُك، وتتحمس لفعل الخير وإن كنت في الأصل كسولاً فاترًا، وعملية التشجيع هذه لا تجدها في غير رمضان، فمتى تمتلئُ المساجد كمثل شهر الصيام؟
ومتى يتنافس الناس في قراءة القرآن كما يفعلون في شهر القرآن؟
ومتى تجود أياديهم ويعطفون على المحتاجين كما تفعل اليوم؟!
فأدرك نفسك أخي، ولا يفوتك أكبر المواسم وأربح أيام العام!!


-3 شمول التغيير:
العادات:
وتَشمل العادات السيئة التي أضرت بدينك، أو دنياك، أو بهما معًا، فحَرَمَتْك من خَيراتٍ كثيرةٍ وبركاتٍ وفيرةٍ.


العبادات:
وتشمل قسمين رئيسين: شعائر الله التي يتقرَّب بها العبدُ إلى ربِّه؛ مِن صلاةٍ، وصيامٍ، وصدقةٍ، وحجٍّ، أو المحرَّمات التي يَتقرَّب العبدُ إلى الله بهَجرها.


القلبيات:
وتشمل عبادات القلوب جليلة القدر، عظيمة الأجر؛ مِن خشيةٍ، ومراقبةٍ، ورضا، وصبر وغيرها.


العلاقات:
وتشمل علاقاتك بأهلك وجيرانك وأصحابك وأقرانك، ومَن تَعرف ومَن لا تعرف، بل والمسلم وغير المسلم.


القناعات:
وتشمل كل قناعة خاطئة، وفهم مدمِّر، وفكرة هدَّامة غزت العقول وصارت جزءًا من ثقافة الناس.


وبالتالي فهو تغيير عميق يَتجاوز القشرة إلى الثمرة، والمظهر إلى الجوهر، وبذلك يَتضح أننا إذا أردنا تغيير الواقع المرير؛ فلا بدَّ من عملٍ كبيرٍ وصبرٍ طويلٍ، لنخرج من النفقِ المظلمِ الذي دخلنا فيه منذ تنكبنا طريق الله، وكفانا شرفًا أن نَبدأ، ويَزيدنا شرفًا أننا بدأنا في أشرف الأوقات: رمضان، ولا يَضير أحدَنا تأخرٌ؛ فالفضل في النهاية لمن صدق وثبت، لا لمن سبق زمنًا ثم رقد.


أظلكم شهر مبارك... نزل فيه كتاب مُبارك... في ليلة مُباركة، والبركة هي الزيادة، وهذا واضح جليٌّ؛ ففي أي شهر آخر تستطيع أن تُغير كل هذه المجالات؟!