عندما نحاول فهم دوافع المنتحر، لابد وأن نضع في الإعتبار أن معظم المنتحرين مدفوعون بسيل من العواطف القوية لا بأفكار عقلية أو فلسفية، تزن المصالح والمساوئ في نقد وتقييم الذات. ولا أظن أن عالماً درس هذه المشاعر والحالة النفسية للمنتحر في مجال علم النفس أفضل من روي باوميستير في مقالته المنشورة عام ١٩٩٠ “الانتحار كهروب من الذات”. روي يعطينا تفاصيلا مميزة عن الحالة الذاتية التي تأسر الشخص المنتحر.

وفقا لروي، هنالك ست خطوات أساسية لنظرية الهروب من الذات، والتي قد تنتهي بالانتحار. معرفتنا بمشاعر المنتحر قد تساعدنا على متابعة ذواتنا ومن حولنا في حالة ظهور بعض أعراض الهروب من الذات، والذي قد يحمينا ويحمي من نحب. ولا ننسى أن كثيرا من المنتحرين ليسوا واعيين بحقيقة أنهم يتجهون بهذا الإتجاه، لا سيما في المظاهر الشعورية المبكرة. وإن حصل واكتملت المراحل بدون مقاومة ووعي بها، فقد يكون محاولة منع المنتحر من الخطوة الأخيرة أشبه بطلب التوقف عن الوصول للنشوة الجنسية ممن أوشك على ذلك (والذي يسمى أحيانا بالموت الصغير).
فلنبدأ بمحاولة فهم ذهن المنتحر كما تصوره روي على الأقل. وقد تكتشف أنك خطوت يوما ما في هذه الظلمة النفسية دون أن تشعر.


الخطوة الأولى: عدم بلوغ التوقعات

نجد أن معضم المنتحرين يعيشون حياة أفضل من المعدل العالمي، ومعدلات الإنتحار هي أعلى في الدول ذات المعايير المعيشية العالية منها في الدول ذات مستوى معيشي أقل. فهي أعلى في الولايات الأمريكية ذات الجودة المعيشية العالية، وأعلى في المجتمعات التي تحفظ حريات الأفراد، وأعلى في البيئات ذات الأجواء الأكثر راحة، وأعلى لدى الطلاب ذوي المعدلات العالية وذوي الأباء بآمال اكبر لأبنائهم.
روي يقول بأن هذه الحالات الأقرب للمثالية ترفع من خطر التفكير الإنتحاري لأنها بشكل واضح تصنع بشكل مبالغ فيه معايير سعادة الأفراد، وبالتالي تتركهم في حالة عاطفية هشة سريعة التكسر نتيجة للتغيرات المفاجئة. فعندما تسير الأمور بشكل خارج عن السيطرة ولو بشكل بسيط، مثل هؤلاء الأشخاص يظهرون ضعفا تجاه التأقلم مع التغيير وتخطيه. يقول روي: “ كثير من الأدلة تسير في اتجاه تلك النظرة التي تقول بأن الإنتحار عادة ما يكون مسبوقا بأحداث تخل بتوقعاتنا وآمالنا في الحياة، سواءا تلك الآمال والمعايير الناتجة عن إنجازاتنا الماضية، أو الظروف المساندة الجيدة، أو بضغط أسري أو اجتماعي” . مجرد كونك فقيرا لا يعد عامل خطورة للإنتحار، ولكن الانتقال المفاجئ بين حالة من الرغد النسبي إلى الفقر قد يوصل المرء للانتحار. ومثل ذلك، أن يكون الشخص أعزبا لفترات طويلة لا يجعله عرضة للإنتحار، ولكن أن ينتقل بين الزواج والوحدة بشكل مفاجئ أمر قد يعرضه لهذا الخطر. معظم حالات الإنتحار التي تحدث في السجون والمصحات العقلية تحدث في الشهر الأول، الفترة التي يحصل فيها التعود على فقد الحرية المفاجئ. معدلات الإنتحار تكون أقل ما تكون أيام الجمعة (بداية إجازة الأسبوع لدى أكثر الدول)، وأعلاها أيام الإثنين، وتنخفض في بداية الإجازات، وترتفع بحدة عند نهايتها. روي يفسر هذه الظواهر المتعلقة بالإجازات بأنها تتناسب مع أمال الناس وتوقعاتها (في بداية الاجازات)، وفي نفس الوقت كيف تتحول هذه الأمال إلى خيبات أمل مرة عند النهاية.
إذا الخطوة الأولى باختصار هي كما يقول روي “يظهر أن حجم عدم التوافق بين الآمال والواقع هو الذي يحدد بداية عملية الإنتحار ككل”. إنه أشبه بقانون الجاذبية ولكن في بعده الاجتماعي، كلما ارتفعت أكثر في البداية، كلما كان السقوط على وجهك مدويا ومؤلما.

الخطوة الثانية: لوم الذات

ليس السقوط وحده فقط ما سيجعلك معرضا للإنتحار، يبدو أن هنالك عاملا ضروريا آخر وهو أن تكره نفسك وتحتقرها بسبب تعرضك لهذا السقوط. مفهوم “لوم الذات” أو “تجريم الذات” يعتبر مكون أساسيا عند كثير من الثقافات في نظرتهم للإنتحار. تبنى روي هذا المفهوم ولكن بتعديل بسيط، وهو أنه ليس بالضرورة أن يعاني الشخص من انخفاض في احترام الذات لفترات طويلة، ولكن أن يظل مسكونا بفكرة الشيطنة لذاته، والتي أوقعته في هذه المشاكل وتسببت في هذا السقوط. الأشخاص ذوي إحترام الذات المنخفض هم أكثر الأشخاص نقدا لأنفسهم بكل تأكيد، ولكنهم كذلك بالنسبة للاخرين, فلا وجود للتفاوت بين ذاته والاخرين. ومن جهة أخرى، نجد أن المنتحر يُقَيم نفسه بشكل سيء جداً، بالاضافة إلى تصورات مغلوطة ومبالغة فيها يحملها عن من حوله بأنهم رائعون وناجحون. الشعور بتفاهة الذات، والخزي، والذنب، وعدم الكفاية، والفضيحة، والذل، والرفض يجعل الشخص المنتحر يكره نفسه بشكل يفصله عن الإنسانية المثالية التي يتصورها وبشكل قاطع. فيرى بأنه غير مرغوب فيه، وأن الخلل يكمن في جوهره، وأنه لا أمل في التغيير.
لذا نجد أن المراهقين والبالغين الذين ينتمون لميول جنسية معينة تجعلهم أقلية، والذين ينمون في رحم المجتمع محملين برسائل صريحة وغير صريحة بأنهم أقل إنسانية، يكونون أكثر عرضة للانتحار من غيرهم. على الرغم من أنهم بوعيهم قد يرفضون هذه القوالب التي أعدت مسبقاً من قبل مجتمع غير متسامح، ولكنها في النهاية قد تسربت بعض الشي إلى ذواتهم.


الخطوة الثالثة: الوعي العالي بالذات

يقول روي أن جوهر الوعي بالذات هو مقارنة ذواتنا بمعاييرنا. إذا هذه المقارنة التي لا تتوقف بين واقعنا و هذه الذات المثالية (والتي قد تغذى بشكل سلبي من قبل ماض لا يمكن استعادته، أو هدف يستحال حدوثه بسبب ظروف جديدة طرأت على الشخص) هي التي تغذي التفكير الانتحاري.
هذا اللون من التفكير عند المنتحر يمكن قياسه في الحقيقة، وبطريقة مباشرة عن طريق تحليل مذكرات المنتحر قبل انتحاره. يقول إيدوين شنايدمان عالم الانتحار أن طريقنا الأفضل لفهم الإنتحار ليس عن طريق فهمنا لبنية الدماغ، ولا بدراسة الإحصاءات الإجتماعية، ولا بدراسة العلل النفسية، ولكن بدراسة المشاعر الإنسانية مباشرة من كلمات المنتحر نفسه. في العقود القليلة الماضية تم نشر ما يقارب 300 دراسة عن ملاحظات المنتحرين.من أكثر الدراسات إثارة هي تلك التي استُخدمت فيها برامج تحليل النصوص، والتي تُمكن الباحثين من إحصاء عدد مرات تكرار كلمة أو نوع معين من الكلمات. عن طريق مقارنة المذكرات الانتحارية الحقيقية بمذكرات أخرى مزيفة، وُجد أن مذكرات المنتحر تحتوي على نسبة عالية جداً من الضمير “أنا” وإضافات أخرى تعكس وعي عالي بالذات. كما لوحظ أن المنتحر لا يُكثر من استخدام ضمائر الجماعة كـ”نحن”. وعندما يذكر المنتحر الأشخاص المهمين حوله، كأهله وأصدقائه، فإنه يصفهم وكأنهم بعيدون عنهم وغير متفهمين لهم، أو يعملون ضد مصالحهم.


الخطوة الرابعة: المشاعر السلبية

يبدو بديهيا أن الانتحار لابد وأن يسبقه حالة من المشاعر السلبية. ولكن روي يضيف إلى ذلك أنه لابد وأن تحصل هذه المشاعر بشكل حاد غير تدريجي. يقول روي “القول بأن الإكتئاب يسبب الإنتحار بدون تحديد أكثر وتفصيل هو أمر غير كافي، لأنه من الواضح أن معظم المكتئبين لا يحاولون الإنتحار، كما أنه ليس كل المنتحرين يعانون من اكتئاب مشخص”
القلق الذي قد يظهر على شكل من أشكال الشعور بالذنب، أو لوم الذات، أو الخوف من الإقصاء المجتمعي، مشترك في معظم حالات الانتحار. يبدو أننا النوع الوحيد على هذا الكوكب، الذي قد تؤثر فيه آراء مجتمعه السلبية عنه لدرجة تدفعه للانتحار المدفوع بالخزي والعار! يبدو أننا الوحيدون هنا الذين نأخذ نظرة الأخرين عنا بجدية لنحكم بها على أنفسنا، وهذا يعزى للابتكار التطوري المسمى بـ “نظرية العقل”. وهي باختصار وضع فرضيات وتوقعات لما يفكر به الاخرون عنا. هذا الجهاز الذهني لطالما كان نعمة ولعنة في نفس الوقت، نعمة حين يجعلنا نشعر بالفخر، ولعنة حين يشعرنا بالعار.
منظري الديناميكا النفسية عادة ما يقولون بأن الشعور بالذنب عند المنتحر يتجه نحو العقاب للذات، وبهذا فإن الانتحار يكون نوعا من أنواع التكفير عن الذنوب. ولكن روي يعارض بشكل كبير هذه النظرة، ويؤكد أن دافع الانتحار هو التخلص من الوعي وبالتالي من الألم النفسي الذي يصاحب المنتحر. ونظراً لعدم توفر العلاج الإدراكي (المعرفي) بسهولة، أو أن المنتحر قد لا يراه خياراً متاحاً من الأصل، فسيبقى النوم والأدوية والموت هي الخيارات المتاحة. ومن هذه الثلاثة، يبدو أن الموت هو أكثر هذه الخيارات نجاحا في نظر المنتحر.


الخطوة الخامسة: تفكك المعرفة والإدراك

هذه الخطوة تبدو الأكثر إثارة من ناحية نفسية، لأنها تُظهر مدى صعوبة اختراق ذهن المنتحر وفهمه وفق تفكيرنا اليومي الإعتيادي. تفكك الإدراك (مصطلح تم صياغته ابتداءا من قبل عالمي النفس الإجتماعي روبن فالاتشير و دانيال فاجنر) هو أن يبدو العالم الخارجي أسهل بكثير في أذهاننا ولكن بشكل غير محمود.كما يظهر من كلمة تفكك، تتفكك الأشياء في ذهن المنتحر إلى مكوناتها الأولية. منظور الزمن كمثال يتغير حتى تصبح اللحظة الحالية طويلة ومملة جدا، وذلك لأن ذهنه يرغب في الهروب من ماضي قريب مزعج، ومستقبل مقلق، فيهرب إلى المساحة الانية الضيقة والطويلة والخالية من المشاعر. يقول روي “ يبدو أن ذهن المنتحر يشبه إلى حد كبير ذهن الذي يشعر بالملل، الحاضر يبدو غير منتهي وغير ممتع، وكلما نظر إلى الساعة تفاجأ بأن العقارب لا تتحرك”.
تشير الأدلة أيضا بأن ذهن المنتحر لديه صعوبة في تصور المستقبل البعيد، وربما لهذا السبب لا يردعه الخوف من الجحيم والعذاب الأخروي بأي شكل من الأشكال. هذا الإختناق الزمني، يستخدم كطريقة من قبل ذهن المنتحر للهروب من فشل الماضي، والمستقبل الخالي من الأمل.



الخطوة السادسة: فقدان السيطرة

بعد أن تم تجهيز الذهن، يأتي دور الجسد. فقدان السيطرة على الذات، الذي يحتاجه المنتحر ليتغلب على الخوف من الألم، والخوف على مشاعر من سيؤذيهم برحيله، هو نتيجة لتفكك الوعي وبالتالي تفكك القيم المجردة العليا التي تمنعنا من الإنتحار، كالإثم وإيذاء من حولنا وغيرها.
أهمية هذه الخطوة تظهر عندما نرى نسبة من فشلوا في الانتحار. اكتساب القدرة على الانتحار تعني انخفاض مستوى الخوف من الموت، وزيادة تحمل الألم. لذلك تكون أقوى العوامل التي تتوقع بحدوث الانتحار هي محاولة انتحار فاشلة. ومن جانب اخر، تعرض الإنسان لتجارب مؤلمة ومخيفة من صغره كالعنف الأسري، أو الإعتداء الجنسي، قد تجعله مستعداً بشكل غير مباشر للسلوك الانتحاري. كما أن بعض الأمزجة المتوارثة مثل الانفعال العالي، وقلة الخوف، والقدرة العالية على تحمل الألم الجسدي، والتي تسري في كثير من العائلات قد تفسر لماذا يبدوا لنا الانتحار وكأنه سمة يمكن نقلها وراثياً.
هكذا يبدو ذهن المنتحر، ليس شيئاً ممتعاً على الإطلاق! ولكن إن مررت يوماً ما بأحد هذه التقلبات الذهنية، أو لاحظت أن أحداً ما حولك يشعر بها، فربما تكون هذه المعلومات ذات فائدة كبيرة، وقد تمكنك من اختراق الأفكار الذهنية وتفكيكها. فمعرفتك العلمية بأحوال ذهنك يغير كل شي، ويجعلك أقدر على فهمها ومن ثم التعامل معها بشكل أفضل.
وأخيرا تذكر دائما أنك ستموت قريباً في كل الأحوال، حتى لو بعد ١٠٠ عام من الآن، تظل المئة عام هذه مثل لمح البصر في نظر الكون. كن كالعالم، عش الحياة بأكملها، وكأنها تجربة كبيرة، بدمها وعرقها ودموعها. وتذكر أنه لا توجد تجربة فاشلة.