السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على المصطفى ، أما بعد



تعظيم الأماكن التي لا تستحق التعظيم
ومن البدع أيضاً: ما قد عم الابتلاء به تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد بالزعفران المجبول بماء الورد، وإسراج مواضع مخصوصة في كل بلد بما ليس عليهم، فيفعلون ذلك، ويظنون أنهم متقربون بذلك؛ ثم يتجاوزون في ذلك إلى تعظيم تلك الأماكن في قلوبهم؛ فيعظمونها، ويرجون الشفاء، وقضاء الحوائج بالنذر لها، وتلك الأماكن من بين عيون وشجر وحائط وطاقة وعامود وما أشبه ذلك بذات أنواط الواردة في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه، عن أبي واقد الليثي.
قال: خرجنا مع رسول الله ( إلى حنين، وكانت لقريش شجرة خضراء عظيمة، يأتونها كل سنة، فيعلقون عليها أسلحتهم، ويعلفون عندها، ويذبحون لها. وفي رواية أخرى: خرجنا مع رسول الله ( قبل حنين، ونحن حديثو عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عليها، وينيطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا " ذات أنواط " كما لهم " ذات أنواط " فقال رسول الله) : " سبحان الله الله أكبر!! " كما قال قوم موسى لموسى: (اجعل لنا إلهاً كما لهم الهة) قال: " والذي نفسي بيده لتركبنّ سنة من كان قبلكم " فأنكر النبي ( مجرد مشابهتهم للكفار.
قال الإمام أبو بكر الطرطوشي: فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سِدرةً، أو شجرة، أو عاموداً، أو حائطاً، أو طاقة، أو حجراً؛ يقصدها الناس، ويعظمون من شأنها، ويرجون عندها البُرء والشفاء من قبلها، وينوطون بها الخِرَق، ويوقدون عندها شمعاً، أو سراجاً، أو ينذرون بها زيتاً، أو غيره، فهي ذات أنواط. فاقطعوها، واقلعوها، وقوله " ينوطون " أي يعقلون وهذا أمر منكر قبيح؛ فإن هذا يشبه عبادة الأوثان وهو ذريعة إليها، ونوع من عبادة الأوثان؛ إذ عبدة الأوثان كانوا يقصدون بقعة بعينها لتمثال هناك أو غير تمثال يرجون الخير بقصدها. ولم تستحب الشريعة ذلك، فهو من المنكرات، وبعضه أشد من بعض. وسواء قصدها ليصلي عندها، أو ليدعوا أو ليقرأ، أو ليذكر الله، أو ليذبح عندها ذبيحة، أو يخصها بنوع من العبادات.



بدع النذور
وأقبح من ذلك أن ينذر لتلك البقعة دهناً لتنويرها أو شمعاً، ويقول: إنها تقبل النذر، كما يقول بعض الضالين، أو ينذر ذلك لقبر، أي قبر كان، فإن هذا نذر معصية باتفاق العلماء، لا يجوز الوفاء به، بل عليه كفارة يمين عند كثير من العلماء، منهم أحمد وغيره، وكذلك إذا نذر خبزاً وغيره للحيتان أو لعين أو لبئر، وكذلك إذا نذر مالاً ما: دراهم، أو ذهباً، أو بقراً، أو جملاً، أو معزاً للمجاورين عند القبور، أو عند هذه الأماكن المنذور لها، ويسمون السدنة فهذا أيضاً نذر معصية، وفيه شبه من النذر لسدنة الأصنام.



قبور وهمية
فمن هذه الأماكن ما يظن أنه قبر نبي أو رجل صالح، أو يظن أنه مقام، وليس كذلك، فمن هذه الأماكن: عدة أماكن بدمشق، مثل ما يزعمون عن قبر أبي بن كعب أنه خارج باب الشرقي، ولا يعرف بين أهل العلم أن أبي بن كعب إنما توفي بالمدينة ولم يمت بدمشق، والله أعلم قبر من هو. وكذلك مكان بالحائط القبلي بالجامع، ويقولون: إنه قبر هود عليه السلام. فلن يذكر أحد من أهل العلم أن هوداً عليه الصلاة والسلام مات بدمشق، بل قيل: إنه مات باليمن، وقيل: بمكة، وكذلك قبر بباب حبرون، يقال: إنه قبر بعض أهل البيت، وليس بصحيح، بل هذا باب قديم قيل: بناه سليمان عليه السلام، وقيل ذو القرنين، وقيل غير ذلك. وإنما ذكر لهم بعضهم من لا يوثق به في شهور سنة ست وثلاثين وستمائة أنه رأى مناماً يقتضي أن ذلك المكان دفن فيه بعض أهل البيت، قال الشيخ شهاب الدين أبو محمد عبد الرحمن المعروف بأبي شامة الشافعي رحمه الله: وقد أخبرني عنه ثقة أنه اعترف أنه افتعل ذلك، فقطعوا طريق المارة، وجعلوا الباب بكماله مسجداً مغصوباً.
وقد كان الطريق يضيق بسالكيه، فضاعف الله نكال من تسبب بذلك في بنائه، واجزل ثواب من أعان على هدمه اتباعاً لسنة رسول الله ( في هدم مسجد الضرار المرصد لأعدائه من الكفار. فلم ينظر الشرع إلى كونه مسجداً، وهدمه لما قصد به من السوء والضرار.
وكذلك مسجد خارج باب الجابية، يقال له: مسجد أويس القرني، ولم يذكر أحد أن أويساً مات بدمشق، ومن ذلك قبر باب الصغير، يقال: إنه قبر أم سلمة زوجة النبي (. ولا خلاف أن أم سلمة رضي الله عنها ماتت بالمدينة. ومن ذلك مشهد بقاهرة مصر يقال: إن فيه رأس الحسين رضي الله عنه، وأصله أنه كان له بعسقلان مشهد، يقال باتفاق العلماء - لم يخالف أحد منهم: إن رأس الحسين كان بعسقلان، بل فيه أقوال ليس هذا مكانها.
وكذلك مقابر كثيرة لأسماء رجال معروفين، وقد علم أنها ليست مقابرهم، فهذه المواضع ليست فيها فضيلة أصلاً.



أوهام وأباطيل
ومن ذلك مواضع يقال إن فيها أثر النبي ( أو غيره، كما يقوله الجهلة في الصخرة التي ببيت المقدس إن فيها أثراً من وطء النبي (. وفي مسجد قبل دمشق يسمى القدم يقال: إن فيه أثر قدم موسى (. وهذا باطل لا أصل له، ولم يقدم موسى ( دمشق، ولا ما حولها، وكذلك مساجد تضاف إلى بعض الأنبياء والصالحين تم بناؤها على أنه رؤى في المنام هناك، ورؤية النبي ( أو الرجل الصالح في المنام ببقعة لا يوجب لها فضيلة، تقصد لأجلها وتتخذ مصلى مكروه، وإنما يفعل ذلك وأمثاله أهل الكتاب. وهذه الأمكنة كثيرة موجودة في أكثر البلاد، فهذه البقاع لا يعتقد لها خصيصة كائنة ما كانت، فإن تعظيم مكان لم يعظمه الله شر مكان، وهذه المشاهد الباطلة إنما وضعت مضاهاة لبيوت الله، وتعظيماً لما لم يعظمه الله، وعكوفاً على أشياء لم تنفع ولم تضر، وصداً للخلق عن سبيل الله، وهي عبادته وحده لا شريك له بما شرعه على لسان رسول الله ( واتخاذها عيداً هو الاجتماع عندها، واعتياد قصدها، فإن العيد من المعاودة. وقد يحكى عندها من الحكايات التي فيها تأثير مثل أن رجلاً دعا عندها فاستجيب، أو نذر لها فقضيت حاجته، أو نحن ذلك. وبمثل هذه الأمور كانت تعبد الأصنام، وبمثل هذه الشبهات حدث الشرك في الأرض.



كراهية النذر
وقد صح عن النبي ( أنه نهى عن النذر، وقال: " إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل " فإذا كان نذر الطاعات المعلقة بشرط لا فائدة فيه، ولا يأتي بخير، فما الظن بالنذر لما لا يضر ولا ينفع.
دفع شبهة
وأما إجابة الدعاء هناك فقد يكون سببه اضطرار الداعي، وقد يكون سببه مجرد رحمة الله له، وقد يكون سببه أمراً قضاه الله عز وجل لا لأجل دعائه، وقد يكون له أسباب أخرى. وإن كانت فتنة في حق الداعي، وقد كان الكفار يدعون، فيستجاب لهم، فيُسقون ويُنصرون ويُعافون مع دعائهم عند أوثانهم وتوسلهم بها. وقد قال تعالى: (كَّلاّ نُمْدُّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً).
وأسباب المقدورات فيها أمور يطول تعدادها، وإنما على الخلق اتباع ما بعث الله به المرسلين، والعلم بأن فيه خير الدنيا والآخرة.



النهي عن الصلاة في القبور واتخاذها عيداً
ومن هذه الأمكنة ما له خصيصة لكن لا تقتضي اتخاذها عيداً، ولا الصلاة عندها، ونحوها من العبادات كالدعاء عندها. فمن هذه الأمكنة قبور الأنبياء والصالحين. وقد جاء عن رسول الله ( أنه قال: " لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم " .
وعن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي ( فيدخل فيها ويدعو، فقال: ألا أحدثك حديثاً، عن أبي، عن جدي، عن رسول الله ( أنه قال: " لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً وصلوا عليّ؛ فإن صلاتكم عليّ تبلغني حيث كنتم " أخرجه الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقري فيما اختاره من الأحاديث الجياد الزائدة على الصحيحين، وشرطه فيه أحسن من شرط الحاكم في صحيحه، وروى سعيد في سنته عن أبي سعيد مولى المهدي قال: قال رسول الله) : " لا تتخذوا بيتي عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا عليّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني " .
وروي أيضاً عن سهل بن أبي سهيل، قال: رآني الحسين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند القبر، فناداني وهو في مبيت فاطمة يتعشى، فقال: هلمَّ إلى العشاء، فقلت سلمت على النبي (، فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن رسول الله ( قال: " لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر؛ لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا عليّ - فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم " .
وجه الدلالة: أن قبر رسول الله ( أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى ( عن اتخاذه عيداً من المعاودة إليه، فقبر غيره أولى بالنهي كائناً من كان، ثم إنه قرن ذلك بقوله: " ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً " ، أي لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، عكس ما يفعله المشركون من النصارى في التشبيه بهم.
ثم أنه ( عقب النهي عن اتخاذه عيداً بقوله: " وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم " ، يشير بذلك ( إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يصل مع قربكم من قبري وبعدكم منه، فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيداً، ثم إن أفضل التابعين من أهل البيت علي بن الحسين نهى عن ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره (، وبين أن قصده للدعاء ونحوه، اتخاذه عيداً، وكذلك ابن عمه الحسين بن الحسين شيخ أهل بيته كره أن يقصد قبره الرجل للسلام عليه ونحوه، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيداً.
فانظر هذه السنة، كيف يخرجها أهل بيته، الذين لهم من رسول الله ( قرب النسب وقرب الدار؛ لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم، فكانوا له أضبط.



آداب زيارة القبور
والذي يستحب للرجل الزائر للقبور أن يتذكر بزيارته الآخرة، وأن يسلم عليهم، ويدعو لهم بالمأثور من الدعاء الذي كان يعلم النبي ( أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا قبالتهم: " السلام عليكم أهل الديار، من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، فنسأل الله لنا ولكم العافية أنتم لنا سلف ونحن بالأثر " . وإن قرأ شيئاً من القرآن وأهداه إليهم فهو حسن.
وما سوى ذلك من المحدثات، كالصلاة عندها، واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها؛ فقد تواترت النصوص عن النبي ( بالنهي عن ذلك، والتغليظ على فاعله.



النهي عن بناء المساجد على القبور
فأما بناء المساجد عليها، وإشعال القناديل والشموع أو السُّرج عندها، فقد لعن فاعله، كما جاء عن النبي (، قال: " لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج " . حديث حسن، وقد تقدم. وصرح عامة علماء الطوائف بالنهي عن ذلك متابعة للأحاديث الواردة في النهي عن ذلك. ولا ريب في القطع بتحريمه لما بينت في صحيح مسلم عن جندب ابن عبد الله البجلي رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله ( قبل أن يموت بخمس يقول: " إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد. إني أنهاكم عن ذلك " .
وفي الصحيحين عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما نزل رسول الله ( طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: " لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر ما صنعوا.
وفي الصحيحين أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله (، قال: " قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " .
وقالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله ( في مرضه الذي مات فيه: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " قالت: ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً، متفق عليه.
وروى الإمام أحمد عن أبي مسعود رضي الله عنه أن النبي ( قال: " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد " .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: " لعن رسول الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج " . رواه الإمام أحمد وأبو داود، والترمذي، والنسائي.



حكم المساجد المبنية على القبور
وفي الباب أحاديث كثيرة وآثار، فهذه المساجد المبنية على القبور يتعين إزالتها، هذا مما لا خلاف فيه بين العلماء المعروفين، وتكره الصلاة فيها من غير خلاف، ولا تصح عن الإمام أحمد في ظاهر مذهبه، لأجل النهي واللعن الوارد في ذلك.



بدع أخرى تتعلق بالقبور
وكذلك إيقاد المصابيح كالسرج والشمع والقناديل في هذه المشاهد والتُرب، فلا خلاف في النهي الوارد في ذلك، وفاعله ملعون على لسان رسول الله (؛ حيث قال: " لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسُرُج " .
ولا يجوز الوفاء بما نذر من زيت وشمع وغير ذلك، بل موجبه موجب نذر المعصية. وكذلك الصلاة عندها مكروهة وإن لم يبن عليها مسجد، فإن كل موضع يصلى فيه فهو مسجد وإن لم يكن هناك بناء، والنبي ( قد نهى عن ذلك بقوله: " لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا عليها " وقال: " اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً " يعني كما أن القبور لا يصلى فيها فلا تجعلوا بيوتكم كذلك. ولا تصح الصلاة بين القبور في مذهب الإمام أحمد وتكره عند غيره.