الخوف من الله عمل قلبي له فوائد

ثم إن من أعمال القلب الخوف من الله لا من غيره، وإذا نزلت الشدائد وادلهمت الخطوب، فإن كثيراً من الناس يخافون، قد يخافون من قعقعة السلاح، وقد يخافون من خطرٍ وشيكٍ يوشك أن يُحدق بهم، وقد يخافون من عدوٍ أو مرضٍ أو سيلٍ ونحو ذلك من أنواع المصائب الحادثة. ولكن القلوب تختلف، فمن الناس مَنْ قلوبهم موصولةٌ بالله، فإذا نزلت المصيبة وجاءت الأحداث لا تتزلزل كياناتهم، ولم تضطرب مواقفهم وتتزعزع، ولا يجرون في جميع الاتجاهات لا يدرون إلى أين يذهبون! ولا ترى الواحد منهم إذا نزل الخوف يفر فراراً لا يلوي على شيء، حتى إذا ابتعد بمسافةٍ طويلة توقف وقال: إلى أين أذهب الآن، وماذا أفعل؟! خطوات غير محسوبة، لأن الخوف كان مهيمناً على قلبه فنتج هذا الاضطراب، ولكن المسلم الذي يُسلم أمره لله ويعلم قول الله عز وجل: فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175] الذي يخشى الله فقط ولا يخشى أحداً إلا الله، فإن الله يثبته؛ لأن الشرور -أيها الأخوة- لا تنتهي، قد يحصل بك شر وتعتصم بأحد البشر فينقذك، لكن غداً يحصل لك شرٌ آخر فلا ينجيك أحد.

خوفك من الله يجعلك تفر إليه

لن تجد من يقف بجانبك طيلة حدوث الأحداث المتكررة إلا
الله عز وجل، إذا خفت منه وهربت إليه سبحانه وتعالى فإن الله يكون معك في جميع الأحداث، ولذلك فإن الله يداول الأيام بين الناس، والذي يحسم مادة الخوف ويقضي على الخوف والذعر هو التسليم لله، فإن من سلم لله واستسلم له وعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، لم يبقَ لخوف المخلوقين في قلبه موضعٌ أبداً. فإن النفس التي يخاف عليها قد سلمها إلى وليها وبارئها وخالقها سبحانه وتعالى، وعلم أنه لا يصيبها إلا ما قدر الله لها، وأن ما كتب لها لابد أن يصيبها، وأن ما لم يكتب فلا يمكن أن يصيبها، هذا الذي يحسم مادة الخوف نهائياً وهذا هو الذي يجعل الإنسان مطمئناً.


من نتائج الخوف من الله الطمأنينة


مشكلتنا -أيها الأخوة- أننا نُذعر ونخاف وننسى بسرعة، تصرفاتنا غير موزونة وغير مضبوطةٍ بموازين الشريعة، ولذلك فإذا كان الخوف من الله لا من غيره؛ فإن الطمأنينة تنزل تلقائياً في القلب والطمأنينة عملٌ آخر من أعمال القلوب: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] ذكر الله هو القرآن. والذي يُعرض عن القرآن يتزلزل قلبه، ويضطرب عيشه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي كلامي ، القرآن : وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا [طه:124-126] هذه التي من المفروض أن تتذكرها لتنجو وتثبت، وتكون لك حياةٌ سعيدة، وعيشة رغيدة، وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:127]. وكان من دعاء بعض السلف: اللهم هب لي نفساً مطمئنةً إليك،


وإذا طال الخوف على الإنسان واشتد به وأراد الله أن يريحه ويحمل عنه، أنزل عليه السكينة فاستراح قلبه إلى الرجاء واطمئن به، وسكن لهيب خوفه. ولذلك كان للعلماء المذكرين بالله أدوارٌ مهمة في تثبيت الناس، فلما كان ابن القيم رحمه الله يتكلم عن نفسه وعن صحبه عندما تنزل بهم الخطوب، وكان لهم أعداء كُثر بسبب تمسكهم بالسنة، فإنهم عند تزلزل الأمور كانوا يذهبون إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فيجلسون إليه، يقول: فما هو إلا أن نسمع كلامه حتى ترتاح القلوب وتهدأ النفوس وتطمئن، والطمأنينة بذكر الله وبمجالسة أولياء الله من الأسباب التي تُحدث الثبات في القلب.

ومن أنواع الطمأنينة:

الطمأنينة إلى حكم الله وما يقع من المصائب والأحداث، وإذا علمت أن ما شاء الله كان وأن ما لم يشأ لم يكن، فلا معنى للجزع والقلق، فإن الشيء المحذور إذا قُدِّر فلا سبيل إلى صرفه. لقد هرب أناسٌ كثيرون خوفاً من هذه المنطقة، فلما ركبوا الطريق ساروا في سياراتهم وحصل على بعضهم من الحوادث ما قضى به نحبه، وقد كان خائفاً من شيء، فإذا منيته تكون في أمرٍ آخر، وإذا بالشيء الذي هرب منه قد ساقه إلى أمرٍ آخر كان فيه هلاكه وحتفه:

ما قد قضى يا نفس فاصطبري له ولكِ الأمان من الذي لم يقدرِ

وتحققي أن المقدر كائنٌ يجري عليك حذرتِ أم لم تحذري


الخوف من الله سبب لعدم الأمن من مكر الله

والخوف من الله عز وجل يستوجب أمراً آخر من مهمات القلوب، وهو عدم الأمن من مكر الله عز وجل، لذلك يقول الله سبحانه وتعالى:

أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ [النحل:45-47]. هذه الآيات عين الواقع بالضبط، هؤلاء الذين مكروا السيئات فعملوها، ودعوا الناس إليها، وحرضوهم عليها، وشجعوهم على فعلها، هؤلاء الذين يمكرون بالناس في دعائهم إياهم للمعاصي، هؤلاء: أأمنوا أن يخسف الله بهم الأرض؟ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ [النحل:45-46]. وتقلبهم هو تنقلهم في الأسفار وغيرها، وتغيرهم في أحوالهم، ولذلك قال الله في آيةٍ أخرى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:97-99].