بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته

أما عنصر {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته }: فهذا كلام الحبيب عليه الصلاة والسلام في الصحيحين من حديث عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الرجل راع في أهل بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيتها ومسئولة عن رعيتها، ثم ذكر الولاة، ثم قال: ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته }.
إذاً: يا أيها الأب في البيت أنت راع، يا أيها المسئول، يا أيها الأمير، يا أيها الوزير، يا أيها القاضي، يا أيها الأستاذ، يا أيها العميد، كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، البيت مسئولية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة -المجدد في القرن الأول، الزاهد الأموي، رضي الله عنه وأرضاه- فأتى لينام الليل، فذهب النوم، قالت له زوجته فاطمة بنت عبد الملك : يا أمير المؤمنين ألا تنام، قال: كيف أنام وقد ولاني الله أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأمر الضعيف والمسكين، وأمر الشيخ الكبير والمرأة العجوز، وأمر الهرم والعجوز والفقير، فبكت معه. ونستخلص من هذا:
أن المسئولية في الإسلام مغرم لا مغنم، فاصرف نظرك أن تظن أن المنصب وسيلة لك إلى السعادة، فلن يكون إلا إذا جعلته طاعة لله.
وربما رددت علي وقلت: ربما يسعد بعض الناس بالمنصب أو بالمسئولية في مال من غير وجهه أو في شهرة أو في ظهور.
قلت: هذا مكسب فقده خير منه، وهو الموت والقتل والذبح، وهو الذي يجعله الله وبالاً على صاحبه، وهل أهلك فرعون إلا المنصب يوم جعله لعنة، يوم جعله معصية، يوم جعله محاربة لله، وهل أهلك قارون إلا المال، فجعله سلاحاً هداماً في وجه رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وهل أهلك أبا جهل إلا الجاه يوم جعله عقبة في وجه لا إله إلا الله محمد رسول الله.
إثم من قصر في عمله
اسمع إلى الحبيب عليه الصلاة والسلام يقول في الصحيحين : {ما من عبد يسترعيه الله عز وجل على رعية، يموت يوم يموت غاشاً لرعيته، إلا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة } وفي لفظ صحيح: {ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته؛ إلا حرم الله عليه الجنة } غاش ما أعطاها حقها، ولا أنصف مكلومها وما رد ظالمها، وما قضى حوائج أمة محمد عليه الصلاة والسلام.
إنه حديث عظيم وفي العموم ما من عبد قلت مهمته أو كبرت إلا يسأله الواحد الأحد يوم العرض الأكبر: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ [الصافات:24-25] والجندي واللواء، والقائد، والموظف، والداعية، والأستاذ، كلهم مسئولون:
إذا قيل أنتم قد علمتم فما الذي عملتم وكل في الكتاب مرتب
وماذا كتبتم في شباب وصحة وفي عمر أنفاسكم فيه تكتب
فيا ليت شعري ما نقول وما الذي نجيب به إذ ذاك والأمر أصعب
إلى الله نشكو قسوة في قلوبنا وفي كل يوم واعظ الموت يندب
حضرت الخليفة عبد الملك بن مروان الوفاة، فلما أصبح في سكرات الموت، ذهبت الجنود والجلود، والرايات والعلامات، والفضة والذهب، والدور والقصور قال: لا إله إلا الله! يا ليتني ما عرفت الخلافة، يا ليتني ما توليت الملك، يا ليتني كنت غسالاً، قال: سعيد بن المسيب يعلق على القصة: -ذكرها الذهبيالحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا في سكرات الموت ولا نفر إليهم ]].
وصح عنه عليه الصلاة والسلام عند مسلم في الصحيح أنه قال: {اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به }.
ومعنى ذلك: يا رب من شق على أمتي، فحبس صاحب الحاجة، وأخر صاحب الطلب، وغلظ في الخطاب وأتعب المسلمين؛ فأتعبه يا رب يوم العرض الأكبر يوم لا حاكم إلا أنت، ولا منصف إلا أنت، ولا حكم إلا لك.
ويا رب! من تولى أمراً قليلاً صغيراً أو كبيراً، فرفق بالأمة ورحم ضعيفها، وقضى حوائجهم، وحنَّ عليهم، وتلطف معهم، وصبر على أذاهم؛ فارفق به يوم العرض الأكبر، يوم تتطاير الصحف، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وقال عليه الصلاة والسلام: {إن شر الرعاء الحطمة } حديث رواه أبو داود والترمذي بسند صحيح، والرعاء جمع راعي، وهو ولاه الله مسئولية على المسلمين، ولو في مكتب، ولو على اثنين، ولو على دائرة، ولو على مصلحة صغيرة، هذا من الرعاء.
والحطمة معناه: ما استخدم قائداً للإبل أو راعياً لها إذا حطم الإبل ولم يحسن سياستها ورعيها، فحطم بعضها ببعض وأهلكها، فهذا من شر الرعاء.
دخل عائد بن عمرو على عبيد الله بن زياد الوالي فقال: يا أيها الأمير ارفق بالأمة، فإني سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {إن شر الرعاء الحطمة } وهو الذي لا يرفق بالأمة، وهو الذي يعصف بالناس، وهو الذي لا يقضي حوائج الناس على الوجه المطلوب.
اسمع إلى حديث عظيم رواه أبو داود والترمذي قال عليه الصلاة والسلام: {من ولاه الله شيئاً من أمر أمتي، أو من أمر المسلمين، فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم؛ احتجب الله دون حاجته وفقره وخلته يوم القيامة } حديث صحيح.
معنى الحديث: من ولاه الله مسئولية الأمة فاحتجب، وقطع الطرق إليه، وعطل المسئولية، ولم يقم بالواجب، وأخر المراجعين، والمحتاجين، وكبت المساكين، احتجب الله دون حاجته وخلته -يعني مشقته- وما يحتاجه يوم القيامة، أو حاجته الداخلية وفقره يوم العرض الأكبر.
واحتجب هنا بمعنى أن الله له حجاب خاص يليق بجلاله، يحتجب عمن احتجب عن حوائج المسلمين، ومقصود هذا عذاباً وجزاءً ونكالاً، والجزاء من جنس العمل، فكما احتجب عن الأمة، وكما عطل معاملات الأمة، يعطله الله يوم العرض الأكبر، ويؤخره الله في العرصات، ويحتجب دون حاجته، فلا يرفع حاجته، ولا يجيب دعوته، ولا يسد عوجه، ولا يغني فقره، ولا ينجي مقصده، فيبقى في الأذلين الخاسرين.
يا لخسارة من ظلم يوم العرض الأكبر، يوم يقول الله: لمن الملك اليوم؟ فيجيب نفسه بنفسه: لله الواحد القهار.
إلى ديان يوم الحشر نمضي وعند الله تجتمع الخصوم
أما والله إن الظلم شينٌ وما زال المشين هو الظلوم
هذه قالها أبو العتاهية -وقيل أبو نواس - أرسلها في رسالة للأمير عندما حبسه في سجن، فدمع في ظلام الليل، وكتب هذه الأبيات في قصيدة طويلة إلى الخليفة، فأبكاه حتى بلَّ الرسالة بالدموع.
دعوة المظلوم
قيل لـخالد بن يحيى البرمكي ، والبرامكة أسرة عباسية تولت الوزارة في عهد هارون الرشيد ، فعاثت في الأرض فساداً، كان تطلي القصور بالذهب وماء الفضة، زرعوا حدائق وبساتين، عسفوا وظلموا، ثم أغضب الله عليهم أقرب الناس لهم -هارون أُغضب في دقيقة واحدة- فأخذهم فقتل شبابهم وأخذ شيوخهم فأودعهم السجون، منهم خالد الذي ما رأى الشمس سبع سنوات -ذكر القصة ابن كثير - صار الشيخ الوزير الكبير، عجوزاً هزيلاً، وقد طالت أظافره -ما وجد مقراضاً يقلم أظافره- وقد سقطت حواجبه على عينيه، وقد شابت لحيته ورأسه، وأصبح في ثياب ممزقة وفي بأس، قال له ابنه وهو معه: لا إله إلا الله! بعد النعيم والوزارة أصبحنا إلى هذا المكان! لماذا؟!
قال هذا الرجل وهو يبكي: دعوة مظلوم سرت في ظلام الليل، غفلنا عنها ولم يغفل الله عنها، وقال: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين:
جاءتك تمشي رافعاً ذراها أولها ردت على أخراها
دعوة المظلوم أسبق من الضوء.
قيل لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ كم بين العرش والتراب؟! أيجيب بالأميال، أو بالكيلو مترات، قال علي : وحسبك بـأبي الحسن ، قال: [[بين العرش والتراب دعوة مستجابة من مظلوم يرفعها الله على الغمام، ويقول: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين ]] وفي الصحيحين أن الرسول عليه الصلاة والسلام أرسل معاذاً إلى أهل اليمن فقال له في آخر الحديث: {إياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب }.
الإمام أحمد ظلمه ولاة السوء وأهل البدعة، وتولى ظلمه أحمد بن أبي دؤاد أحمد أهل البدعة، وأحمد أهل السنة أحمد بن حنبل وابن الزيات ورجل آخر.
قال الإمام أحمد لـابن الزيات : اللهم عذبه في دنياه، اللهم اسلب نعمته، وقال لـأحمد بن أبي دؤاد : اللهم احبسه في جسمه.
فـأحمد بن أبي دؤاد أصابه الفالج، وكان يبكي ويقول: أما نصفي هذا فلو قرض بالمقاريض ما شعرت به، وأما نصفي هذا فلو وقع عليه الذباب ظننت أن القيامة قامت.
وأتى ابن الزيات فأغضب الله عليه الخليفة فقطع يديه، وأدخله فرناً حاراً وسمر المسامير في أذنيه، وهذا إثم من قصر في علمه، فإنه يستوجب دعاء المظلومين ودموعهم الحارة، فكم وراء الأبواب من مظلوم، ومن محتاج ومقصر لا يستطيع رفع حاجته، ولا إيصال معروضه ولا كتابته، وهذا واجب المسئول الذي يعلم أنه سوف يحشر عرياناً يوم العرض الأكبر على الله. قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام:94].
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمورُ
يوم يشيب لهوله الولدان من أسف ويأكل كفه المثبورُ
هذا بلا ذنب يخاف لهوله كيف الذي مرت عليه دهورُ
كيف الذي مرت عليه سنوات وهو ظالم، ظالم في عمله لا يؤديه على أكمل وجه، لم ينصح لولاة الأمر، ولا نصح للرعية، ولا نصح في الوقت، ولا نصح في الراتب الذي يأخذه، ولا نصح بينه وبين علام الغيوب الذي يعلم السر وأخفى من السر.