الله جل جلاله هو العلي العظيم، فالعظمة صفة من صفاته، وآية من آياته، وتعظيمه تعالى بتبجيله وإجلاله، ونحن ننحني إجلالاً له في كل ركعة نركعها، وأمرنا بأن نعظمه في هذا الركوع ( أما الركوع فعظموا فيه الرب )، ونردد في إخبات وخشوع، وتذلل وخضوع: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم.

وتعظيم الله تعالى يقتضي تعظيم حرماته، وهي كل ما يجب احترامه وحفظه وصيانته ورعايته، وتشمل جميع ما أوصى الله بتعظيمه وأمر بأدائه، وتعظيم حرماته هو العلم بوجوبها والإقرار بها والقيام بحقوقها.

إن رضى الإنسان عن ربه ورضاه بما اختاره له هو من تعظيم الله وتعظيم حرمات الله، قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ﴾[الحج:30].
وقال تعالى: ﴿ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾[الحج:32].
وقال تعالى: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾; [البقرة:229].

جاء رجل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله، أرأيت إذا صليت المكتوبة، وحرمت الحرام، وأحللت الحلال، أأدخل الجنة؟ فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: (نعم ).

ويقول ـ صلى الله عليه وسلم: ( الحلال بين والجرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل لملك حمى ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ).

إن المؤمن الحق هو الذي يعظم حرمات الله ويستشعر هيبته ويذعن لجلاله، ويقدّر غيرته تعالى على حرماته، يقول ـ صلى الله عليه وسلم: ( أتعجبون من غيرة سعد؟ فوالله لأنا أغير منه والله أغير مني، من أجدل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شخص أغير من الله ).

إن التهاون بالذنب والمجاهرة بالمعصية والمسارعة للخطيئة، ليست من سمات المؤمن الحق، وليست من صفات من يعظم الله ويعظم حرمات الله. يقول ابن مسعود ـ رضي الله عنه: « إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به ـ وأشار بيده ـ هكذا ».

ويقول ابن عباس ـ رضي الله عنهما:; « يا صاحب الذنب لا تأمن سوء عاقبته، ولَمَا يتبع الذنب أعظم من الذنب إذا عملته: قلة حيائك ممن على اليمين وعلى الشمال، وأنت على الذنب أعظم من الذنب، وضحكك وأنت لا تدري ما الله صانع بك أعظم من الذنب، وفرحك بالذنب إذا ظفرت به أعظم من الذنب، وحزنك على الذنب إذا فاتك أعظم من الذنب وخوفك من الريح إذا حركت ستر بابك وأنت على الذنب ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك أعظم من الذنب إذا عملته ».

ويقول بلال بن سعد ـ رحمه الله: « لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى عظم من عصيت ».

ومن تعظيم حرمات الله تعالى تعظيم كتابه الكريم، فإن تعظيم كلام الله تعظيم لله، قال النووي –رحمه الله ـ : « أجمع المسلمون على وجوب تعظيم القرآن العزيز على الإطلاق وتنزيهه وصيانته «.

وقال القاضي عياض ـ رحمه الله ـ : « من استخف بالقرآن أو بالمصحف أو بشيء منه فهو كافر بإجماع المسلمين ».

وللمعظمين لكتاب الله تعالى قصص عظمى، ومواقف تروى، فقد كانوا يمتثلون أمره، ويحتكمون إليه، ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعًا، ومن أطرف القصص في هذا المضمار: في إحدى غزوات النبي; ـ صلى الله عليه وآله وسلم ; قام رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار بالحراسة ليلا، فاضطجع المهاجري وقام الأنصاري يصلي فجاء رجل من العدو فلما رأى الأنصاري رماه بسهم فأصابه، فنزعه الأنصاري حتى رماه بثلاثة أسهم، ثم ركع وسجد، فانتبه صاحبه وهرب الرجل، ولما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدم قال: سبحان الله ألا أنبهتني أول ما رمى: قال كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها.

أما الإمام البخاري ـ رحمه الله تعالى ; فقد كان ذات يوم يصلي فلسعه الزنبور سبع عشرة مرة فلما قضى صلاته قال: انظروا أي شيء هذا الذي آذاني في صلاتي، فنظروا فإذا الزنبور قد ورمه في سبعة عشر موضعًا، ولم يقطع صلاته. وقال مرة: كنت في آية فأحببت أن أتمها.

إن تعظيم كلام الله تعالى ليس بتجويد قراءته فقط وإقامة حروفه، وليس بتزيينه وتفخيم طباعته وكتابته، وليس بتعليقه على جدران البيوت، وليس بجعله افتتاحًا واختتامًا للمؤتمرات والمنتديات، وليس بقراءته على الأموات، بل بإقامة حروفه وحدوده، والاحتكام إليه، والعمل به، وتعظيم شأنه، والسير على منهاجه، ﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾[الحشر: 21].

ومن تعظيم حرمات الله تعالى: تعظيم نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ـ ;تقديم أمره ونهيه على أي كائن كان من المخلوقين، والرضى بدينه والاتباع لسنته والذب عن شريعته ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ﴾[آل عمران: 31]، ولا يؤمن أحد حتى يكون النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم أحب إليه من نفسه وأهله والناس أجمعين.

ومن تعظيم حرمات الله تعالى تعظيم حرمة المؤمن، واحترام حقوقه، وعدم النيل من كرامته والتعدي عليه، يقول; ـ صلى الله عليه وآله وسلم ; في حجة الوداع: ( .. فإن الله تبارك وتعالى قد حرم دماءكم وأموالكم وأعراضكم إلا بحقها كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا )، ويقول عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما يومًا بعد ما نظر إلى الكعبة: « ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمنون عند الله أعظم حرمة منك ».

ومن تعظيم حرمات الله تعالى تعظيم المقدسات الإسلامية، وتعظيم الشعائر الدينية، تعظيم المسجد الحرام ومعرفة مكانته ومنزلته، وأنه أشرف البقاع على وجه الأرض، وأن الذنوب فيه أشد حرمة، وأعظم مكانًا من غيره، ويجب تعظيم شعائر الله جل وعلا: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾[الحج: 32]، وتعظيم مسجد رسول الله; ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، والأدب مع صاحبه وعدم رفع الصوت على سنته، أو تقديم قول أحد من البشر على قوله.

وتعظيم المسجد الأقصى والسعي في إنقاذه من أيدي أعداء الله، ولو لم يملك الإنسان إلا الدعاء الصادق واللجوء إلى الله تعالى دائمًا وأبدًا بأن يفك أسره من أعداء الدين وقتلة الأنبياء، وأن يكون في قلبه متألمًا متحسرًا لما عليه من تسلط أعداء الله.

لقد كان صلاح الدين الأيوبي ـ رحمه الله ; في مجلس من المجالس ودارت بعض أحاديث الأنس، وضحك القوم وهو لا يضحك، فقالوا له: مالك لا تضحك أيها القائد العظيم، فقال: إني أستحيي من الله أن يراني ضاحكًا والمسجد الأقصى بأيدي الصليبيين.

ومن تعظيم حرمات الله تعظيم جميع بيوت الله جل وعلا، ومعرفة مكانتها والسعي في عمارتها، وليس المراد بعمارتها زخرفتها وإقامة صورها فقط، إنما عمارتها بذكر الله فيها وإقامة شرعه فيها، والمحافظة على الصلاة فيها ورفعها عن الدنس والشرك، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾; [التوبة: 18].

وقال الله محذرًا من انتهاك حرمات المساجد أو التعدي على إقامة ذكر الله فيها ونشر نور الهداية من على منابرها: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾; [البقرة: 144].

إن تعظيم حرمات الله تعالى واحترام أوامره وامتثالها ومعرفة نواهيه واجتنابها، لهو طريق إلى الفلاح، وسبيل للنجاح، ودليل على الإيمان، وبرهان على الإحسان، وسبب للغفران.