"لا سكاكين فى مطابخ هذه المدينة" هى رواية تتمرد على الخوف وتقطع الصمت وتجسد عزلة عائلة ومدينة على حافة الانهيار، وهى قصة إنسانية تتعدى حدود الشعوب، تغوص بعمق فى آليات الخوف والتفكك خلال نصف قرن، هذا ما أهلها لتفوز بجائزة نجيب محفوظ للرواية العربية، والوصول للقائمة الطويلة لجائزة البوكر.
فهى رواية عن مجتمع عاش بشكل متواز مع البطش والرغبات المقتولة، عبر سيرة عائلة اكتشفت أن كل أحلامها ماتت وتحولت إلى ركام، وتحولت جثة الأم إلى خردة يجب التخلص منها ليستمر الآخرون فى العيش.
يمضى بنا الروائى السورى خالد خليفة، من عنوان روايته الطويل والمميز إلى حقول الخس فى حلب، ليحكى على لسان أحد شخصياته قصة عائلة عاشت حياة موازية لحياته تحت وطأة الاستبداد.
وتبدأ الرواية بجملة يعلن فيها الراوى، وهو أصغر أفراد هذه العائلة، عن موت أمه "فى طريقى إلى المنزل تذكرت أن أمى لم تبلغ الخامسة والستين من عمرها كى تموت بهذه الطريقة المفاجئة"؛ وبسبب هذا الموت المفاجئ، ستنهمر الذكريات على رأسه مستعيداً تاريخ عائلته.
لا تمتلك شخصيات الرواية سوى الذكريات والانتظار، هناك عجائز ينتظرن الموت، وعمائر عشوائية قبيحة تكتسح حقول الخس، وحارة توحشت لا يمكن الخروج فيها دون التسلح بسكاكين.
مدينة حلب أيضا شخصية رئيسية، بل هى أهم شخصية، وما كل الشخصيات الأخرى إلا تفاصيل منها، لكنها تفاصيل مرسومة بعناية، شخصيات نتعاطف معها أو نكرهها، لكننا فى كل الأحوال نصدقها.
فالرواية بمثابة تدوينا لتاريخ مدينة حلب عبر حكاية عائلة سورية عادية كل ما حولها من أحداث وفوضى ورعب انعكس عليها بشكل عبثى، فهى رواية عن الفقر والحرب والفساد والعجز والشيخوخة والعهر والشذوذ والكثير من الصرخات المكبوتة، أبطال مهمشين مضت أعمارهم فى وهن، لوثت السياسة ملامح مدينتهم الجميلة، اغتيلت أحلامهم برصاص الحزب.
فهى رواية عائلة ومدينة ووطن على شفى السقوط، تتداخل هذه الصور الثلاث واقعيًّا ورمزيًّا عبر لعبة السرد الذكية التى يؤديها راوٍ هو فى الوقت ذاته إحدى شخصيات الرواية.

وهى كما قالت عنها الدكتورة تحية عبد الناصر، إنها بمثابة أنشودة لسوريا، يقوم فيها الراوى الشاهد بتضفير روايته ومعاناة الشعب، القهر والثورة، والدمار والأسى، وفى سردها للخوف والتطرف والاستبداد، تعبر عن روح المقاومة، والأحلام المبتورة، كما أنها رواية تتمرد على الخوف وتقطع الصمت، ويبدع فيها الكاتب من خلال تجسيد عزلة العائلة.
الجميل أيضًا أن خالد خليفة امتلك أسرار الرواية بالحبكة والسرد وطريقة رسم الشخصيات وتفاصيلها الجسدية أو النفسية، ونجح فى تجسيد البيئة أمام القارئ، والتى اختارها بعناية.