سورة البقرة هي أطول سورة في القرآن ، ويصفها بعض العلماء بأنها سورة النسف والإبادة لبني إسرائيل ، واحتوت على كثير من أحوالهم مع أنبيائهم .
ومن تلك الأحوال ما سميت السورة باسمها ، ألا وهي قصة ( البقرة ) ، فإن بني إسرائيل تعنتوا فيها وعقدوا الأمور ، وتشددوا فشدد الله عليهم .
وملخص القصة :
أن أحد بني إسرائيل كان غنيا جدا ، وكان له أبناء أخ يحقدون عليه لغناه ، فتآمروا على قتله وسلبه ماله ، فقتلوه في ظلام الليل دون أن يشعر بهم إلا رب السماوات .
ثم أرادوا أن يخفوا جريمتهم ، فتباكوا في الصباح على عمهم .
وذهبوا إلى موسى نبي الله ، وأخبروه ، وتحاكموا إليه ليبحث لهم عن قاتل عمهم !
فقام موسى فابتهل إلى الله بان يخبره بقاتل الرجل ، فأوحى الله إليه بان يأمرهم بقتل بقرة ، وأخذ شيء من أعضائها، وضرب الميت بها ليقوم ويخبرهم بقاتله .
فقال لهم موسى : {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (البقرة:67) ولو ذبحوا أي بقرة لانتهى الأمر ونفذوا الطلب .
لكنهم تعنتوا وتشددوا مع نبيهم ، وقالوا : {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً}
أي : أنهم استغربوا هذا الحكم ، وهذه الطريقة لإظهار القاتل ، وهذا من الاعتراض على الله .
فقال لهم موسى : {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.
فعلموا انه صادق .
ثم قالوا :{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} (البقرة:68) .
فقال {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ}.
أي : ليست بالكبيرة المسنة ، ولست بالصغيرة البر ، بل بينهما .
فتعنتوا أكثر وأكثر ، وقالوا : {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} (البقرة:69) .
فقال : { إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}
وهذا من أجمل الألوان .
فذهبوا ثم عادوا وقالوا متعنتين : {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} (البقرة:70) .
قال : {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} (البقرة:71) أي: ليست مهيئة للزرع ولا للحرث ، فهي معززة، أي : لا تحرث ولا تزرع .
ثم قال : {مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} أي : ليس فيها علامات تخالف الأصفر الفاقع.
{قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي : كأنهم يقولون أنت في الأول لم تأت بالحق ، سبحان الله ، فمن يأت بالحق إذا لم يأت به نبي الله ؟
ثم ذهبوا فوجدا البقرة عند عجوز في إحدى النواحي ، ليس لها إلا هي ، فتغالت في ثمنها ، حتى ملؤا لها جلد البقرة ذهبا .
فلما ذبحوها ضربوا ببعضها القتيل ، فقام من ميتته بإذن إله ، واخبر بقاتله ، ثم مات من جديد .
هذه هي القصة باختصار .
وفعل بني إسرائيل مع نبيهم في هذه القصة ، هو من التعنت والتشدد والأذى لرسول الله .
وهم لم يفعلوا كما فعل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ؛ الذين قالوا قبل بدر : والله ، لو سرب بنا إلى برك الغماد ( موضع ) لسرنا مع .
وكان الواحد يسمع كلامه صلى الله عليه وسلم فيصدقه ، وينفذه دون أن يراجعه صلى الله عليه وسلم ، أو يكثر عليه .
ومعلومة لديكم : قصة عمير بن الحمام لما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يبشر بالجنة ، وأنهم ما بينهم وبينها إلا أن يقتلهم المشركون ، فرمى التمرات التي بيده وقاتل حتى قتل تصديقا له صلى الله عليه وسلم، ولم يتعنت كما تعنت أحفاد القردة والخنازير .
وفوائد هذه القصة ( بقرة بني إسرائيل ) عديدة منها :
أولا : أن العقل لا يحق له أن يعترض على الوحي الآتي من السماء ، ويوم يبدأ بالاعتراض والتشكيك تبدأ اللعنة ويحل الغضب .
ثانياً : أن على المسلم أن يتقلى الأوامر والرسالة باستسلام ، وان يسلم وجهه طوعا لله ، ويرخي قيادة لمولاه .
ثالثا : فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، حيث لم يتعنتوا كما تعنت بنو إسرائيل ،كما سبق .
رابعا : انه لا تعايش بين المسلمين ، وبين هؤلاء الأنجاس ، مهما كان الأمر ؛ لأننا نختلف عنهم في جميع أمورنا .
لا كما يزعم البعض من إمكانية التعايش السلمي معهم ؛ لأن الحية لا تلد إلا حية .
فما دام أولئك أجدادهم ، فإن الأبناء سيكونون مثلهم ، أو شرا منهم في التعنت والخبث .
خامسا : من فوائد القصة ، كما ذكر الإمام احمد ، أن البقرة تذبح ولا تنحر .
وقد استشهد الإمام بهذه الآية {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (البقرة: من الآية 67) ولم يقل : تنحروا .
وهذا من اللطائف .
سادسا : استدل بها الإمام مالك على جواز بيع ( السلم ) أي : البيع بالصفات دون حضور السلعة ؛ لأن الله ذكر لهم الصفات فقط ، فاستجابوا بالصفات فأقرهم الله .
سابعا : أن على المسلم أن لا يتعنت في أموره الدينية والدنيوية ،ولا يتشدد ؛ لأن التشدد مصيره الهلاك أو التعب في الحياة .
ثامنا : أن الله إذا أمر بأمر فهو على ظاهره ، ولا نبحث ونستفسر عن أشياء لم يردها الله ، فنصرفه عن ظاهره بسببها .
تاسعا : أن من نفذ الأمر في أول وقته فهو المأجور ، مثل الصلاة في أول وقتها .
قال ابن مسعود : يا رسول الله ، أي العمل أفضل ؟
قال : (( الصلاة على وقتها ))
وهكذا الحج في أول العمر أفضل ممن يؤخره إلى ما بعد المشيب .