جلس ينتظر دوره فى الدخول لمقابلة الالتحاق بالوظيفة.. بداخله إحساس بالألم والضيق.. التقط نفساً عميقاً محاولاً أن يطرد الحسرة التى تعتصر صدره.. أسند رأسه للخلف.. أخذ ينظر لسقف الحجرة وهو يضغط على أسنانه.. أغمض عينيه.. مرت أمامه ذكرياته.. تذكر هدفه الذى طالما حلم به منذ كان صغيراً أن يكون صحفياً حتى يقول لا، ويحارب الفساد.

فتح عينيه ونظر للسقف الأبيض اللون وهو ينتهد وسأل فى نفسه:

- أأنت أبيض اللون حقاً أم أننا نراك كذلك؟

استنشق نفساً بقوةً فجعل صدره يعلو ويهبط معه.. وهو يحاول أن يجمع شتات نفسه.. أغمض عينيه ثانيةً، تذكر أمس حينما خرج عن توجيهات والده وأعلن له قبوله الوظيفة بقوله:
- بابا.. أنا قررت الذهاب غداً للالتحاق بالوظيفة.
- معتز! أنت تعلم أنت تلك الوظيفة ستجعلك.....
- أعلم جيداً ومع ذلك أقبلها!!!.
- تعلم أنك مع الوقت ستبيع ضميرك.. تفقد نزاهتك.. وتطأطئ رأسك.. وتزيف الحقائق.. أتعرف هذا يا معتز؟
- إنها فرصة يا أبى، منذ متى وأنا أنتظر شخصاً يتوسط لى فى وظيفة، وها قد جاءت الوساطة، إنها فرصة.. دعنى استغلها.
- فرصة؟ !! أىّ فرصةٍ هذه التى ستحجر بها على نفسك، وعلى ضميرك؟
- أنا قررت قبولها لأكون متحرماً مثل باقى البشر.
- أى بشر؟ أهؤلاء محترمون؟ !
- أريد أن أكبر.
- على حساب من؟ !
- دعنى أحقق أحلامى.
- لا.. بل أنت تهدم جميع أحلامك.. يا خسارة أأنت ثمرة كفاحى؟ يا خسارة!.

عاد معتز فاعتدل فى جلسته وقلبه يكاد يختنق.. بدأ يحاول فى فك رابطة عنقه بضيق.. كان يعرف أن الحصول على وظيفة، أصعب من الحصول على سياسى شريف، فحاول الهرب من نفسه ومن ذكرياته، حتى لا يتألم.. لكنها أخذت تثور عليه من جديد.. تذكر نفسه عندما كان طالباً مملوءاً بالحيوية والحماس، عندما كان ينتظر التخرج بفارخ الصبر ليمارس الوظيفة التى يريدها.

أحس بحزن عميق يسيطر عليه عندما تذكر الثلاث سنوات التى قضاها فى البحث عن الوظيفة بلا فائدة..

ضاقت به نفسه.. فضاق بها.. وهز رأسه يمينة ويساراً فى غضب وبداخله ثورة من المشاعر والأحاسيس المشتعلة.. يضطرب بداخله إحساس الحسرة مع الخجل.

ووسط هذه الأحاسيس المضطربة بكيانه وصل لمسامعه صوت السكرتيرة، وهى تنادى على اسمه فانتبه لها.. قالت:
- تفضل بالدخول
تسمر مكانه متردداً فى الدخول.. وضع يده فى جيبه.. أخرج منه كارت الوساطة، نظر إليه ملياً.. عاودته ذكرياته وقساوتها.. دوى فى أعماقه صوته وهو صغيرُ (حتى أقول لا) ثم صوت أبيه وهو يقول (أنت تهدم جميع أحلامك..)، ثم تذكر أحلامه التى عصفت بها الأنواء.. فضغط على أسنانه بعنف، وأعاد الكارت إلى مكانه و.....