أثبتت الدراسات العلمية الحديثة أن الملل ربما يكون حافزا للبحث عن الطرق التى تجعل الأفراد قادرين على تقبل الآخرين، ومشاركتهم أحاسيسهم ومهامهم الاجتماعية المختلفة، خاصة الحزينة منها، حيث يكون لدى هؤلاء الأشخاص قناعة بأن أفعالهم ذات معنى، لذا فهم يسعون لتحقيق هذه القناعة دائما، وأن الشعور بالملل أثناء العمل يمكن أن ينطوى على نتائج إيجابية من بينها زيادة القدرة الإبداعية لأنه يمنحنا الوقت لإطلاق العنان لأحلام اليقظة.

تلك الدراسات تؤكد شيئا واحدا غير متوقع وهو أن الملل آفة لها فوائد عديدة، فلولا ملل الشعوب من حكامها لما قامت الثورات، وملل الإنسان من كوكب الأرض دفعه للبحث عن كواكب وعوالم أخرى، وملله من الرتابة والروتين دفعه للسعى جاهدا لتحويل العالم لقرية كونية صغيرة يسرت التواصل والتغيير والتحول.

ومن خلال سبع دراسات، اكتشف العلماء أن الملل يزيد الدوافع التى تحفز على القيام بالأعمال الاجتماعية التفاعلية التى تظل فترة أطول من تلك التى يستغرقها الفعل الممل ذاته، فالملل يجعل الانسان يقوم بأفعال مختلفة وهادفة تبقى لفترة طويلة، ونتيجة لذلك يتحول إلى الأفعال الأكثر تحديا والأكثر جدية محولا مساره إلى الأشياء التى يدرك أنها حقا مجدية، وأثناء القيام بالأعمال الاجتماعية الخيرية، ربما لا يشعر فاعلها بزيادة مستوى نشاطه، اهتمامه، وإحساسه باليقظة، والمرح، الإبداع والتحدى، ذلك وبكل بساطة، لأن هذه الأفعال المملة تنتهى قبل أن تحدد الأعمال الاجتماعية الخيرية.

ويقول البروفيسور ويجناند فان تيلبرج بجامعة ليرميريك الأيرلندية الذى أجرى إحدى هذه الدراسات إن الذين يشعرون بالملل سريعا، عادة ما يسجلون درجة عالية بما يسمى "السعى وراء مقاييس الإحساس المزاجية"، وربما يفسر ذلك ولو بشكل جزئى العلاقة بين التعرض للملل، وكل من العنف، الغضب والعدوانية، وعندما يشعر الناس باللا معنى، فإنهم يكونون عرضة للارتباط بالتصرفات التى يؤمنون بأنها سوف تؤكد على إحساسهم باللا معنى، ولكنهم لن يفعلوا، بل سوف يتحولون إلى القيام بعكس ذلك من الأفعال المجدية، الممتعة والمثيرة، حيث إن الملل يمكن أن يكون محفزا قويا على البحث عن السعادة، ثم بعد ذلك القيام بسلوكيات اجتماعية تفاعلية ذات معنى أو مجدية.

وقال فان إنه اختبر خلال دراسته فكرة أن الملل يمكن أن يعزز السلوك الذى يفيد المجتمع، كون الانسان شاعرا بالملل ربما يدعوه إلى اليأس، لكنه فى ذات الوقت يفيد من هم فى حاجة إلى الدعم، ولكن لا يعنى هذا أن الملل ضرورى للسلوكيات الاجتماعية التفاعلية، لكنه يعد تأثيرا إيجابيا لفعل سلبى يحدد صفة فعالة لكيف يقوم الناس بإعادة التأسيس للإحساس بما هو مجد وذو معنى.

وكشفت دراسة بريطانية أجريت بجامعة "سنترل لانكشاير" أن الأنشطة المملة الأكثر سلبية فى العمل كالقراءة أو ربما حضور الاجتماعات يمكن أن تؤدى إلى درجة أكبر من الإبداع، حيث إن الكتابة بتقليلها من فرص أحلام اليقظة تحد من تأثيرات الملل المعززة للإبداع.

والدراسات العلمية والاجتماعية عن الملل ما زالت مستمرة باستمرار شعور الإنسان به، وأحدثها تلك التى أجرتها مجموعة من علماء النفس بجامعة سرى بالمملكة المتحدة على 200 رجل، وأشارت إلى أنه على الرغم من أن المغازلة قد تبدو طريقة رومانسية إلا أن الكثير يفعلها لجذب الانتباه ولتحسين العلاقات الاجتماعية، وأن الرجال يميلون إلى مغازلة زميلاتهم فى العمل، ليس بسبب الشغف والسلوك العاطفى، ولكن بسبب شعورهم بالملل الشديد من مهام وظيفتهم وأن غزلهم هو أقرب إلى السأم والضجر، فهم الأفقر حسا للعاطفة والأسوأ أداء فى العمل، والأقل رضا عن وظائفهم، والأقل فهما للذكاء العاطفى، والإحساس بمشاعر الآخرين، والأضعف سيطرة على مشاعرهم.

ولماذا لا يكون للملل فوائد، فهو واحد من الأشياء الكثيرة فى عالمنا التى تحمل قيمة الضدين معا، وحكاية استشراء الملل بين البشر بدأت فى ظل اهتمام الحضارة المعاصرة بالناحية الجسدية للإنسان وبسبب ضغط الواقع المادى الذى يعيشه أكثر الناس حاليا، وضعف صلتهم بربهم، وطاعتهم له، فانتشرت ظاهرة غريبة فى حياة البشر، وهى ظاهرة الملل والسآمة، والشعور بالضيق والضجر، وأصبح لهذه الظاهرة وجود نسبى يقل أو يكثر لدى الكبير والصغير، والرجل والمرأة، وكل منهم يعبر عنها بأسلوبه وطريقته الخاصة.

والأبطال والقادة من البشر، هم أناس لم يعرفوا الملل، لأن الملول لا يريد أن يحرك ساكنا، والرغبة فى التغيير والبحث تطرد الملل، والملل يمكن دفعه بالحب، وتجديد الصلة بالعالم الخارجى، واستشعار أن كل ما فى الدنيا ينتظر أيدينا للمصافحة وبالإيمان بما نفعله، وبوجودنا فى الحياة، وأصحاب القلوب المطمئنة هم ذوو مناعة من الملل.

والملل هو شعور ينتاب الشخص عندما تكون الأنشطة من حوله غير مهمة بالنسبة له، أو غير مكترث بها، فعندما يجد نفسه فجأة فى حالة من عدم التركيز والتفاعل مع ما يدور حوله وربما الهذيان، فإن ذلك يعنى أنه مصاب بنوبة ملل أو سأم أو زهق، وربما يكون الملل نتيجة لعدم وجود جديد، أو نتيجة للروتين اليومى المعهود، وتشابه الأشياء حولنا، فهو ذو أسباب ودوافع كثيرة تمكنه من السيطرة على الإنسان، وبقوة فى معظم الأوقات، فهو يشبه الأفعى التى تبتلع كل شىء، وأى إنسان، وأى محاولة أو رغبة فى التخلص منها.

وللملل علامات تدل على وجوده وتنعكس مظاهرها فى بعض التصرفات والسلوكيات مثل ممارسة التدخين والتسكع فى الشوارع والأسواق ومشاهدة القنوات الفضائية والإدمان عليها والهروب يوميا إلى الاستراحات مع الزملاء والأصدقاء وكثرة النوم، وحب الراحة والكسل والتركيز على قراءة الصحف والمجلات الهابطة، والثرثرة بالهاتف بغير فائدة، وإهمال المذاكرة، وضعف الاستعداد للاختبار، والانصراف عن العمل الجاد.

ويضيع الملل على الإنسان الكثير من الخير والطاعات لعزوفه عن النوافل وأبواب الأجر والثواب والقراءة المفيدة والقيام بتلبية الدعوات بحجة أنه ليس هناك مزاج، وتصرف هذه الآفة عن صاحبها الجد والاجتهاد، والحرص والمتابعة، والاهتمام بتحقيق الكثير من الطموحات.