إنكم لتلاحظون سراعَ كثير من الناس في أمور الدنيا، وتلاحظون حبهم لزهراتها وألوانها، وإنكم لتعجبون من ركضهم وراء مصالحهم ومنافعهم، في حين غفلتهم عن المنافع الباقية والكنوز النفيسة.

حلول موسم عظيم:

أيها المسلمون:

وإن من فضل الله على الناس أن يسر لهم مواسم خيرات، يعوضون فيها ما فاتهم من خير في العام كله، ومن هذه الأيام أيامُ عشر ذي الحجّة، فهي أيامٌ معظّمة في شرع الله، لها خصوصيّة في مزيد الطاعة والإحسان، وقد نوَّه الله بها في كتابه العزيز، قال تعالى: ﴿ وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ (سورة الفجر آية 1 - 2).

قال ابن كثير: «والليالي العشر: المراد بها عشر ذي الحجة. كما قاله ابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد، وغير واحد من السلف والخلف». ويروى عن جابر -رضي الله عنه- أنه قال: ) إن العشر عشر الأضحى والوتر يوم عرفة والشفع يوم النحر (.

قال تعالى: ﴿ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ﴾ (سورة الحج آية 28)، والمراد بالأيام المعلومات هي عشرُ ذي الحجّة. ودلَّت سنّة رسول الله على فضلِها، وأنَّه يُشرع التنافس فيها في صالحِ العمل، يقول: ) ما من أيّام العملُ الصالح فيهنَّ أحبّ إلى الله من هذِه العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ولا الجهادُ في سبيل الله إلا رجلٌ خرج بنفسِه وماله فلم يرجِع من ذلك بشيء (.

وعند البيهقيّ والدارمي: ) مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللهِ وَلَا أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ تَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الْأَضْحَى (، قَالَ: ) وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِذَا دَخَلَ أَيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا حَتَّى مَا يَكَادُ يقْدرُ عَلَيْهِ (.

وروى البزّار في مسنده عن النبيّ أنه قال: ) أفضلُ أيّام الدّنيا العشر( يعني عشرَ ذي الحجّة الحديث.

وقد روي عن أنس بن مالك أنه قال: ) كان يقال في أيام العشر: بكل يوم ألف يوم، ويوم عرفة بعشرة آلاف يوم (، يعني في الفضل، وروي عن الأوزاعي قال: بلغني أن العمل في يوم من أيام العشر كقدر غزوة في سبيل الله، يصام نهارها ويحرس ليلها، إلا أن يختص امرؤ بالشهادة.

قال ابن حجر رحمه الله: «والذي يظهَر أنّ السببَ في امتياز عشر ذي الحجة بهذه الامتيازاتِ لِمَكان اجتماع أمّهات العبادة فيها، وهي الصّلاة والصّيام والصّدقة والحجّ وغيرها، ولا يتأتّى ذلك في غيرها».

غفلة بعض الناس عن مواسم الخيرات:

أيها المسلمون:

إن هذه الأيام الفاضلة تستدعينا للجدّ والاجتهاد، فاحرصوا على استغلالها وعمارتها بالأعمال الصالحة، وإنه لمن المؤسف أن تدخل هذه الأيام والناس في غفلة فاكهون، لا في الخيرات يسارعون، ولا عن المعاصي يقلعون، قد أهمتهم الدنيا واجتاحتهم الغفلة، واحتواهم الطمع.

إن الإنسان منا لينمّي ماله ولا ينمي عمله، يزيد في غفلته ولا يزيد في درجته، يسارع في الفاني، ويبطئ في الباقي!

والناس هَمّهم الحياةُ ولَم أرَ



طولَ الحياة يزيد غيرَ خَبالِ

وإذا افتقرتَ إلى الذخائر لم تَجد



ذخرًا يكون كصالِح الأعمالِ

إن هذه الأوقات - يا مسلمون - جزء من أعماركم، وضياعها ضياع لكم، وزيادة في حسراتكم.

قال خالد بن معدان: «إذا فتح لأحدكم باب خير فليسرع إليه، فإنه لا يدري متى يغلق عنه».

قال أبو الفرج ابن الجوزي -رحمه الله-: «رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعًا عجيبا! إن طال الليل فبحديث لا ينفع، أو بقراءة كتاب فيه غزل وسمر، وإن طال النهار بالنوم، وهم على أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق، فشبّهتهم بالمتحدثين في سفينة وهي تجري بهم، وما عندهم خبر، ورأيت النادرين قد فهموا معنى الوجود، فهم في تعبئة الزاد والتأهب للرحيل، إلا أنهم يتفاوتون، وسبب تفاوتهم قلة العلم وكثرته بما ينفق في بلد لإقامته، فالغافلون منهم يحملون ما اتفق، وربما فرحوا لا مع خير، فكم فيكم ممن قد قطعت عليه الطريق فبقي مفلسًا، فاللهَ اللهَ في مواسم العمر، والبدار البدار قبل الفوات، واستشهدوا العلم، واستدلوا الحكمة، ونافسوا الزمان، وناقشوا النفوس، واستظهروا بالزاد، فكأنه قد حدا الحادي فلم يُفهم صوته من وقع الندم».

ما يستحب في العشر من ذي الحجة:

أيها المسلمون:

إن أيام عشر ذي الحجة أيام العمل والجد والمسارعة، وهي أيام الفوز والسعادة والفلاح، فحافظوا عليها، واعمروها بطاعة الله تعالى.

قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: «السعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه، بما فيها من الوظائف والطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادةً، يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات".

وقال بكر بن عبد الله المزني -رحمه الله-: ) ما من يوم أخرجه الله إلى أهل الدنيا إلا ينادي: ابن آدم، اغتنمني لعله لا يوم لك بعدي، ولا ليلة إلا تنادي: ابن آدم، اغتنمني لعله لا ليلة لك بعدي (.

الصلاة:

أيّها المسلم:

إنَّ هذه الأيامَ العشر اجتمعت فيها أنواعٌ من العبادة؛ الصلاة والصوم والصدقة والحجّ، فأكثِر من فعلِ الطاعَة، وبادِر إلى الفرائض، وأكثِر من النوافِل، في حديث ثوبان: ) عليك بكثرة السجود، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة (.

فمن أبواب الخير التي يحبها الله الصلاة، فبعد أن يحرص الفرد المسلم على أدائها مع جماعة المسلمين كما أمره ربه بقوله: ﴿ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ (سورة البقرة آية 43)، وكما أمره نبيه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بقوله: ) من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له، إلا من عذر (، والعذر: خوف، أو مرض، أو مطر. فإن العبد المسدد يتزود من نوافل الصلاة في هذه العشر، لأنها باب يحبه الله كما قال النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -: ) الصلاة خير موضوع فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر (، وصح عنه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -: ) ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون يزيدهما هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم (، وصح عنه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -: ) ما عمل ابن آدم شيئا أفضل من: الصلاة، وصلاح ذات البين، وخلق حسن (.

فهذه ثلاثة أبواب من العمل الصالح: الصلاة النافلة، وصلاح ذات البين، وحسن الخلق؛ ما عمل ابن آدم شيئًا أفضل منها، فأين المفرطون في صلاة الفريضة فضلا عن صلاة النافلة؟! وأين الساعون بإفساد ذات البين النمامون؟! وأين ذوو الأخلاق السيئة؟! أين هؤلاء جميعًا من هذا الفضل العظيم الذي خسروه، فلنتب إلى الله من معاصينا، ولنصلح أحوالنا، ولنحسن أخلاقنا، فقد ذُكرت امرأةٌ عند النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فذكروا من صلاتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها، فقال -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ) هي من أهل النار (، فالمسدد من وقع على ما يرضي ربه، وحذر ما أسخطه، قال بعض أهل العلم: «الحكمة هي فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي»، ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا.