أصدر مشروع "كلمة" للترجمة التابع لهيئة أبو ظبى للسياحة والثقافة كتاباً جديداً بعنوان: "الإنسان والدولة والحرب: تحليل نظرى"، للمؤلف كينيث ن. والتز، ونقله إلى العربية عمر سليم التل.

يتناول الكتاب بمنهج تحليلى بديع وتمحيص نظرى رصين الفرضيات والحلول التى أبدعتها الأدبيات السياسية الكلاسيكية فى مسعاها للإجابة عن سؤال: أين تكمن أسباب الحرب ودوافعها؟ فتحقيق السلام ينطوى على فهم لأسباب الحرب ومثل هذا الفهم هو محور الكتاب، وقد استوفى المؤلف شروط الموضوعية بتجشمه عناء الجرد المنهجى "لمستودعات المعرفة" فى الفكر السياسى الغربى الكلاسيكى.

وبما أن الكتاب يرسى ما يُسمى "مستويات التحليل" التى استُخدمت لاحقاً فى تفسير الصراع فى النظام الدولى، فإنه يمتاز فى أنه يؤسس لنظرية فى السياسة الدولية، وإن كان الكتاب نفسه ليس نظرية بحد ذاته.

يقسم المؤلف الكتاب إلى "مستويات تحليل" يُطلق عليها تسمية "تصورات" بوَّب ضمنها مواطن أسباب الحرب، وهي: الفرد، والدولة، ومنظومة الدول التى تَعُمّها الفوضى؛ هذه العناوين يمثلها الفصل الثانى والرابع والسادس على التوالى، حيث يعالج المؤلف كل تصور من خلال القوالب التقليدية فى الفلسفة السياسية والنظرية السياسية. أما الفصل الثالث والخامس والسابع فيوضحون بالأمثلة والشواهد التاريخية كلاً من التصورات الثلاثة، والفصل الثامن مقالة موجزة حول العلاقة المتبادلة بين تلك التصورات الثلاثة، وخاتمة للكتاب فى الوقت نفسه.

يعالج التصور الأول عدداً من مقولات المتقدمين والمعاصرين الذين يشتركون فى أن طبيعة الفرد الأنانية والعدوانية مصدر المآسى البشرية، بما فيها الحرب، التى يكون اجتثاثها عبر النهوض بالفرد وتنويره، وهو ما نادى به القديس أوغسطين ومارتن لوثر ومالتوس وجونثان سويفت ورينولد نيبور وسبينوزا وغيرهم، وهنا يفحص المؤلف منطق ارتباط، أو عدم ارتباط، التشخيص بالعلاج.

ويذهب التصور الثانى إلى أن الإنسان يولد محايداً فهو نتاج مجتمعه، والمجتمع لا يمكن فصله عن الكيان السياسى، فالكيان السياسى الصالح يجعل الناس صالحين، والكيان الفاسد يجعلهم فاسدين، وعليه، فإن التنظيم الداخلى للدول هو سبب الحرب أو السلم، وليس طبيعة الإنسان. وهنا يناقش مقولة "السلامُ أنبلُ أسبابِ الحرب" التى بحثها ضمن ما كان يُطلَق عليه خطأً "نظرية السلام الديمقراطي"، حيث حذر من مخاطر النزعة التدخلية التى يرى دُعاتُها أن الديمقراطيات تمثل الشكل الوحيد للدولة المسالمة، الأمر الذى يبرر اللجوء إلى كل الوسائل لجعل الدول الأخرى ديمقراطية، وقد شكك المؤلف فى صحة هذه الفرضية عبر الاستشهاد بمرجعية جان جاك روسو.

ومما تمس حاجة القارئ العربى إليه، وبخاصة فى ظل ما يجرى اليوم، معرفة الذهنية التى يصف المؤلفُ من خلالها العلاقة الثنائية المربكة ما بين الحرية التى تفضى إلى فوضى ومن ثم حرب تهدد الأرواح، وبين السلام فى ظل طغيان نظام يسلب الحرية، وهنا يصيغ المؤلف بجلاء بعضاً من أهم جوانب المشكلة التى تعالجها التصورات الثلاثة: ففى أوقات السلام يتساءل الناس: ما قيمة الحياة من دون عدالة أو حرية؟ الموت خير من حياة الذل والعبودية، ولكنهم فى فترات القلاقل الداخلية والحروب الأهلية وانعدام الأمن يتساءلون: ما نفع الحرية من دون سلطة توطد الأمن وتحفظه؟ وهنا يصبح للحياة أولوية على العدالة والحرية، فإذا كانت الفوضى بديل الطغيان، وكانت تعنى حرب الكل ضد الكل، فإن الرغبة بإدامة الطغيان وتحمل سلبياته تصبح أمراً مفهوماً نظراً لأن أحداً ليس بمقدوره أن يتمتع بالحرية فى غياب النظام.

ووفق التصور الثالث تكمن أسباب الحرب فى منظومة الدول نفسها، لا فى الإنسان ولا فى التنظيم الداخلى للدول، فطالما أنه لا يوجد فى فضاء "المجتمع الدولي" سيد أعلى فوق الدول فسوف تبقى البيئة الدولية فوضوية، وبالتالى ستبقى الحرب ملجأً لحل النزاعات بين الدول، وهنا يعتمد المؤلف اعتماداً مركزياً على فلسفة جان جاك روسو فى بسط تصوره.

فى ظل ذلك كله، يغدو الصراع، الذى يُفضى أحياناً إلى الحرب، أمراً محتوماً، فتضطر الدول إلى الاعتماد على قدراتها الذاتية، وتصبح فعالية تلك القدرات هى الشغل الشاغل لها، وتضطر كل دولة لأخذ حيطتها من بقية الدول.

على الرغم من التغيرات التى وقعت فى العالم منذ صدوره، يبقى هذا الكتاب عملاً كلاسيكياً يفسر من وجهة نظر غربية سبب اقتتال البشر والشعوب، ويكاد أن يكون مخططاً توضيحياً للعقل السياسى الغربى، إن جاز التعبير، الأمر الذى يجعل منه ضرورة لكل باحث ومُمارس ولفترة غير وجيزة، وإن كان من برهان على ذلك فصدور (35) طبعة من الكتاب فى الفترة ما بين 1954-2006.