بعد وجبة غداء فاحشة الدسم و منكرة الشحم ، ملأ بها هاويته السحيقة بكل ما لذ و طاب ، من ألوان الطعام و الشراب ، ما شرق منها وما غرب من الأطباق ،العربي و الغربي و الشرقي بل القطبي و حتى المريخي ! حتى إن جوفه استنفر و أعلن حالة الإبادة القصوى و سياسة التطهير الغذائي لكل نيء و مطبوخ ، مقليا كان أو مشويا ، قابلا للمضغ أو يتجرع تجرعا ، لاذعا أو محرفا ، يغلي كغلي الحميم أو مثلجا ساقعا ... لا يهم ، و بعد مناوشات استفتاحية و استهلالات تمهيدية بدأها بفواتح الشهية لم تأخذ منه وقتا يذكر ، ولم يدع لها مجالا لأن تلتقط أنفاسها اللاهثة ، فانسحبت منكسرة تجر أذيال الهزيمة النكراء الخائبة ، و بعد تقدم ملحوظ في ساحة وغى المائدة المحببة الى النفس ، انتقلت المعركة الى مرحلة متقدمة قام هو فيها بأداء فنون قتالية متمرسة قمة في الاحترافية ، فأعمل في أصناف الشراب الملونة مالم يدع فيها مجالا لزغبة طائر ، ولا حتى لخرطوم بعوضة يافعة ، و ألحق خسائر فادحة باللحوم و مشتقاتها الداجن منها و الخيشومي ، ضاعفت من تعرض عظامها النخرة الى تيار الالتهام الشبق ، لتأخذ المعركة أبعادا أخرى من المواجهة النهمة الشرسة ، شيئا فشيئا ... تتساقط ضحاياه الواحدة تلو الأخرى مضرجة بدمائها مكونة ما يشبة التل الصغير ، و اللذي يكفي الرهط من أولي القوة والبأس ، في قتال ضار لم يكن فيها فسحة لطرفة عين أو أقل من ذلك ، تدل للوهلة الأولى على رجاحة موازيين القوى لصالح الطغمة الغاشمة الغازية الملتهمة ، في حرب غير متكافئة الأطراف ، استعملت فيها الأسلحة المحرمة كبطش الراحتين الموغل في الوحشية في انتزاع الأحشاء و كسر الأطراف ، و فتك الأضراس الخطير بأجزاء ما تبقى من الضحية المشوهة ، ناهيك عن نظرات الرعب التي يتطاير منها الشرر ، المتوعدة بإنزال أقسى الهجمات التي يستوعبها شدقي المعي ، فالأمر بالنسبة اليه مسألة حياة أو موت لا يتنازل عنها بأي شكل من الأشكال ، و هكذا ..... بعد كر و فر ، و مراوغات و مناورات ، هجوم كاسح ، و تقهقر تكتيكي مدروس ، كسب خلالها أهم الجولات الطلائعية و الأعنف رحى .. حتى إذا لم يتبق له سوى جولة أخيرة ، توقف برهة قصيرة ، يتدارس فيها استراتيجية الضربة الخاطفة القاضية التي سيشنها على فلول ما تبقى من لقمة نازفة هنا ، أو لقيمة جريحة هناك ، أحس عند هذه اللحظة بالذات أنه أمام نشوة عارمة ، وفرحة منتصر يتقهقه لها الوليد ، لكن مهلا .... لقد تبادر الى ذهنه اللحظة التي ستعقب النهاية ... أووووه ... ياله من مأزق حاد و نهاية ليست على البال و الخاطر ، لم يدر بخلده أبدا مدى الاشكال العويص الحادث الذي تراءى له من غير أن يحسب له أي حساب ، فقد كانت الجولة الخاتمة أمام مفترق الطرق ، فهو بين أمرين اثنين لا ثالث لهما ، فهو إما أن يسلك الخطة الأولى المتمثلة بالقضاء المبرم على آخر معاقل المائدة من فاكهة نضرة تزينت بحسن اصطفافها و حسن تنظيمها الهرمي الشكل ، و الذي تربعت فيه كل حبة فردة منها ببهاء و إشراقة براقة مشعة تدعو من مكانها ناظرها أن هلم و أقبل ، و إما أن يتبع الخطة الثانية المحصورة في ابتلاع همجي دمدمي بلا شفقة أو رأفة تخففان من وقع ما تتعرض له قوالب الحلوى صغيرها و كبيرها من اعصار لا يبقي ولا يذر ، يتسائل بينه و بين نفسه : هل أختم طعامي بجبل الفاكهة فأفي بحاجتي منها مما يستصح به جسدي و أقضي به على عللي ؟ أم آتي الحلوى و الكعك فأقضي وطر شهوتي منها ، فلا أكاد أطيق صرف بصري عنها ؟ أأتناول الفاكهة ، فأتزود من المعادن و الفيتامينات ؟ و من الصخور و الأجرام السابحات ؟ أم أشبع اللذاذة الغريزية طغيانا و جورا ؟ أأتخذ من الفاكهة عوضا عما أنا أشتاق النظر الى ما يتراصف أعلاه و مكتنز باطنه ، أم أن لي بالحلويات المصنوعة المعجونة المحشوة المشحونة بحليها مركونة أطيب خيار قد تفلت من يدي فرصة اقتناص ذهبية لا أجدها في الفاكهة ذوات القشور المملة و البذور الطفيلية في الحلق ؟ آلفاكهة بحلوها و مرها، بماءها و أليافها، بقابليتها للقضم و حبيباتها المتلألأة، بألوانها و مواسمها، بسهلها و جبلها، بمنشئها و رائحتها، برونق بهائها و شكلها، بتفاعيلها و درجاتها أمرأ استطعاما يدور في الحلق و الجوف معا ؟ أم للكعك و مثيلاته المحلاة المزدانة التي تجذبك هيئتها و تفتنك لمعتها و يشدك بريقها استحواذا عليك لا يقاوم؟ الفاكهة ... الكعك ؟ الكعك ... الفاكهة ؟ الفاكهة .. الكعك ؟ الاثنان معا ..!!؟ لا يعقل .. لا هذا ولا ذاك ؟ يستحيل ؟ إذا ماذا أفعل ؟؟؟ حيرة في الاختيار ، و إرباكا أضاع المقادير و العيار ، تلجلج مسوف القطع به أفضى الى إضاعة الوقت المحصور للاختيار فاضاعة كلا الخيارين معا ، فكان الحرمان القاسي ذي الظلال القاتمة السيف الناهض من بين الركام الذي انتصر من غريمه الذي ظن فطن و شن ثم جلس و أن ...!!!