بسبب انقطاع المياه، وصلت متأخرًا لمكتب باب الشعرية الذى تعودت العمل من خلاله منذ أن امتهنت تلك المهنة، ألقيت السلام على الجميع، وتوجهت إلى عم راضى لأثبت حضورى بالدفتر، وكعادته يكون جالسا على كرسيه الهزاز مرتديا جلبابه البنى والبالطو الكاكى الخفيف، يعشق الاهتزاز والدوران على الكرسى، فيروح يمينا ويسارا وهو منهمك بقراءة جريدة الأهرام التى يمسك بحاملها بيده اليمنى، لأن اليسرى كعادتها تمسك بمنشته التى لا تفارقه أينما ذهب، معلق على الحائط خلفه صورة كبيرة للسيد المسيح متوسطا تلاميذه فى لوحة العشاء الأخير، وبجوارها صليب قديم مصنوع من الزعف، مرات كثيرة وهو يدور بكرسيه يتسبب فى وقوع الصورة على الأرض، ويتصادف وجودى فى معظم الأحيان، فأساعده وأقوم بتعليقها فى مكانها مرة أخرى، أحاول أن أكسب رضاه، لكى يعطينى الأولية فى العمل، لكن كل محاولاتى لإرضائه باءت بالفشل منذ أن عرفته، حاولت أن أعرض عليه فطارا كاملا ذات مرة، نهرنى وأمرنى ألا أكرر ذلك، لكنى أساعده اليوم فى أى شىء حبا فى شخصه ولاهتمامه بنا، حفنة كبيرة من الأمل أتلقاها كل صباح من ابتسامة عم راضى، فأصبح هذا العجوز هو المدد الوحيد الذى يقوينى على هذا الزمن الصعب، خاصة بعد أن فقدت والداى، وورثت من بعدهما هاشم أخى الكبير الذى ولد مشلولا بالإضافة لإعاقته الذهنية، وتوقف جسده عن النمو، أربعة وعشرون عاما، عمرى بأكمله أراه فى جسد طفل، نتولى رعايته أنا ومجيدة أختنا التى تصغرنى بعام، والتى أصرت أن تعمل بعد أن تأكدت أنى لا أستطع أن أتحمل وحدى كل ما يحتاجه البيت، فامتهنت مهنة عاملة فى مصنع للمصاصة، وحدث ذلك بعد أن تركنا حسين أخينا الأوسط وتزوج بفتاة من عائلة كبيرة، خجل حسين من دعوتنا لفرحه، فلم نكن أنا ومجيدة على المستوى اللائق للتعرف على أفراد عائلة عروسه المصون "ملعون أبو ليسانس الحقوق اللى يخلى أخ يستّعر من أخواته كده". وكعادة كل يوم. . بعد أن أثبت حضورى بدفتر عم راضى، أتوجه مع زملائى السفرجية لعربة الفول التى تعودنا تناول فطورنا على رفوفها الخشبية المزخرفة بالألوان البديعة التى تضيف لحفنة الأمل التى نتلقاها من ابتسامة عم راضى أملا آخر بأننا سنعمل فى هذا اليوم، لأننا فى كثير من الأحيان، نحضر لمكتب باب الشعرية ونتناول الفول المغطى بالزيت الحار، وروؤس البصل الأحمر، وأحيانا الأخضر، ونعود لبيوتنا دون أن نعمل، بعد ذلك الفطور الشهى، نتوجه لنصبة الشاى التى يملكها الوحيد، هو اسمه محمد الوحيد، ولكن منذ أن ارتبطت بالعمل من خلال المكتب، والجميع ينادونه بالوحيد، سمعنا أنه كان يملك مقهى بميدان العتبة، لكنه خسر كل شىء بسبب إدمانه للقمار، نطلب منه الشاى ونعود للمكتب لنجلس على الكنبة الخشبية الموضوعة أمامه منتظرين الفرج والشاى، دقائق قليلة ونرى الوحيد بصينية الشاى أمامنا، يأخذ كل منا كوبه، وبعد أن ننتهى من احتسائه، لا نجد شيئا نفعله غير التدخين المستمر، لأن الوقت يمر ببطء شديد أثناء انتظارنا لسماع جرس التليفون المجاور لدفتر الحضور الموضوع أمام عم راضى، ويبدو أن الفرج قد حان موعده، أخيرا دق جرس التليفون.. وفور سماعنا له، تأهبنا جميعا للذهاب للعمل، رغم علمنا أننا لن نذهب سويا، وسيتم اختيار عدد قليل منا، لحين أن يدق جرس التليفون مرة أخرى، ويُطلب من عم راضى عدد آخر من السفرجية للعمل بسرادق عزاء لدى أحد الفراشين. ومكتب باب الشعرية هو مكتب توريد سفرجية مقابل عمولة قدرها جنيهان عن كل سفرجى، خرج عم راضى من مكتبه بعد أن أنهى المكالمة التليفونية، وتوجه ناحيتى وأخبرنى أن أتوجه أنا وحمدى بيطة إلى "فراشة أبو رواش" بمنطقة الزيتون، فرحت أن العمل اليوم بمنطقة الزيتون، لأننى سأقابل شوكت بك الذى يكرمنى بأكثر مما أستحق، وقف حمدى بيطة حاملا حقيبته وسأل عم راضى:
-إيه يا عم راضى، حفلة ولا عزا؟

أجابه عم راضى وهو يضحك:
-ما تحلمش يا حمدى يا بيطة، لاحسن السفرجى منكم لو فكّر يحلم يموت، وبعدين بذمتك، خلقتك دى بتاعة حفلات، عزا طبعا.
"السفرجى منكم لو فكّر يحلم يموت" كانت كالبرق القاتل الذى يشق البنايات إلى نصفين، تقبلتها بهدوء بالرغم من أن حديث عم راضى كان موجها لحمدى، وماذا عن حلمى الصغير، أنا فقط أطمع فى مهنة سفرجى بفندق كبير، لكنى ضحكت مع ضحكات عم راضى إرضاءًا له، ولحبى الكبير له، ولم يغضب حمدى بيطة من سخرية عم راضى لأنه تعود عليها، ودّعنا زملاءنا السفرجية، وأعطينا عم راضى عمولة المكتب، وتوجهنا أنا وبيطة إلى فراشة أبو رواش.
***

فور أن ظهرت السيارة المرسيدس الحمراء؛ انتفضنا من جلستنا، وتسمّرنا فى أماكننا أمام المكتب، وبالتحديد تحت اليافطة الكبيرة المكتوب عليها بالحروف النحاسية اللامعة "فراشة أبو رواش" اصطففنا وكأننا فى قسم من أقسام البوليس فى عرض أمام ضابط المباحث، وكعادة المعلم عادل أبو رواش، ينزل من سيارته تاركا بابها مفتوح، وقبل أن يستفتح يومه بحجرين المعسل والشاى البربرى، يقترب منا كالخليجى الذى يزور مصر لأول مرة، بقميصه الحرير وبنطاله الجينز وحذائه القماش ذو اللونين، وتلف عنقه سلسلته الذهبية، وتعد يده اليمنى حبات مسبحته الفضية، ولحظة وصوله إلينا، يبدأ بشم رائحتنا واحدا تلو الآخر، فإن رضى عنها؛ استكمل فحصنا بعينيه النافذتين كأعين الصقر، ونقف نحن السفرجية أمامه مستسلمين لما يجرى، يدور حولنا المعلم عادل ناظرا فى البداية إلى مستوى نظافة أحذيتنا السوداء، ثم يتفحص السفرجى منا من أسفل إلى أعلى، إلى أن يصل بنظراته إلى ذقوننا اللامعة بالطبع، ونستشعر مستوى نظافتنا ورضائه عنا.. من ابتسامته الهادئه، بعدها نفتح له حقائبنا الصغيرة، ويخرج كل منا من حقيبته قميصه الأبيض، والصديرى الأسود والبابيون، يلقى المعلم نظرة عليهم، وفى معظم الأحيان يرضى عنهم، بعدها نعيدهم للحقائب، لأننا نرتديهم بعد أن ننتهى من فرش سرادق عزاء، أو من الانتهاء من تجهيز حفل عشاء أو حفل زفاف، وأحيانا موائد رحمن فى شهر رمضان، وبعد أن نتأكد من أن المعلم أبو رواش قد تأكد أننا نصلح للعمل معه اليوم. يصطحبنا سلامة الطيب إلى المخزن الخاص بالفراشة لنبدأ تحميل كل ما سيحتاجه سرادق العزاء من عروق خشب وأتراك القماش والبلمة، والكراسى العادية والفوتيهات والسجاد والطقاطيق، وكنبة المقرىء، مهمة السفرجى تبدأ بتحميل الكراسى والسجاد فقط، وباقى المعدات يقوم بتحميلها الفراشين، يقودنا جميعا سلامة الطيب أقدم الفراشين بفراشة أبو رواش، سلامة يجيد القيام بمهام كثيرة، يعمل أحيانا سفرجى، وأحيانا أخرى كهربائى، هذا بالإضافة لعمله كفراش، ينقصه فقط تعلم تلاوة القرآن الكريم، حتى يقرأ بدلا من المقرىء فى العزاء. رفعنا جميع المعدات على السيارة وركبنا بالخلف، وصلنا فى خلال خمسة عشر دقيقة إلى المكان الذى سيقام عليه السرادق، بدأنا فى تفريغ السيارة، وانشغلت أنا وحمدى بيطة، بوضع السجاد فى أماكنه، عملت فى اليوم بمنتهى الدقة والسرعة متشوقا لرؤية شوكت بك الكاظم وأمواله التى يمن علىَّ بها، بدأنا بتنظيف الكراسى والفوتيهات لحين أن ينتهى سلامة الطيب ورجاله من إقامة أثاث السرادق، صعد سلامة درجات السلم الطويل، وبدأ بالتحرك هنا وهناك يثبت عروق الخشب بعضها ببعض، ويناوله مساعديه من أسفل بـ"ترك" القماش واحدا تلو الأخرى، ليصنع سقفا وحوائط للسرادق، إلى أن يصل لتثبيت "البلمة" هذا الجزء القماشى القصير الذى يوضع خلف أصحاب السرادق ليحميهم من الهواء، وفور أن ينتهى الطيب ورجاله من بناء السرادق، نكون قد انتهينا من تنظيف الكراسى، ثم فرش السجاد ووضع الكراسى عليها فى صفوف منتظمة، بعدها يسلمنا سلامة الطيب الطقاطيق والمفارش الخاصة بهم وكذلك الطفايات، استلمناهم بالعدد لأنهم يصبحوا عهدة لدينا لحين انتهاء الليلة، لنعيدهم إلى سلامة مرة أخرى بنفس العدد الذى استلمناه، لأن عادة ما يسرق بعضهم أثناء العزاء، يكون الكهربائى فى هذه الآونة قرب من الانتهاء من إنارة السرادق وتشغيل الميكروفات، قبل أذان المغرب، نبحث عن أى مكان نحصل منه على ماء، لنغسل وجوهنا وأيدينا، ثم نرتدى القميص الأبيض، والصديرى، والبابيون، وبعد أن نحتسى الشاى، يلف حمدى بيطة سيجارتين، ندخنهم، ثم نبدأ ليلتنا بالتعرف على أصحاب السرادق، الذين يصلوا للسرادق بعد صلاة المغرب مباشرة، نحيهم ونعزيهم، وعلى الفور نقدم لهم القهوة والماء المثلج، نهتم بهم بكل طاقتنا آملين فى بقشيش آخر الليل الذى نسميه "البرانى" فى كار السفرجية، حيث يدفع أجرنا الذى لا يتعدى العشرون جنيها المعلم أبو رواش، بينما يدفع الزبون "البرانى" فى آخر الليل، نعرف مستوى أصحاب السرادق من نوعية "البوفيجى" الذى يطلبونه، فتختلف أسعار "البوفيجى" وتتراوح بين مائة جنيه وألف جنيه، وتتفاوت تلك الأسعار باختلاف نوعية معدات البوفيجى من فناجين وكاسات وأكواب وصوانى، وكذلك العرض الخاص لمعداته التى يفرشها على مناضد كبيرة بجوار مدخل السرادق، ويبدو أننا فى هذه الليلة سنكرم من أوسع الأبواب، فالبوفيجى اليوم من النوع الفاخر، نعرفه من قبل، فقد عملنا معه فى اكثر من سرادق، يتميز هذا الرجل بتدخينه الحشيش خلف البوفيه الخاص به، وبالطبع ستعفق أيدينا على غابة جوزته الخاصة، استلمنا البن والشاى والينسون والفحم من أصحاب السرادق، وأعطيناهم للبوفيجى، الذى بدأ بإشعال الفحم، وقبل أن نبدأ فى العمل، دخلنا واحدا تلو الآخر خلف البوفيه لندخن حجرين، لنظبط بهما إيقاع الليلة.

***
بدأت تلاوة الربع الأول بصوت الشيخ حماد الدسوقى، يتميز الشيخ حماد بالإضافة لصوته الجميل بخفة ظل تضاهى خفة ظل نجيب الريحانى وعادل خيرى معا، ففور أن أقدم له الينسون، يبعد وجهه عن الميكرفون ويهمس فى أذنى بنكتة جديدة، ومن تأثير الحجرين لا أستطع إخفاء ابتسامتى المصحوبة بصوت ضحكاتى المكتومة. بعد الربع الأول. . هم الجميع لأداء صلاة العشاء، والربع الذى يلى الصلاة، يكون فى كار السفرجية هو ربع الشغل الجاد، ننتظر فيه بشغف مرشحين مجلس الشعب وبكوات الحى، فهم عادة ما يحضرون فى ذلك التوقيت، نوع من أنواع الدعاية، أنتظرهم بأمل كبير فى أن أعود إلى مجيدة وهاشم بكيلو كباب وكفته، نتراقص أنا وحمدى بيطة داخل السرادق كراقصى الباليه، نجرى بين صفوف المعزيين وكأننا نسير على عجلات الباتيناج، حاملين الصوانى على أطراف أصابعنا، نؤدى أداءًا بهلوانيًا للحصول على "برانى" محترم، وحانت لحظة السعادة، دخل السرادق شوكت بك الكاظم وخلفه رجاله مرتدين أفخر أنواع الملابس، شوكت بك أقوى مرشح لمجلس الشعب وأغناهم عن العمال، يعرفنى جيدا، ويكرمنى كثيرا، لأننى بالإضافة للخدمة المتميزة التى أقدمها له فى السرادق، أنقل له أخبارا كاذبة من خيالى عن منافسيه "رزق الهبل على المجانين" كار السفرجية مربح جدا، فى حالة واحدة فقط، أن نعمل كل يوم، لأننا من الممكن أن نعمل يوم، ونجلس بالبيت عشرة أيام، رزقنا مرتبط بالموت، الموت الكثير يساوى سعادتنا، ياله من تناقض، وضعت الطقطوقة أمام شوكت بك، وهرولت داخل السرادق لأحضر له قهوته، فور أن وصلت إليه وضعت الفنجان على الطقطوقة أمامه واقتربت من أذنه وقلت له بصوت خفيض:

-القهوة المظبوط يا شوكت بك، عندى أخبار يا باشا.
ابتسم فى وجهى وأخبرنى أن أتبعه لسيارته فور خروجه من السرادق، لاحظت أن حمدى بيطة يراقب كل تحركاتى، لأن بيننا اتفاق أن نقسّم أى "برانى" بيننا بالعدل، وعادة لا يتم ذلك الاتفاق، لأنه يسرقنى وأنا أسرقه، نظهر لأنفسنا فقط فى آخر الليل ربع ما ربحناه داخل السرادق، وهذا ما نقسّمه سويا بالعدل، فكلانا يراقب الآخر، وكل منا محق فى تلك المراقبة، دقائق ودخل السرادق الأستاذ حشمت التونى المرشح لمقعد الفئات والمتحالف مع شوكت بك، هما كعادة كل رجال الأعمال يرشحوا أنفسهم مستقلين، وفور نجاحهم يصبحوا أعضاء فى الحزب الوطنى، الأستاذ حشمت التونى أشهر محامى بالمنطقة بأكملها، متخصص قضايا المخدرات باهظة الثمن، أما شوكت بك، فأنا للآن لا أعرف ماذا يعمل، أفسح الرجال الطريق للأستاذ حشمت، حتى وصل إلى شوكت بك، وبعد أن حياه، جلس بجواره، وبدأ شوكت بك يهمس فى أذن الأستاذ حشمت وقطع همسهما دخول منافس الحاج حشمت على مقعد الفئات. . الحاج حلمى الضو، من أكبر تجار القطن ولديه مكتب مشهور للمحاسبة، انشغلت بالاهتمام بالثلاثة، بينما حمدى بيطة غاص بين المعزيين داخل السرادق، يلتقط من هنا جنيهان، ومن هناك ثلاث، شعرت أن الشيخ حماد الدسوقى قد قرب من الانتهاء من الربع الثانى، فسرعان ما اقتربت من الأستاذ حشمت والحاج حلمى، والتهمت منهما ورقتين من النقود من العيار الثقيل، أما شوكت بك فتركته لحين أن يخرج من السرادق، لكى أقابله عند سيارته، لألتهم منه وليمتى الكبرى.