مظاهرالحياة الثقافية عندالعرب في العصر الجاهلي

لا شكّ أن معالِم الحياة الدينية تُعَد معْلَماً ثقافِياً أيضاً، لأنّ العبادات والآلهة والعقائد، رغم أنها مَزعومة وأنها باطلة، ولكنها تدلُّ على بحث أيضاً، وتدلُّ على نَظَر وتأثُر بالأمم الأخرى، وما إلى ذلك.
والحياة الثقافية عند العرب نجد لها أكثر من مِحور:
المحور الأول: هو ما علاقة عرب الشمال بعرب الجنوب، أو حضارة القحطانيِّين وحضارة سبإ، وما تلبَّس بها من معارف ومن حضارة ومن ازدهار بحضارة أهل الشمال. نجِد أن العرب الشماليِّين كانوا على صِلة بالحضارات المجاورة، كما يقول الدكتور شوقي ضيف، وكان تجار مَكة يدخلون في مصر والشام وبلاد فارس. وكان الحيريون يتصلون مباشرة بالفُرس، وبلاد فارس، والفُرس والروم كانت لهم ثقافاتهم ولهم عاداتهم ولهم تقاليدهم، وإن كان التأثير لم يكن عميقاً كما حدث في العصر العباسي مثلاً، وكان الغساسنة يتصلون بالروم وقد تنصروا وشاعت النصرانية في قبائل الشام، والعراق، ونزل بينهم كثير مِن اليهود في الحجاز واليمن.
إذاً هذا المَظهر التأثري، هو التأثر بالناحية العَقدية، فشاعت النصرانية، وشاعت اليهودية، في كَثير من المناطق العربية.
وكل ذلك معناه اتصال العرب الشماليين بالأمم المُجاورة وحضاراتها، ولكن كما قلت: أن ذلك كان في حُدود ضَيقة، وكان في حدود تأثر بالمَظهر التجاري، أو التبادل التجاري، أو المَعارف الضَّيقة، فالعرب كانوا يعْتَزّون بسِماتهم، ويعْتَزون بخصائصهم، ويعْتَزون بتقاليدهم، ويعْتَزون بأعرافهم. والعرب الجنوب يبدو أنهم بعد أن دَالت حضارتهم "حضارة سبإ" هاجروا وانتشروا في بلاد كثيرة، ولم يكن عندهم ثقافة ذات معالم بيِّنة، وحتى من وجْهة التنظيم السياسي كان يعمّهم النظام الإقطاعي، ولذلك حينما ضعُفت دولتهم الأخيرة دولة سبأ، تحولوا سريعاً إلى قبائل، وحدثت هِجْرات كثيرة من الجنوب إلى الشمال، وإلى المناطق العربية.
وهناك كتاب في هذا الشأن يمكن أن يُرجع إليه وهو كتاب: "الثقافة العربية أسبق من ثقافة العبريِّين واليونان" للأستاذ محمود عباس العقاد، وهو يرى أن المنطقة العربية القديمة تشمل الجزيرة العربية، وتشمل الشام، وتشمل العراق، وتشمل حتى مصر، والمغرب العربي، مع أن المنطقة العربية الآن هي المنطقة العربية القديمة، وهذه النظرة التوسعية الشمولية، تجعلنا نعيد كثيراً من الحِسابات والأحكام، لأن كثيراً من الباحثين حينما يتكلّم عن الثقافة العربية القديمة، يحصر كلامه في شِبه الجزيرة العربية فقط، وهذه تكون أحكاماً مسوّرة أو محدودة بقيود كثيرة.
ولكن هنا شُبْهة أثيرت، وهي: شُبْهة تَفوُّق الجِنْس الآري على الجنس السامي، سواء كانوا عرباً أو غير عرب، وهذه الشبهة أثارها المستشرقون الأوربيون وغيرهم، حتى يثبتوا أن الرومان، وأن الجنس الآري، وأن الأوربيِّين بصفة عامة، هُم جِنس مُتَفوّق تفكيراً، وسلوكاً، وحضارةً، وميراثاً، وما إلى ذلك. وهذه الشبهة مَرفوضة، لأنه ليس هناك جِنس مميز من أول التاريخ إلى آخره، وإنما التأثر والتأثير و الصلات بين الحضارات.

نسأل سؤالاً: ما أهم معارف العرب وعُلومهم في العصر الجاهلي؟ العرب لم يكن عندهم عِلْم مُنَظَّم ولكن عندهم معَارف كثيرة.
أولاً: عِلْم الأنساب والأيام.
ثانياً: معْرفة العرب بالنجوم ومطالعها وأنوائها، ولذلك نرى رأياً للجاحظ في هذا الكلام وآراء كثيرة. يقول الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين": وإنَّ العرب عرفوا الأنواء ونُجوم الاهتداء، لأن من كان بالصحاح الأماليس، -أي: الأرض المستوية التي ليس بها ماء ولا شجر- مضطرّ إلى التماس ما يُنْجيه ويُؤدّيه -أي: يُعْينه- ولحاجته إلى الغَيث وفِراره مِن الجَدب، وضَنه بالحياة، اضطرته الحاجة إلى تَعرُّف شَأن الغَيث، مِن أين يأتي؟ ما هي أحواله؟ ما هي مَواعِيده؟ ولأنه في كل حال يرى السماء وما يجري فيها من كوكب، ويرى التعاقب بينها، والنجوم الثوابت فيها، وما يسير منها مجْتمعاً، وما يسير منها فارِداً، وما يكون منها راجِعاً ومستقيماً؛ كل هذا تأمله في أحوال السموات والكواكب، نشأ من أن الماء يأتيه، كما قال تعالى:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}. فالحاجة دفَعته إلى تأمّل هذه الأشياء، وتُلَخِّص أعرابية هذه المعرفة حين قِيل لها أتعرفين النجوم؟ قالت سبحان الله! أما أعرف أشباحاً وقوفاً عليَّ كلَّ ليلة. وأيضاً هناك أعرابي وصف لبعض أهل الحَاضِرة نجوم الأنواء، ونجوم الاهتداء، ونجوم ساعات الليل، والسُّعُود والنُّحُوس.
وقال قائل لشيخ عبادي: -كان حاضراً- أما ترى هذا الأعرابي يعْرف مِن النجوم ما لا نعْرِف، قال: مَنْ لا يعْرف أجزاع بيته؟ يعني: مَن الذي لا يعرف ما في سقْف بيته، نجد وسيقان النخل تُجْعل سقفاً للخيمة.
إذاً، هناك أيضاً شهادة أخرى يقولها صاعد بن أحمد، المتوفَّى (435هـ): كان للعرب معْرفة بأوقات النجوم ومطالعها ومغايبها. وأيضاً العرب عندهم معارف طبية، والعِيافَة، والتَّنَبؤ، والفِراسَة، والقِيافَة، والحِكَم والأمثال، كل ذلك يدلُّ على رجاحة العقل وعلى النظر الدقيق.
أيضاً، نرى أن معارف العرب كما قلت: هناك معارف طبية ولكنها مبْنية على الملاحظة والخِبرة ومزجت ببعض الخرافات، وأيضاً العِيافَة والتَّنبؤ بملاحظة حَركة الطيور، والفِراسة والقِيافَة. ولكن يهمنا أن نعرف كيف ظهر أثر هذا في أشعارهم؟ نجد أن كتب الأمثال والأدب، تمتلئ بما دار على لسان لقْمان وغيره مِن حكماء الجاهلية من حِكَم، مثل قول أكثم: "مقْتل الرجل بين فكَّيْه"، وقول عامر بن ضرب: "ربّ زارع لنفسه حاصد سواه". وفي الشعر الجاهلي كَثير من هذه الحِكم. وهي تذكر في ثنايا كلامهم، وتدلُّ على ثقافة ومعرفة، ولكنها ثقافة ومعرفة نابعة من التجربة. يقول طرفة في معلّقته:


أرى العيش كنزاً ناقصاً كلّ ليلةٍ
وما تنقص الأيام والدهر ينْفَد
وأيضاً زهير في معلّقته كَثير من الحِكم، وكان شاعراً حكيماً -كما قلنا قبل ذلك-، يقول:

وأعلم ما في اليوم والأمسِ قبْله

ولكنني عن عِلْم ما في غدٍ عمِ

ومن لا يُصانِعْ في أمور كثيرة

يضرَّس بأنياب ويوطَأ بمَنْسِمِ

ومَن لا يَذُدْ عن حَوضه بسلاحه

يُهدَّم ومن لا يَظلِم الناس يُظْلم

ومن هاب أسباب المنايا ينلْنَه

ولو رام أسباب السماء بسلَّمِ

ومهما تكن عند امرئ من خَليقةٍ

وإن خَالها تَخْفى على الناس تُعْلمِ


هذه الحِكم تدلُّنا أيضاً على معرفة وثقافة وإن كانت ثقافة نَظرية.


هذا والثقافة العربية لازالت حية وبأذن المولى لن تترك ولن تهدم