الزهد في الدنيا وإقبال على الآخرة

كان زهد النبي صلى الله عليه وسلم مقرونا بالإيثار والجود والكرم، فهو لا يبقي من متاع الدنيا شيئا لنفسه وإنما يدعه للصحابة وغيرهم من فقراء المسلمين والبدو الرحل الذين كانوا يعانون من الفاقة، فقد كان الزهد من طباعه الكريمة منذ صغره وقبل أن يبعثه الله نبيا، فلم يعرف عنه أنه كان صاحب مال أو أرض أو ثروة سواء في مكة أو في المدينة المنورة، لأنه آثر حياة التقشف في الدنيا التي فضل عليها الآخرة، فقد كان يتوسد فراشا من ليف ورآه عمر بن الخطاب على هذه الحال فبكى. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وما يبكيك؟” فقال عمر: “وما لي لا أبكي وكسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا وأنت على هذه الحال التي أرى”. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا عمر أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟” قال: “بلى”، قال:”هو كذلك”.

وروي عن عبدالله بن مسعود أنه قال: إنه عليه السلام نام على حصير، فأثر الحصير بجلده فجعلت أمسحه وأقول: “ألا آذنتنا فنبسط لك شيئا يقيك تنام عليه”، فقال عليه السلام: “مالي والدنيا. ما أنا والدنيا إلا ****ب استظل تحت ظل شجرة ثم راح وتركها”.

لقد آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحيا حياة الفقراء زهدا في الدنيا. فما أيسر أن يدعو الله أن يجعله صاحب مال وثروة لكي يعيش مرفها، ولكنه انشغل بالرسالة والعبادة عن ملذات الدنيا ومباهجها، وانشغل بالعطاء المتواصل عن ادخار بعض المال، وقالت عائشة رضي الله عنها: “ما كان في بيته شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير (أي نصف صاع من الشعير) فقال لي: إني عُرض عليّ أن تجعل لي بطحاء مكة (أي وادي مكة) ذهبا فقلت: لا يا رب أجوع يوما وأشبع يوما. فأما اليوم الذي أجوع فيه فأتضرع إليك، وأدعوك وأما اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك وأثني عليك”.

مالي وللدنيا؟

وعن عبدالله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما: “ما أمسى لآل محمد كف سوبعه، ولا سفه دقيق” فآتاه إسرافيل عليه السلام فقال: “إن الله سمع ما ذكرت فبعثني إليك بمفاتيح الأرض، وأمرني أن أعرض عليك إن أحببت أن أُسيّر معك جبال تهامة ياقوتا وذهبا وفضة”، فقلت: “إن الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، قد يجمعها من لا عقل له”.

وقيل في حديث آخر إن الذي نزل عليه هو جبريل فقال له: “إن الله تعالى يقرئك السلام ويقول لك: أتحب أن أجعل هذه الجبال ذهبا وتكون معك حيثما كنت، فأطرق ساعة ثم قال: يا جبريل.. إن الدنيا دار من لا دار له” حتى آخر الحديث فقال له جبريل: “ثبتك الله يا محمد بالقول الثابت”.

وقالت عائشة: “ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعا من خبز حتى مضى لسبيله”.

وقالت أيضا: “لم يمتلئ جوف النبي صلى الله عليه وسلم شبعا قط، ولم يبث شكوى إلى أحد. وكأن الفاقة أحب إليه من الغنى، وإن كان ليظل جائعا يتلوى طول ليلته من الجوع فلا يمنعه صيام يومه، ولو شاء سأل ربه جميع كنوز الأرض وثمارها ورغد عيشها. ولقد كنت أبكي له رحمة لما أرى به، وأمسح بيدي على بطنه مما به من الجوع، وأقول: نفسي لك الفداء، لو تبلغت من الدنيا بما يقوتك فيقول: “يا عائشة ما لي وللدنيا، اخواني من أولي العزم من الرسل صبروا على ما هو أشد من هذا فمضوا على حالهم، فقدموا على ربهم فأكرم مآبهم (أي مرجعهم) وأجزل ثوابهم فأجدني أستحيي إن ترفهت في معيشتي أن يقصر بي غدا دونهم (أي أن يكون مقامي دون مقامهم) وما من شيء هو أحب إليّ من اللحوق بإخواني وأخلائي” قالت: “فما أقام بعد إلا شهرا حتى توفي صلى الله عليه وسلم”.

تحذير نبوي

وكان رسول الله يحذر المسلمين من أن يلهيهم حب الدنيا والثراء ويفسد عبادتهم لربهم. فقد روي عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى البحرين يأتي بجزيتها، فقدم بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف، فتعرضوا له فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث رآهم ثم قال: “أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين” فقالوا: أجل يا رسول الله، فقال: “أبشروا وأمَّلُوا ما يسركم، فوالله ما الفاقة أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم”.

وعن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: “جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس: فقال: ازهد في الدنيا يحبك الله.. وازهد فيما عند الناس يحبك الناس”.

وعن عمرو بن الحارث أخي جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنهما قال: “ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته دينارا أو درهما ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها، وسلاحه وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة”.