حال الكفار أثناء نزع الروح

قال تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) [الأنعام/93 ]
لاَ أَحَدَ أَكْثَرُ ظُلْماً مِمَّنْ كَذَبَ عَلى اللهِ ، فَجَعَلَ لَهُ شَرِيكاً أَوْ وَلَداً ، أَوْ ادَّعَى أَنَّ اللهَ أَرْسَلَهُ رَسُولاً إلى النَّاسِ ، وَلَمْ يَكُنِ اللهُ قَدْ أَرْسَلَهُ ( كَالذِينَ يَدَّعُونَ النُّبُوَّةَ ) ، أَوِ ادَّعَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْزِل مِثْلَمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنَ الوَحْيِ وَالقُرْآنِ ( كَالذِينَ قَالُوا : لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا ) .
وَهَؤُلاءِ الظَّالِمُونَ وَأَمثَالُهُمْ جُرْمُهُمْ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ . وَلَوْ تَرَى يَا مُحَمَّدُ حَالَهُمْ وَهُمْ يُعَانُونَ سَكَرَاتِ المَوْتِ ، وَآلاَمَ اللَّحَظَاتِ الأَخِيرَةِ مِنْ حَيَاتِهِم التَّعِيسَةِ ، لَرَأَيْتَ مَالاَ سَبِيلَ إلَى وَصْفِهِ وَتَصْوِيرِهِ مِنْ سُوءٍ ، وَقَدْ جَاءَتْهُمْ مَلاَئِكَةُ المَوْتِ بَاسِطِينَ إِلَيْهِمْ أَيْدِيَهُمْ بِالضَّرْبِ وَالعَذَابِ لِيَسْتَخْرِجُوا أَرْوَاحَهُمْ مِنْ أَجْسَادِهِمْ ، بِقَسْوَةٍ وَعُنْفٍ ، لِمَا كُنْتُمْ تَكْذِبُونَ عَلَى اللهِ ، وَتَسْتَكْبِرُونَ عَنِ اتِّبَاعِ آيَاتِهِ ، وَالانْقِيَادِ إلَى رُسُلِهِ .
" حماية للرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ من أن يكونوا مظنّة تهمة فى صدقهم ، وصدق ما جاءوا به من عند اللّه .. إذ أن الافتراء على اللّه ، والتلبيس على الناس باسمه ، وادعاء النبوة واختلاق ما يكون بين يديها من كلمات اللّه وآياته ـ كل هذا عدوان على اللّه ، وتطاول على ما تفرد به سبحانه من قدرة وعظمة ، وفى هذا مهلكة وضياع لكل من يتلبّس بمنكر من هذه المنكرات .. وليس ثمة عاقل تسول له نفسه أن يقف هذا الموقف المفضوح ، ويعرّض نفسه للفضيحة الفاضحة ، والخزي المبين بين الناس! فكيف بأنبياء اللّه ورسله ، وهم دعاة هدى ، لا يبغون عليه من أحد أجرا ـ كيف يكون منهم الكذب على اللّه والتقوّل عليه بما لم يقل ؟
وإذن فالذين يصطفيهم اللّه لحمل رسالته ، ويضع بين أيديهم وعلى ألسنتهم كلماته وآياته ـ لا يختلط أمرهم على ذى عقل ، ولا تلتبس دعوتهم بدعوة أدعياء النبوة ، لما بين النبىّ والدعىّ من مفارقات بعيدة ، سواء فى ذات النبىّ والدعىّ ، أو فى محامل دعوة النبىّ ودعوة الدعىّ.
ففى سلوك النبىّ ، استقامة ، وصدق ، وعفّة ، وكمال ، فى كل أموره ، ظاهرها وباطنها جميعا ، مما لا يكون موضع شك أو إنكار عند أعدائه ، فضلا عن أوليائه ..وليس كذلك الدعىّ الذي لا يمكن أن يقف هذا الموقف المخزى إلّا إذا كان على قدر كبير من الوقاحة ، والتجرد من الحياء ، وعدم المبالاة باتهام الناس له ، وتشنيعهم عليه ..
وفى محامل رسالة النبي .. النور والهدى ، والخير ، والعدل ، والإحسان ..للناس جميعا .. لا لطائفة من الطوائف ، ولا لطبقة من الطبقات .. أما ما تحمل رسالة المدعى ـ إن كان له رسالة ـ فهو الملق والرياء ، والاستجابة للعواطف الخسيسة فى الناس ، وإباحة المنكرات لهم ، ودعوتهم إلى تلك المنكرات باسم هذا الدين الكاذب ، الذي يباركها ويبارك أهلها ..
وفى قوله تعالى : « وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ. تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ » عرض لهؤلاء الظالمين الذي افتروا على اللّه الكذب ، وقالوا بما لم يقبله اللّه.وفى هذا العرض يبدو المصير الذي يصير إليه كل ظالم ، حين تنتهى أيامه القصيرة فى هذه الدنيا ، بحلوها ومرها ، وبلهوها وعبثها ، وإذ هو على مشارف الحياة الآخرة ، وملائكة الرحمن يمدّون أيديهم لانتزاع ثوب الحياة الذي يلبسه هذا الجسد ، الذي كان يمشى فى الأرض مختالا فخورا ، يحسب أن ماله أخلده .. وما هى إلا لحظات ، يعالج فيها سكرات الموت ، حتى يكون جثة هامدة ، كأنه لقى ملقى على الطريق ، بل إنه يصبح سوأة يجب أن تختفى وتتوارى عن الأنظار ، وتغيّب فى باطن الأرض .. وليس هذا فحسب ، بل إن ذلك هو بدء لمرحلة جديدة ، لحياة أخرى غير الحياة التي كان فيها .. إنه سيبعث من جديد ، ويلبس ثوب الحياة مرة أخرى ، ولكن لا ليكون مطلق السّراح ، يلهو ويعبث ، بل ليلقى به فى جهنم ، وليكون وقودا لجحيمها المتسعر! وفى قوله تعالى : « أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ » إشارة إلى هذا الأمر الملزم ، الذي يحمله الملائكة ، لقبض أرواح الظالمين ، وأن الملائكة ، وهم الموكلون بقبض هذه الأرواح ، يحملون هؤلاء الظالمين حملا على انتزاعها بأنفسهم ، وإعطائها لهم بأيديهم ، وفى هذا تنكيل بهم ، وإذلال وقهر لهم ، بأن يحملوا حملا على انتزاع حياتهم بأيديهم .. هكذا « أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ».
. وهل يعطى الإنسان نفسه بيده ؟ إنه لأهون عليه كثيرا أن ينتزعها أحد منه قهرا وقسرا ، من أن يكون هو الذي يقدّم بيديه أعزّ شىء يملكه ، بل كل شىء يملكه .."
والمشهد الذي يرسمه السياق في جزاء هؤلاء الظالمين (أي المشركين) مشهد مفزع مرعب مكروب مرهوب.الظالمون في غمرات الموت وسكراته - ولفظ غمرات يلقي ظله المكروب - والملائكة يبسطون إليهم أيديهم بالعذاب ، وهم يطلبون أرواحهم للخروج!
وهم يتابعونهم بالتأنيب : «وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ : أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ، وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ» ..
وجزاء الاستكبار العذاب المهين ، وجزاء الكذب على اللّه هذا التأنيب الفاضح .. وكله مما يضفي على المشهد ظلالا مكروبة ، تأخذ بالخناق من الهول والكآبة والضيق!