موقف الإسلام من التعصب

انطلقت الدعوة الإسلامية في مجتمع كان يسوده التعصب الأعمى للقبيلة، وتجمع أفراده مشاعر الولاء للأهل والأقارب تحت شعار " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " ، وقد عبر الشاعر الجاهلي عن هذا التعصب الأعمى بقول:
ومـا أنــا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
وتمثلت مظاهر هذه العصبية الجاهلية في الغزو والثأر، والتعصب للعشيرة والعادات والتقاليد الموروثة عن الآباء والأجداد.
وقد استطاعت الدعوة الإسلامية في عهد الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ وصحابته الكرام ، إخراج الناس من حماة هذه العصبية ومساوئها إلى سماحة الإسلام ورحمته، حيث حلت رابطة العقيدة والإيمان محل رابطة العصبية الضيقة ، وأصبح الإيمان والعمل الصالح أساس التفاضل بين الناس ، قال تعالى : " يأيها الناس إنا خلقنكم من ذكر وأنثى وجعلنكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عن الله أتقكم إن الله عليم خبير (13) " الحجرات .
فأصبح هؤلاء الناس، بعد اعتناقهم لهذا الدين العظيم، إخوة تسود بينهم المحبة والتضامن والتكافل
، بعد أن كانوا أعداء مختلفين متخاصمين، قال تعالى:"واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم(103) " آل عمران.




مفهوم التعصب
يقوم التعصب على تحيز الشخص إلى طائفة أو مذهب أو قوم أو فكر، فيدفعه ذلك إلى الاعتقاد بأن ما يحمله أو ينتمي إليه هو الصواب الذي لا يحتمل الخطأ، وما عداه هو الباطل المرفوض.



موقف الإسلام من التعصب
حذر الإسلام من التعصب الأعمى، ونهى عنه، لما له من أثار سيئة مدمرة كإثارة الفتن، وغرس مشاعر الحقد والكراهية، وسفك الدماء بين الناس، ومنع الآخرين من ممارسة حقوقهم المشروعة، كحق التعبير وإبداء الرأي.
وقد أرسى الإسلام، من خلال مبادئه الإنسانية السامية، أحكاماً وقواعد للتعامل بين الناس والتعارف بينهم، تقوم على العدل والمساواة في الحقوق والواجبات، وأكد الإسلام أن أصل الإنسان واحد، وأن الناس متساوون في الحقوق العامة، قال الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ :" يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى". رواه أحمد في مسند الأنصار حديث رقم 22391 .
فالإسلام منع أن يكون معيار التفاضل بين الناس، قائماً على أساس العرق أو اللون أو اللغة أو الجنس، ووضح أن هذا الاختلاف إنما هو دليل على قدرة الله تعالى عز وجل، وليس للتفاضل، قال تعالى:" ومن ءايته خلق السموت والأرض واختلف ألسنتكم وألونكم إن في ذلك لأيت للعلمين (22). " الروم.
والإسلام لم يمنع أن يكون الإنسان له روابط وصلات غريزية كرابطة الدم والمصالح الشخصية، إلا أنه يريد أن يجعل ولاء المسلم لعقيدته ودينه أولاً، ولا يجوز تفضيل أي رابطة عليها ، قال تعالى :" قل إن كان ءاباؤكم وأبناؤكم وإخونكم وأزوجكم وعشيرتكم وأمول اقترفتموها وتجرة تخشون كسادها ومسكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره والله لا يهدى القوم الفسقين(24)." التوبة .
فولاء المسلم لعقيدته، لا يتعارض مع مشاعره الفطرية في الميل إلى الأهل والعشيرة والوطن وغير ذلك ويدل على ذلك أن الرسول – صلى الله عليه وسلم _ نظر إلى مكة مودعاً حينما أخرجه قومه منها ، قائلاً :" والله أنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت ." رواه الترمذي في كتاب المناقب حديث رقم 2860 . ، وعندما سئل _ صلى الله عليه وسلم _ :" أمن العصبية أن يحب الرجل قومه ؟ قال : لا ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم." رواه ابن ماجة في كتاب الفتن حديث رقم 3939 . ، وليس من التعصب المذموم أن ينتصر المسلم للحق ويعمل على رفع الظلم عن إخوانه المسلمين ، ويعمل على تحقيق الخير والمنفعة لهم ، بل هو من الأمور الواجبة على المسلم.



من صور التعصب
تتعدد صور التعصب حسب منشئها النفسي أو المعرفي فقد ينشأ التعصب في مجتمع إذا وجد بيئة مناسبة له، من حالات نفسية كالغضب والحقد، أو دوافع فكرية تؤثر في العمل والسلوك، قائمة على الجهل وسوء الفهم أو سوء الظن، ومن صور التعصب :

أولاً: التعصب للقوم
كان لتقسيم الاستعمار للعالم الإسلامي إلى دول قطرية ، يفصلها عن بعضها حدود مصطنعة،أثار سلبية على وحدته،وهذا لا ينسجم مع دعوة الإسلام إلى وحدة الأمة الإسلامية وتوحد الصف والتعاون والتكافل والتضامن فيما بينهم، قال تعالى:" إن هذه أمتكم أمة وحدة وأنا ربكم فاعبدون (92)." الأنبياء . ، إن التعصب القومي يعني الانتماء الأعمى لدولة من الدول القطرية الحديثة التي أقيمت على أساس قومي، والتمييز ضد الدول والشعوب الأخرى، وبصورة تؤدي إلى الاحتكاك بين هذه الدول، بسبب النظرية الفوقية، والنزاع على المصالح دون مراعاة للعدل في توزيع الثروات، والذي أدى تاريخياً إلى نشوب حروب مدمرة.

ثانياً: التعصب للرأي
ويقصد به أن يتعصب الإنسان لرأيه ، ويتمسك به، ويعتقد أنه صحيح لا يحتمل الخطأ، بينما يرى رأي غيره خطأ لا يحتمل الصحة، وبالتالي فإنه يرفض أراء الآخرين ويعاديها، حتى ولو كانت صحيحة دون نظر أو تمحيص ، وهذا يعني إلغاء الأخر وعدم الاعتراف بحقوقه وحريته في إبداء الرأي .
وأمثال هؤلاء يرفضون أسلوب الحوار والنقاش ويميلون إلى الجدل العقيم والجمود.
وقد نهى الإسلام عن هذا السلوك ، وشرع الشورى التي تحمي الإنسان من التعصب للرأي، وعدم تقبل رأي الآخرين أو الدخول معهم في حوار هادف بناء للتوصل إلى أفضل الآراء وأقومها.
ولقد ضرب لنا الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ مثالاً رائعاً في الشورى، فبالرغم من تأييده بالوحي، كان يستشير أصحابه ومن حوله ويأخذ برأيهم إذا كان في ذلك الحق.
ومن صور التعصب للرأي ما نراه من تعصب لدى الأفراد والجماعات لحزب أو مذهب أو فكرة مما يدفع إلى النظر إلى الآخرين بازدراء واحتقار وجفاء، ويصل الأمر أحياناً إلى الخصومة والعداء.
وسيرة السلف الصالح من هذه الأمة، تدل على رفضهم لمبدأ التعصب للرأي أو المذهب، حيث كانوا يتقبلون أراء الآخرين، حتى ولو كانت مخالفة لأرائهم.
ومن أمثلة ذلك قول الأمام الشافعي رحمة الله:" رأيي صحيح يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".
إن دعوة الإسلام تقوم على الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، قالت تعالى:"ولا تجدلوا أهل الكتب إلا بالتي هي أحسن (46)." العنكبوت . ،فإذا كان هذا الأمر الرباني مطلوباً مع غير المسلمين، فمن باب أولى الالتزام به مع المسلمين، إذ أن الخلاف في الرأي لا يفسد الود، ولا يجوز أن يكون سبباً للتعصب والتفرقة والعداء.




أثار التعصب
حارب الإسلام التعصب بجميع أشكاله وصوره، لما له من أثار سلبية على الفرد والمجتمع، ومن أبرز هذه الآثار :
1- يدفع التعصب بصاحبه إلى سلوكيات غير مقبولة تتنافى مع الفضيلة، فقد يظلم ويستبد، استخفافاً بالآخرين وبآرائهم، وقد يكذب انتصاراً لرأيه وفكره ومذهبه.
2- يؤدي التعصب الفكري إلى التطرف والغلو والتشدد، كالتطرف الديني أو الفكري أو المذهبي.
3- يؤدي التعصب إلى التمييز على أساس العرق أو الجنس أو اللون، مما يؤدي إلى حرمان الآخرين م حقوقهم وكرامتهم الإنسانية التي أقرها الإسلام ومنحها لجميع البشر على السواء.
4- التعصب يعمل على تمزق الأمة الإسلامية وفرقتها واختلافها، مما يؤدي إلى انتشار العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع، ويشغلهم ذلك عن البحث في القضايا المهمة والأساسية التي تضمن عزة المسلمين وكرامتهم.