مع مطلع العام الهجري
إن لكل مؤمن هجرة في مناسبة الهجرة وهجرة المؤمن في هذه المناسبة الكريمة هي في قول النبى{المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسانِهِ وَيَدهِ والمؤمن من آمن جاره بوائقه[يعني شروره وآثامه] والمهاجِرُ مَن هَجرَ ما نَهى اللّهُ عنه} [1]فالمؤمن في نهاية عام وبداية عام جديد لابد له من وقفة مع نفسه يقلّب صفحات العام الماضي أمام عينيه فما وجد فيها من عمل حسن شكر الله عليه وسأله أن يزيده منه وما وجد فيه من عمل فيه إثم أو زور أو غفلة أو جهالة سواء كان عن قصد أو عن غير قصد تاب إلى الله منه وسأله أن يسعه بواسع مغفرته وشامل رحمته U ولذلك كان دأب السلف الصالح أن يجعلوا اليوم الأخير من العام كله للتوبة والاستغفار مما مضى من الذنوب والآثام فلا تكل ألسنتهم من الاستغفار وتقف أفئدتهم وقلوبهم على باب التواب الغفار تسأله بقلوب منكسرة وأبدان خاشعة غفران ما مضى والعفو عما سلف ويضرعون إليه أن يوفقهم فيما بقى من الأوقات والأيام والأنفاس وكانوا يحرصون أن تكون نهاية العام خير وبدايته خير فتطوى صحف العام الماضي بالأعمال الصالحة فيجعلون الليلة الختامية للعام مع الله في كتاب الله أو في عبادة واردة في كتاب الله أو مأثورة عن سيدنا رسول الله أو على الأقل يغلقون ألسنتهم في هذه الليلة عن الخنا والفجور وقول الزور واللغو فضلاً عن الغيبة والنميمة وما شابه ذلك لقوله{إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا}[2]فإذا ختم العام بخير لعل الله يأتي على ما فيه من ذنوب وسيئات فيمحوها بل ربما يبدلها كما قال عز شأنه بحسنات {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}وقد قال حديثاً عظيماً وأصلاً كريماً وعملاً سهلاً يسيراً على كل مؤمن فقال{إذا قال العبد المؤمن لا إله إلا الله ذهبت إلى صحيفته فمحت كل سيئة تقابلها حتى تجد حسنة تقف بجوارها }[3] يعنى ما بينها وبين العمل الصالح المسجل في صحيفتك تمحوه أي أن لا إله إلا الله تمحو ما قبلها من الخطايا ويفتتحون هذا العام بالصيام لقوله{أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللّهِ الْمُحَرَّمُ}[4]ولا شك أن العمل الذي بدايته الصيام عمل ناجح وصالح على الدوام لما ورد فى الأثر { إذا أحب الله عبداً وفقه لأفضل الأعمال في أفضل الأوقات } وكان بعضهم يفتتح في هذا اليوم القرآن الكريم ولا يتركه حتى يأتي على نهايته، ومن كان يعلم من نفسه العجز كان يقرأ في صبيحة ذلك اليوم بسم الله الرحمن الرحيم مائة وأربع عشرة مرة يعني بعدد سور القرآن الكريم ويكثر من قراءة سورة الإخلاص لأنه ورد في الحديث الشريف أنها ثلث القرآن وكان كثير منهم يصلي في هذه الليلة أو هذا اليوم صلاة التسابيح لوصية رسول الله لعمه العباس في شأنها حيث قال له{ يَا عَبَّاسُ يَاعَمَّاهُ أَلاَ أُعْطِيكَ؟ أَلاَ أَمْنَحُكَ؟ أَلاَ أَحْبُوكَ؟ أَلاَ أَفْعَلُ بِكَ عَشْرَ خِصَالٍ إذا أَنْتَ فَعَلْتَ ذَلِكَ غَفَرَ الله لَكَ ذَنْبَكَ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ قَدِيمَهُ وَحَدِيثَهُ خَطْأَهُ وَعَمْدَهُ، صَغِيرَهُ وَكَبِيرَهُ سِرَّهُ وَعَلاَنِيَتَهُ عَشْرَ خُصَالٍ أَنْ تُصَلِّي أَربَعَ رَكَعَاتٍ ثم وصفها له وقال له في نهايتها: إنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُصَلِّيهَا في كلِّ يَوْمٍ فَافْعَلْ، فإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي كلِّ جُمُعَةٍ مَرَّةً، فإِنْ لَمْ تَفْعَل فَفِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، فإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي عُمُرِكَ مَرَّةً } [5] فكانوا يبدأون العام بهذه الصلاة طلباً لمغفرة الله ورجاءاً فيما عند الله أما الهجرة التي يهاجرونها فإن كل مؤمن في هذا العام الجديد يراجع نفسه ويطابق أوصاف نفسه على ما ورد عن الحبيب المختار من ناحية الأخلاق والعبادات والعادات والمعاملات فإن وجد في نفسه خلقاً لا يتطابق مع الشمائل المحمدية هجره وكان في ذلك هجرته وانتقل إلى الأفضل والأعظم بمعنى إذا وجد في نفسه شيئاً من الكبر ومن صفات الحبيبe التواضع هجر الكبر وسارع إلى التخلق بالتواضع لله ويحثه على ذلك قوله{ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنا، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. قَالَ: «إِنَّ الله جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ. الْكِبْرُ : بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ}[6] [يعني عدم الاعتراف بالحق مع التلبس بالباطل يعني يرى الإنسان نفسه مخطئاً ولا يعترف بخطئه ويصر أنه على صواب ] لأن الاعتراف بالحق فضيلة وهذا مرض قد شاع وانتشر في عصرنا وزماننا فإن المرء يعرف ويتيقن أنه على خطأ ولكنه يكابر ويجادل ويرفض الاعتراف بذلك وليس هذا من شرع الله ولا من دين الله في قليل أو كثير بل هو كما نعى على أهله الله{أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}لأن المؤمن يعترف بخطئه ولو كان مع طفل صغير فضلاً عن امرأة أو صبي أو أخ أو مسلم مهما كان شأنه فإن الاعتراف بالخطأ يمحو الضغينة في قلوب الآخرين ويستل الحقد من قلوب الآخرين لأن اعتراف الإنسان يكون بمثابة غسيل لقلوب الآخرين{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}كذا إن كان يجد في نفسه غلظة بدلها بالشفقة والرحمة وجعل قدوته قول الله {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} وإن وجد في نفسه شحاً عالجه بالكرم المحمدي وإن وجد في نفسه عجلة عالج ذلك بالحلم النبوي وهكذاينظر في أخلاقه ويقيسها بشمائل وصفات وأخلاق رسول الله ويتلو في ذلك بعمله لا بلسانه قول الله{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } وقس على ذلك بقية الشمائل والأخلاق ثم ينتقل إلى عباداته فإن وجد في عباداته تكاسلاً أو تراخياً أو قلة إخبات وخشوع وخضوع رجع إلى نفسه ليصلح من شأنه فإن وجد نفسه يصلي الصبح بعد شروق الشمس فليبكي بدل الدمع دماً وإذا وجد أن نفسه لا تتأسف على ذلك ولا تحزن على ذلك فإن الذي يستيقظ من نومه بعد الشمس ولا يجد في قلبه لوماً ولا توبيخاً ولا تعنيفاً لنفسه فقد سقط من عين الله لأن من عظمة الله جعله يعظم فرائضه ومن سقط من عين الله جعله يتكاسل ويتراخى عن فرائضه وقد وصف بذلك المنافقين فقال {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } وقال النبى{ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ شُهُودُ الْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ، لاَ يَسْتَطِيعُونَهُمَا }[7]، وقال سيدنا عبد الله بن مسعود(أتى علينا وقت في زمن رسول الله كان لا يتخلف عن صلاة الجماعة في وقتها إلا منافق ظاهر النفاق)فيتخلص من أمثال هذه العادات وأيضاً إذا وجد نفسه يجلس يتحدث أو يجلس وليس له عمل ويستمع إلى الآذان ولا يجد من نفسه عزيمة ولا حركة لتلبية الآذان في وقته فليعلم علم اليقين أنه في هذا الوقت ممن باءوا بالخزلان من الرحمن U لأن الله لا يحضر أمام حضرته في الصف الأول في الوقت الأول إلا من يحبه وفى الأثر كما أسلفنا: { إذا أحب الله عبداً سخره لأفضل الأعمال في أفضل الأوقات}وقد قال له سيدنا جابر لرسول الله{أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الصَّلاَةُ لِوَقْتِهَا }[8]ثم بعد ذلك يكون للمسلم وقفة مع عاداته فإن كانت عاداته توافق شرع الله حمد الله عليها وذلك كعاداته في أكله وفي شربه وفي زيه وفي نومه وفى مشيه وفي حديثه وفي جلوسه مع الآخرين فإن كان من الذين{إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً }فرح وبشر نفسه لأنه من عباد الرحمن أما إذا كان مقتراً على نفسه، وأهله مع السعة أو مبذراً فإن هذه علامة أن الله لا يحبه لقوله{إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ }وقوله{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ}فمثلاً إن كان يشرب دخاناً فالله أمرنا أن نشكره على النعم ومن أجل النعم نعمة المال وهل يليق بمؤمن أعطاه الله المال أن يشكره بحرق هذا المال؟ هذا مع أنه يحرق مع المال صدره ورئتيه وأعضاء جسمه لا يحرق المال فقط بل يضر نفسه ويضيق على أهل بيته فليهجر هذه العادة الذميمة مع مطلع العام الهجري الجديد ليكون من المهاجرين{لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}ما جزاؤهم؟{ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } إذا كان يجالس بعض الغافلين الذين يخوضون بالباطل في أعراض الآخرين ولا يتورعون عن الغيبة والنميمة فليمتثل لقول ملك الملوك{فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}يهجر هذه المجالس ويجالس الذين أمر الله المؤمنين أن يجالسوهم في قوله{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ }وكذلك إذا كان له عادات في مشيه وفي نومه وفي حديثه لا تطابق ما ورد في كتاب الله وفي سنة رسول الله فليهجرها ليكون مهاجراً وكذلك في معاملاته فالرجل الصالح في زماننا هو الذي يتعامل مع الخلق على سنة سيد الخلق فلو كانت الكذبة الواحدة ستدر عليه ملايين الدولارات يرفضها ويأباها لأن فيها مخالفة لله ومخالفة لحبيب الله ومصطفاه ويكفي أن الكاذب يدخل في قول الله {فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ }فلا يدخل في لهو ولا في مزاح ولا في جد لا مع صبيان ولا مع أهله ولا مع إخوانه لأن المؤمن الصادق في كل أقواله وأعماله فيتحرى في تعامله مع إخوانه أن يكون من المؤمنين وهذا يقتضي أن يتبرأ من الغش لقول سيد الأولين والآخرين: {مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا}[9] فلا يغش الأمة أو أي فرد من الأمة في نصيحة أو في قول أو في عمل أو في بيع أو في شراء أو ما شابه ذلك فلو طالبه إنسان بنصيحة وقال خلاف ما يعرف ويعلم إن ذلك خلاف الحقيقة فهو غش يحاسب عليه يوم الدين وما أكثر الغشاشين في زماننا بهذه الطريقة إذاً عرفنا من هو المهاجر؟ المهاجر هو الذي يهجر من نفسه خلقاً ذميماً أو عادة سيئة أو معاملة غير طيبة وقد قال أحد الصالحين(ليست الكرامة أن تطير في الهواء لأن أي طائر يفعل ذلك، ولا أن تمشي على الماء لأن الأسماك تستطيع ذلك، ولا أن تقطع ما بين المشرق والمغرب في لحظة لأن إبليس يفعل ذلك ولكن الكرامة أن تغير خلقاً سيئاً فيك بخلق حسن)وهذه هي العظة الكبرى من الهجرة فإن النبي استطاع أن يغير أخلاق العرب من الفسق والفجور والظلم والكبرياء واللهو والمجون والفخر بالآباء والأجداد والأحساب والأنساب إلى فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى قال: {المهاجِرُ مَن هَجرَ ما نَهى اللّهُ عنه}


[1] متفق عليه.

[2] رواه ابن حبان في صحيحه والبخاري والطبراني في الكبير، والدار قطنى في السنن عن سهل ابن سعد.



[3] رواه أبو يعلى في مسنده عن أنس.



[4] رواه أحمد وأبو داود في سننه والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة.



[5] رواه ابن ماجة في سننه والبيهقي في سننه، السيوطي في الكبير، وأبو داود في سننه والحاكم والترمذي عن ابن عباس.



[6] رواه مسلم والسيوطي في الفتح الكبير عن ابن مسعود.



[7] رواه الطبراني في الكبير عن قتادة، والأوسط عن عائشة.



[8] رواه مسلم عن ابن مسعود، والخطيب عن أنس والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود.



[9] رواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في سننه وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة
.
كفاية الله لرسوله أمر الكافرين

{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ }وعد كريم من العزيز الحكيم وعد فيه بالنصر عباده المؤمنين وحزبه المفلحين وقد أكد الوعد بإنَّـا وزاد تأكيده بلام التوكيد{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا}وليس الرسل وحدهم ولكنه شملنا معهم{وَالَّذِينَ آمَنُوا}أي نحن ننصر الرسل والمؤمنين الذين معهم في أي مكان يا رب؟ قال في الحياتين في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، في الدنيا وفي الآخرة أظن بعد هذا الوعد ماذا يريد الإنسان بعد ذلك؟ عندما يكون الوعد صريحاً من الله بأن الله يتعهد ويؤكد وليس بأداة واحدة من أدوات التوكيد ولكن بأكثر من أداة بأنه سينصر رسله والمؤمنين في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. ماذا يريد المؤمن بعد ذلك من الله؟هذا الوعد ظهر بأجلى مظهره في هجرة سيدنا رسول الله فالكفر كله تحدى رسول الله ووقفوا جميعاً ضده حتى كان يتجشم الصعاب من أجل أن يبلغ دعوة الله فقد كان العرب يأتون للحج من أول شهر شوال يعني عقب عيد الفطر وكان لهم ثلاثة أسواق سوق عند مكة وهو عكاظ وسوق عند منى وهو ذي المجنة وسوق قريب من عرفات وهو ذي المجاز فيخرجون من هذا السوق إلى هذا السوق إلى هذا السوق ويذهب رسول الله لتبليغ دعوة الله فيأتي الوليد بن المغيرة عليه لعنة الله وكان قائد الفريق الذي يتزعم القضاء على دعوة رسول الله وأبو لهب قائد فرقة المطاردة التي تطارد رسول الله فيحضر الوليد بن المغيرة ليرى القبائل التي تصل إلى مكة أو إلى هذه الأسواق وكانت تأتي من اثنى عشر طريقاً فكان يقسم أعوانه إلى اثنى عشر فريق وكل فريق له أربعة يقفون بالتناوب اثنان يسلموا اثنين بحيث يقفون على الطريق طوال الوقت يصفون الرسول لهؤلاء القوم ويصفونه بأنه ساحر أو مجنون ويقولون لهم نحن قومه وأعرف الناس به فلا تسمعوا لكلامه ويحذرونهم تحذيراً شديداً من رسول الله أما الفرقة الثانية بقيادة عمه أبي لهب وكان اسمه عبد العزى فقد كان يسير خلفه على الدوام وكلما يجلس الرسول مع جماعة ويكلمهم يقول أبو لهب لا تسمعوا لكلامه هذا ابن أخي وأنا أعرف به فلا تصدقوه فيقولون له إذا كان عمك يقول فيك هذا الكلام عندما تتبعك عائلتك وعمك نتبعك نحن هذا في الأسواق.
أما في داخل مكة فكانت فرق الاستهزاء برسول الله جماعة يصفرون عليه عندما يمشي وجماعة يصفقون ويطبلون عندما يرونه ماشياً وجماعة عندما يرونه يمشون أمامه وخلفه ويتهكمون ويستهزءون ويتغامزون عليه كل هذه ألوان لمعاكسة رسول الله وكان رسول الله يؤيده الله{وقد استهزأ أحدهم بالنبى عليه السلام فى بعض الاوقات حيث سار خلفه عليه السلام فجعل يخلج انفه وفمه يسخر به فاطلع عليه فقال له «كن كذلك» فكان كذلك الى ان مات لعنه الله واستهزأ به عليه السلام عتبة بن ابى معيط بصق فى وجهه فعاد بصاقه على وجهه وصار برصا ومر عليه السلام بجماعة من كفار اهل مكة فجعلوا يغمزون فى قفاه ويقولون هذا يزعم انه نبى وكان معه عليه السلام جبريل فغمز جبريل باصبعه فى اجسادهم فصاروا جروحا وانتنت فلم يستطع احد ان يدنو منهم حتى ماتوا }[1] أى أن الله تعالى انتقم منهم جميعاً لكننا نرى كيف تحمل رسول الله كل ذلك وكان هناك من يجعله ساجداً ويضع عليه أحشاء الحيوانات ويضعون في طريقه الشوك أنواعاً وأنواعاً من العذاب لا تتحملها الجبال الراسيات تحملها رسول الله وكذلك تحملها صحابة رسول الله مع أن رسول الله كان عمه يدافع عنه ولكن كان هناك أناس غرباء لا يجدون من يدافع عنهم والأعجب من ذلك أنهم قاطعوه وعائلته ثلاث سنوات ومن معه من المسلمين لا يبيعون لهم ولا يشترون منهم ولا يزوجونهم ولا يتزوجوا منهم مقاطعة كاملة حتى أنهم لم يجدوا ما يأكلوه فهناك من يأكل ورق الشجر أو أعشاب الأرض أو لا يجد مع شدة الجوع ومع ذلك صبروا حتى رنَّت شهادة التوحيد في آفاق العالم العلوي والسفلي ودوت في أرجاء الكون كله ونصره الله وأعز دينه ونصر جنده وهزم الأحزاب وحده هذا كله أيها المسلمون يتجلى في قصة الهجرة بعدما نصر الله رسوله وأيده وأكرمه واتفق مع الأنصار أن يهاجر إلى مدينتهم فقال لأصحابه (لقد جعل الله لكم مكاناً) فأذن لهم بالهجرة إلى المدينة فذهبوا إلى المدينة فلم يبق في مكة من المسلمين المعروفين غير سيدنا رسول الله وسيدنا أبو بكر وسيدنا علي وبعض المستخفين بالإسلام وهاجر الجميع، فقال الكفار هذه فرصة لا تفوتنا لأنه لو خرج من بيننا وذهب إلى المدينة سوف يجند هناك جيشاً ويحاربنا ولن نقدر عليه فقاموا بعمل اجتماع عاجل في دار الندوة بحضور إبليس اللعين لإعداد خطة حكيمة للقضاء على الرسول بدون إثارة قبيلة بني هاشم فقال أبو البحتري بن هشام: الرأي أن نحبسه في غرفة ونمنع عنه الطعام والشراب إلى أن يموت فقال: إبليس إن هذا ليس برأي لأنكم تعرفون مدى حبهم له ولو وضعتموه في سجن ومن خلفه سبعون سجناً سوف يصلون إليه ويخرجوه وينتصرون عليكم وكانت هناك آراء كثيرة ورفضت فقال أبو جهل: نأخذ من كل قبيلة واحداً ويقفون جميعاً على باب الرسول ويحيطون بالمنزل وعندما يخرج لصلاة الفجر يضربونه ضربة رجل واحد بحيث تختلط به جميع السيوف فيشترك في قتله الجميع فلا تستطيع بنو هاشم محاربة الجميع فيرضون بالدية فقال لهم إبليس:هذا الرأي الصواب الذي ليس بعده رأي ووافق الجميع على هذه الخطة وهذا الاقتراح ووكلوا أبا جهل في تنفيذ هذا الأمر والقيام به واتفقوا على أن يكون هذا الأمر سرياً للغاية وينفذونه فوراً حتى تكون الخطة عاجلة وقال بعض المؤرخين بأن الاجتماع كان في الصباح وتنفيذها في المساء في نفس اليوم وقيل أن أبا جهل قال لهم لا أحد يخرج من هذا الاجتماع ومن هذا المكان إلا أن يأتي لكم الخبر بأننا قتلنا محمداً لأنه لو خرج واحد منكم ربما يذيع الخبر وهذا الذي نزل فيه قول الله u في الحال{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ} يعني يحبسوك {أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ}الثلاث خطط{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}وهنا وقفة أن مكر الله ليس كمكرنا فمكر الله يعني تدبير الله ومعناها تقدير الله ومعناها تصريف الله لأن مكرنا الكيد والحيل والدهاء لكن مكر الله التدبير والتقدير والتصريف منه لعباده واختار أبو جهل سبعين رجلاً بسيوفهم حول بيت سيدنا رسول الله والسبعين كثيرين وغير معقول أن السبعين يشتركون في القتل واختار من السبعين خمسة يقفون على الباب ويضربونه جميعاً مع بعضهم وفي نفس الوقت يقف على جميع فتحات مكة قوات من أجل إذا خرج تمسك به القوات يعني حصار شديد في جميع أنحاء مكة فانظر كيف ينصر الله رسله{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا}مع أنهم يعسكرون حول البيت ومتيقظين وليسوا نائمين وأبو جهل يقول لهم أن محمداً يقول أن من يتبعه سوف يملك ملك كسرى وملك قيصر ويوم القيامة يكون له جنان يعني حدائق مثل حدائق الأردن والذي لم يتبعه سيقتل قتل عاد وإرم ويوم القيامة يدخل جهنم فيخرج عليهم رسول الله ويقول لهم {نعم أنا أقول هذا وأنت منهم} وهذا الكلام في وجه أبي جهل وأخذ حفنة من تراب ووضعها على رءوس الجميع كيف يكون ذلك؟ما هو السلاح الذي كان معه؟{يس{1} وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ{2} إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ{3} عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{4}[ إلى]فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ{9}ماذا حدث في هذا الوقت؟ أنزل الله سلاح الضباب الكثيف على أعينهم فأصبحوا لا يرون من أمامهم وليس ذلك فقط ولكن الله جعل على آذانهم غشاوة لا يسمعون حديثه أو مشيه أو رؤيته وأيضاً أفقدهم الله الإحساس بالتراب الذي وضع على رءوسهم وكأن هذا التراب من جهنم فكل من جاء على رأسه تراب قتل في غزوة بدر أو في غزوة أحد وهذه إرادة الله ويقول في ذلك النبى{ إذا أَرَادَ الله قَبْضَ عَبْدٍ بِأَرْضٍ جَعَلَ لَهُ إِلَيْهَا حاجَة }[2]ولذلك فالرسول في غزوة بدر جاء قبل المعركة ومشى وقال هنا يموت أبو جهل وهنا يموت أبي بن خلف وهنا يموت فلان حدد في كل مكان من يموت فيه منهم والمكان الذي حدده الرسول هو الذي مات فيه كل منهم وكان هذا قبل المعركة وكأنه أحضر التراب من هذه الأماكن التي ماتوا فيها وكل واحد وضع على رأسه التراب كان أجله في هذه الغزوة ويخرج رسول الله من مكة ولا يحس به أحد كيف يخرج مع وجود كل هذه القوات وهذه الجنود؟ حدث عندهم ذعر وجنون كيف يخرج من بيننا ولم نره ونحن فرسان العرب ونحن قادة العرب كيف يكون ذلك؟وعلى الفور أرسلوا فوجاً إلى كل طريق وأجَّروا أدلاء يعرفون الأثر من أجل أن يعرفوا أين ذهب وإلى أين توجه ومن أجل أن يصلوا إلى مكانه ولكن الله يتحداهم لا بالملائكة ولا بقوات ولا بالدبابات ولا بالطائرات ولا بالصواريخ ولكن التحدي كان بأضعف المخلوقات سوف أنصر حبيبي بأضعف الأشياء من أجل أن تعلموا بأنكم ليس لكم وزن عند الله وهذه إرادة الله يذل الجبابرة بأضعف المخلوقات مثل النمروذ لما طغى وتجبر وقال إني إله ووضع سيدنا إبراهيم في النار أرسل له بعوضة دخلت في أنفه واستقرت في رأسه ولم يسترح إلا بضرب النعال على رأسه لمدة أربعين يوماً إلى أن مات هذا الملك الذي عمل إله مات ببعوضة وهذه قدرة الله من أجل أن يذل الجبابرة وكذلك زعماء مكة أذلهم الله بهذه الطريقة فهذا الوليد ابن المغيرة من كبار قريش ذهب ليشتري سهاماً من أجل الحرب فتعلق في ثوبه سيف فاستكبر أن يبعده عن ثوبه فوخذه السيف في قدمه فمات وكذلك البختري بن هشام جالس بجوار شجرة ومعه عبد من عبيده فنزل سيدنا جبريل وظل يضرب رأسه في الشجرة فيقول للعبد ادفع عني فيقول له إني لا أرى شيئاً وظل يضرب رأسه في الشجرة إلى أن مات وكذلك العاصي بن وائل السهمي كان من الذين يستهزءون برسول الله وأثناء سيره مع أولاده قال لقد لدغت من قدمي فلم يجدوا شيئاً وبعد خمس دقائق مات وكلهم بهذه الطريقة أذلهم الله وهذا سر قوله سبحانه{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}
قال النبى يقول الله تعالى: { مَنْ عَادَىٰ لِي وَلِيّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ }[3]
[كان من عناية الله بأنبيائه ورسله والصالحين من عباده أن يعز حبيبه وصفيه ويخذي الكفار بأضعف المخلوقات فيرسل له نباتاً وعنكبوتاً وزوجاً من الحمام في الغار والغار عبارة عن حجر من الجبل له باب فيخرج النبات في وسط هذا الباب نبات كبير مشهور في الصحراء اسمه (أم غيلان) يخرج منه فروع كثيرة مثل القطن ولذلك يستخدمونه في صناعة المراتب والألحفة وغيرها وغطى الباب كله وبقى جزء صغير وفي الحال نزل العنكبوت ونسج عليه الخيوط، وفي الحال جاءت الحمامتان على العش وتحتهما البيض والأغرب من ذلك أرادوا أن يعرفوا إلى أين وصل الرسول؟ وقال لهم الأدلاء الذين معهم إلى هنا انقطع الأثر ولا نعرف إلى أين اتجهوا وطبعاً المشي على الرمل يتعب والمشي على الصخر يتعب أيضاً فعندما يمشي رسول الله على الرمل يتماسك حتى لا يتعب الرسول ولا يترك أثراً في الأرض والحجر عندما يمشي عليه الرسول يلين حتى لا يتعبه ويؤثر في الحجر فوجدوا أن الأثر انقطع في وسط الطريق والأعجب من ذلك أن بين هذا الجبل وبين مكة حوالي سبعة كيلو مترات ولكن الرسول قطعهم في لحظات كيف ذلك؟ لأن الأرض تطوى لرسول الله. يقول سيدنا أبو هريرة: { مَا رَأَيْتُ شَيْئاً أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي في وَجْهِهِ، وَمَا رَأَيْتُ أَحَداً أَسْرَعَ في مَشْيِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ كَأَنَّمَا الأَرْضُ تطْوَى لَهُ إِنَّا لَنُجْهِدُ أَنْفُسَنَا وإِنَّهُ لَغَيْرُ مُكْتَرِثٍ }[4] ويذهب الكفار إلى الغار ويقفون على بابه في حيرة لماذا؟ والجواب هو ما أخبر به رسول الله فى معنى حديثه الشريف أن العنكبوت جند من جنود الله وفي ذلك يقول الإمام البوصيري :


فالصِّدْقُ في الغارِ والصِّدِّيقُ لَمْ يَرِما

وَهُمْ يقولونَ ما بالغارِ مِنْ أَرمِ

ظَنُّوا الحَمامَ وظَنُّو العَنْكَبُوتَ على

خيْرِ البَرِيَّةِ لَمْ تَنْسُجْ ولمْ تَحُم

وِقَايَةُ اللـه أغْنَتْ عَنْ مُضاعَفَةٍ

مِنَ الدُّرُوعِ وعَنْ عالٍ مِنَ الأُطُمِ

ما سامَنِي الدَّهْرُ ضَيْماً وَاسْتَجَرْتُ به

إلاَّ وَنِلْتُ جِواراً مِنْهُ لَمْ يُضَم

فحماه الله من الأعداء بأضعف المخلوقات{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}


[1] تفسير حقي، وتفسير نور الأذهان لإسماعيل البروسوى، وقد ورد القصص ذاتها فى كتب السنة متفرقة، برصاً أى أصابه مرض البرص.


[2] رواه أحمد والترمذي عن مطر بن عكامس، عن أبي عزة


[3] رواه البخاري في صحيحه والسيوطي في الكبير والبيهقي في سننه وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة.


[4] رواه الترمذي



لماذا هاجر النبي من مكة إلى المدينة؟
سؤال دائماً يراودنا لماذا هاجر النبي من مكة إلى المدينة؟ ولماذا أمر أصحابه من قبل بالهجرة مرتين إلى بلاد الحبشة؟ إن الإجابة التي نحفظها جميعاً فراراً من أذى الكفار ومن شدة بطش الكافرين والجاحدين فراراً بدين الله وبنور الله وبالإيمان بالله قد يكون هذا ينطبق على الهجرة الأولى إلى بلاد الحبشة لكن الهجرة الثانية إلى المدينة المنورة كان لها غاية أخرى وحكمة ثانية كبرى ومن أجلها تدبَّر وتروَّى سيدنا رسول الله قبل أن يختار الله له هذا المكان، لماذا هاجر إلى المدينة؟إنه كان يبحث عن مكان يقيم بين أهله وذويه مدينة فاضلة على العقيدة الحقة والأخلاق الصادقة والمعاملات الحسنة والعبادات الخالصة لله ويريد أن تكون هذه المدينة نموذجاً تحتذيه كل المدن والقرى الأرضية إذا أرادوا إصلاح أحوالهم وإذا أرادوا انتعاش تجارتهم وأموالهم وإذا أرادوا صلاح أخلاقهم وتهذيب نفوسهم وإذا أرادوا في الآخرة السعادة عند ربهم ولذا نقول لإخواننا أنه لا سعادة لمجتمعنا أو لأي قرية أو مدينة في بلادنا أو غير بلادنا إلا إذا طبقت من جديد الأسس والسجايا والقيم والأخلاق التي أرساها رسول الله في دار هجرته وقد عبر عن هذا الحال جعفر بن أبي طالب عندما طلبه النجاشي ملك الحبشة استجابة للشكوى التي تقدم بها عمرو بن العاص بالنيابة عن قريش لقد أرسلوه بالهداية إلى النجاشي وطلبوا منه أن يكلمه ليقبض عليهم ويردهم إلى السجون والتعذيب في مكة كما كانوا من قبل ولكن النجاشي كما وصفه الصادق الأمين{لا يظلم عنده أحدٌ، وأرضه أرض صدق } فلم يرضَ بالحجة بدون الأخرى فإن الدين القويم يحتم على كل مؤمن ألا يحكم على قضية من أول وهلة ومن أول شاكي بل لابد أن يسمع إلى المشكو لأنه ربما يكون مظلوماً ومعه الحق وقد قيل لسليمان عندما جاءته امرأة باكية وتدعي لها حقاً على ضرتها فقال من حوله: إنا نرى الحق لهذه قال: ولم؟ قالوا: لأنها تبكي. قال: ومن أدراكم بالثانية ربما تكون قد فقأت لها عيناً أو كسرت لها عضواً منعها من سرعة المجيئ فلا يجب على مسلم في قضية كبيرة أو صغيرة أن يحكم إلابعد أن يستمع إلى الإثنين الشاكي والمشكو حتى يتبين له وجه الحق وإذا كانوا يكذبون على سيد الخلق حتى قال النبى{إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ} يستطيع أن ينمق الكلام ويزخرف الكلام حتى يروق في عين السامعين ثم قال محذراً {فَأَقْضِي لَهُ عَلَىٰ نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئاً، فَلاَ يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ }[1]فطلب النجاشي جعفر ومن معه وقال لهم: اختاروا رجلاً يتحدث عنكم، فأشاروا إلى جعفر فقال: ما شأنكم؟ فقال(كنا قوماً في جاهلية نعبد الأوثان ونقطع الأرحام ونشرب الخمر ونفعل الفحشاء، ونكذب في الحديث حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه ونعرف صدقه دعانا إلى الإيمان بالله وإلى صدق الحديث وإلى صلة الأرحام وإلى حسن الجوار وإلى الوفاء بالعهد) وأخذ يعدد له فضائل الإسلام التي جاء من أجلها نبي الإسلام ما أردت أن أذكره في هذا الصدد: أن نبيكم الكريم جاء بهذه الأخلاق الكريمة والقيم العظيمة فوجد العرب في مكة لا يريدون أن يغيروا طباعهم، ولا أن يهذبوا أخلاقهم ولا أن يعدلوا أحوالهم فيصرون على شرب الخمور ويصرون على الزنا والفجور ويصرون على قطع الأرحام ويصرون على إيذاء الأيتام ويصرون على الجفاء بين الأنام ويصرون على هذه الخبائث، وهو يريد أن يصنع مجتمعاً للأنام فيه القيم الفاضلة والأخلاق الكريمة فكان ذلك سر هجرته إلى المدينة هاجر إلى المدينة عندما وجد في أهلها شوقاً إلى هذه الخصال، ورغبة في هذه الأخلاق، وحمية في نصرة هذه الشمائل والصفات، فهاجر إليهم فنشرها فيما بينهم فأصلح هذا المجتمع وهذا سر إصلاح أي مجتمع وله أسس ثلاثة ذكرها الله في قرآنه وجعلها دستوراً إلى أن ينتهي الزمان وأن ينتهي المكان ويرث الله الأرض ومن عليها دستور الإصلاح لأي مجتمع على البسيطة، ما هو يا رب؟{وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}هذه القيم وهذه المبادئ وتحتها آلاف المبادئ الإيمانيةوآلاف القيم الإسلامية لكن هذه هي مجمل الآداب الإيمانية والإسلامية التي عليها صلاح الحال وصلاح الأفراد، وصلاح العباد، وصلاح البلاد، وصلح كل واد وناد فإن صلاح الكل بنشر المحبة، وديننا أيها الأحبة هو دين المحبة، فليس للبغضاء طريق في الإسلام وليست للكراهية طريق بين المؤمنين، وإنما أسس هذا الدين على الحب لله والحب لرسول الله والحب لكل من آمن بالله وحتى لو كان هذا الذي آمن بالله، أخطأ في حق نفسه أو أساء في حق ربه أو ارتكب محرماً، فإني لا أكرهه في ذاته لأن هذا ينافي دين الله ولكني أكره هذا الخلق الذي اتصف به وهذا العمل الذي قام به فإذا تركه فهو أخي وحبيبي في الله ورسوله وقد قيل لأبي الدرداء إن أخاك فلان وقع في إثم عظيم فهل تبغضه؟قال: لا وإنما أبغض عمله فإذا تركه فهو أخي، ثم قال لهم ناصحاً: أرأيتم لو أن أخاً لكم وقع في بئر، ماذا كنتم فاعلين؟ قالوا: نأخذ بيده. قال: كذلك أخاكم إذا وقع في ذنب تأخذوا بيديه لتنقذوه من إبليس وجنوده إلى حزب الله وإلى دين الله وإلى أنصار الله وقد قال في ذلك رسولكم الكريم :أوثق عرى الإيمان لم يقل الصلاة ولم يقل الزكاة، ولا الصيام، ولا الحج مع أهميتهم البالغة عند الله ولكنه قال{أَوْثَقُ عُرَى الإِيمَانِ الحُبُّ فِي اللَّهِ وَالبُغْضُ في الله}[2]إن الحب لله وفي الله أيها المسلمون هو المرهم الذي يداوي العاصي من المؤمنين، وهو الشفاء الذي يشفي به الله صدور الموحدين وهو الترياق الذي به يدخل كل مؤمن إلى رضوان رب العالمين من الذين يدخلون جنتك يا رب؟ ومن الذين ينالون رضوانك يوم القيامة يا رب؟ استمع إليه وهو يحدد صفاتهم ويبين سماتهم فيقول{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}الذي انتزع الغل والحقد والحسد والبغضاء والكراهية من قلوبهم لعباد الله المؤمنين هو يكره اليهود ويبغض الجاحدين ويحقد على الكافرين لكن لايجب على مؤمن أن يتصف بهذه الصفات بالنسبة للمؤمنين وإلا كان عمله كله - حتى لو ملأ البر والبحر عبادة - حابطاً هالكاً يوم لقاء رب العالمين فالإسلام هو الحب يا جماعة المؤمنين لأن الله عندما مدح الأنصار لم يمدحهم بالصلاة ولا بالزكاة ولا حتى بالشجاعة في ميدان القتال في سبيل الله وإنما أول صفة مدحهم بها وعليها الله {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}الحب ولذا أكد عليها النبي الكريم فقال{ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ. وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ. وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرا أَوْ لِيَسْكُتْ }[3] تلك آداب الإسلام وتلك تعاليم نبي الإسلام عليه أفضل الصلاة وأتم السلام فإن أبا بكر الصديق عندما بيَّن الله فضله وبيَّن النبي منزلته ومكانته عند الله، أخذ يتحدث أصحاب رسول الله فيما بينهم عن سرِّ حصوله على هذه المنزلة، وسرِّ علوه إلى هذه المكانة فبعضهم قال لقيامه الليل، وبعضهم قال لإكثاره من صيام النهار، وبعضهم قال لإكثاره من تلاوة القرآن، وبعضهم قال لتبتله بين يدي الواحد القهار، فخرج عليهم النبي المختار وهم على ذلك فقال{ما فضلكم أبا بكر بكثير الصلاة، ولا بكثير الصيام، ولكن بشئ وقر في صدره}[4] وما هو؟ هو الحب لله، والحب لرسول الله، والحب لعباد الله المؤمنين، حتى أنه عند انتقال رسول الله إلى الرفيق الأعلى، وقد اختاره لإمامة الصلاة، وقال لامرأة جاءت إليه في قضية ثم رجعت وقالت: إذا رجعت ولم أجدك فإلى من اتجه؟ قال: إلى أبي بكر، وأشار إليه إشارات صريحة لكنه لشدة الحب في قلبه كان يتدافع الإمامة، ويقدم عمر، ويقول عمر أولى مني، ثم يقدم أبا عبيدة ويقول أبا عبيدة أحق بهذا الأمر مني ويريد أن يعطيها لإخوانه حتى يظلوا أحباء فيما بينهم أوفياء لبعضهم لاتنفك المحبة عن صدورهم لأنه يعلم أن المحبة هي أساس الصفاء في مجتمع المؤمنين وهي أساس النقاء في علاقات المؤمنين وهي أساس قبول الأعمال عند رب العالمين قال النبى{ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ، مَنْ كَانَ الله وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لله وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُود فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ الله مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ}[5]إن المرض الأول الذي استشرى في مجتمعنا وعكر علينا صفو حياتنا ليس الغلاء وليس قلة الرواتب وليس كثرة المشاغل والمصالح إنما المرض الأول هو الأثرة والأنانية التي جعلت كل منا يحب نفسه وفقط. أما أوصاف المؤمنين فهي{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}أصبح كل واحد منا يحب الخير لنفسه فقط، وإذا زاد قليلاً فلنفسه وولده، وبعد ذلك لا يتجاوز قيد أنملة لكن المؤمنين يحبون لإخوانهم ما يحبون لأنفسهم اسمعوا معي إلى هذا الدواء النبوي، الذي يحل كل هذه المشاكل في لمسة حنان محمدية، ولمسة لطف رحمانية ربانية يقول فيه خير البرية {لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ }[6] لو طبقنا هذا الدواء، لزالت جميع الأسقام والأدواء فأنا لا أحب أن يغتابني رجل فلماذا أغتاب غيري؟وأنا لا أفرح أن يسبني ابن أخي فلماذا أسمح لابني أن يسب أخي؟ وأنا لا أرضى لزوجة جاري أن تجاهر زوجتى بالسب والشتم فلماذا أرضى لزوجتي أن تجاهر جارتها بالسب والشتم؟وقد أنهرها ظاهراً أمام الناس وأشجعها بعد ذلك باطناً في الخلوة بعد اختفاء الناس أنا لا أرضى أن ينقل جاري حد الأرض ويأتي به علي فكيف أنقل الحد في أرض جاري أنا لا أرضى أن تنزل بهيمة جاري وتقضي على زرعي، فلماذا أرضى أن تنزل بهيمتي وتقضي على زرع جاري؟وغيرها وغيرها فالمؤمن يحب لجاره ما يحب لنفسه، ويرضى لجاره ما يرضاه لنفسه وقد جعل الإسلام الجيران ثلاثة: جاراً له حقوق ثلاثة وهو الجار المؤمن القريب له حق الجوار وحق الإسلام وحق القرابة، والجار البعيد المسلم له حق الجوار وحق الإسلام، والجار اليهودي والنصراني فله حق الجوار، وحق الجوار في شأنه كبير والذي يطالب بالحقوق ملك الملوك فهذا نبيكم كان جاره يهودياً وهو القائد والحاكم ويستطيع بإشارة أن يجعله يترك داره، ويهجرها إلى مكان آخر لكنه لا يروِّع أحد – فالمسلمون لا يغصبون أرض أحد، فعندما أخذ عمرو بن العاص أرض يهودية وضمها إلى مسجده الذي تعلمون واشتكت إلى عمر بن الخطاب أمر أن يرد الأرض إلى صاحبتها لأنه لا يجوز للمسلم أن يتعبد على أرض مغصوبة من أهلها -فتركه في جواره ولكنه زاد في إيذائه فكان يجمع العذرات ويضعها على بابه قبل كل صباح فيخرج رسول الله ويزيلها بتؤدة وأناة، ويطهر المكان ويغسل الباب من الأذى ولا يقول شيئاً فخرج يوماً ولم يجد أثراً فسأل عن اليهودي فقيل:أنه مريض فقال: وجبت زيارته لأنه جارٌ فذهب إليه وزاره، وقال: لقد عودتنا على عادة فلما لم نرها سألنا عنك، فقالوا: مريض فقلنا: حق علينا زيارتك، فكانت النتيجة أنه أسلم لله عندما وجد هذه الشمائل المحمدية والأخلاق الربانية في النبى فدين الإسلام يا إخواني يجعل المؤمن غير كامل الإيمان إلا إذا كان يحب الخير لإخوانه المؤمنين أكثر من نفسه. أما بقية الصفات التي تحدث عنها الله، فلها وقت آخر ولكن أقرءوها وتدبروها وعوها واعملوا بها واحفظوها في قلوبكم{يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}


[1] رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما والإمام مالك في الموطأ.


[2] رواه أحمد والبيهقي عن البراء بن عامر والطيالسي، الطبراني في الكبير عن ابن عباس.


[3] رواه أحمد في مسنده والبخاري في صحيحه عن أبي هريرة.


[4] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان أبو يعلى في مسنده، أحمد في مسنده والداري في سننه عن أنس.


[5] رواه البخارى ومسلم عن أنس


[6] رواه أحمد عن أنس بن مالك


إلا تنصروه فقد نصره الله

علامة حب الله لأي عبد من عباد الله بينها رسول في حديثه الذي يقول فيه{إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْراً فَقَّهَهُ فِي الدِّينِ}ولم يكتف بذلك لأن العلم لابد له من العمل فأكمل وقال{إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْراً فَقَّهَهُ فِي الدِّينِ وَأَلْهَمَهُ رُشْدَهُ}[1]يعني وفقه في العمل الذي تعلمه وحادثة الهجرة السعيدة تزيد إيمان المؤمن إيماناً وتفاصيل الحادثة الحمد لله كلنا يعلمها لكن اكتفي منها بما أبشر به نفسى وإخواني بعناية الله وكفالة الله وتأييد الله لكل عبد تمسك بهدى الله يكفينا جميعاً قول الله{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ}ولم يقل في الآية فقد ينصره الله وإلا كان النصر معلقاً وحادثاً لكن جاء بما يفيد أن النصر من الله مقدر له قبل خلق الخلق لأن القرآن كلام الله القديم فقد نصره الله قبل خلق الخلق، ونصر الله واضح في آيات القرآن فإن الله كما أخبر القرآن عندما خلق الحبيب روحاً نورانية قبل خلق جسمه وخلق أرواح الأنبياء والمرسلين جميعهم وأخذ عليهم العهد والميثاق أجمعين أن يؤمنوا به وينصروه ويؤازروه ويبلغوا أممهم بصفاته ونعوته ويطلبوا ممن طال به الزمن إلى عصر رسالته أن يؤمنوا به ويتبعوه{وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ}وهذا قبل الرسالة{لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ} والرسالة لا تكون إلا بعد ظهور الجسم في الحياة الدنيا لأنها تكليف من الله لإبلاغ دعوة الله إلى الخلق. ماذا أخذ على النبيين من الميثاق؟{ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ }يؤمنوا به وينصروه فأخذ الله العهد على الأنبياء أجمعين أن ينصروا رسول الله كيف ينصروه ولم يكونوا في زمانه وتنتهي آجالهم قبل مجئ أوانه؟ينصروه بإظهار صفاته ونعوته وعلاماته لأممهم وأتباعهم ويأمرونهم أن يتبعوه إذا حضروه وقد كان ذلك والأمر يطول إذا تتبعنا السيرة العطرة لكن يكفي ما جاء على لسان نبي الله موسى وما جاء على لسان نبي الله عيسى{وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}ولم يبشروا به وبنعوته فقط بل حتى أوصاف أصحابه كانت مذكورة في التوراة والإنجيل{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل مذكورين بصفاتهم حتى أن التاريخ يروي أن عمر بن الخطاب لما توجه للصلح مع البطارقة واستلام مفاتيح بيت المقدس ذهب وخادمه ولم يكن لهم إلا مركب واحد فكانوا يتناوبون ركوبه عمر يركب والخادم يمشي ثم يركب الخادم ويمشي عمر خلفه فلما اقتربوا من القوم كانت نوبة الخادم في الركوب فقال يا أمير المؤمنين إني تنازلت لك عن نوبتي هذه لأن القوم على استعداد للقاءك وكيف يلقون أمير المؤمنين ماشياً والخادم يركب فأصر عمر على ذلك فلما دخلوا عليهم سألوا أين عمر؟فقالوا: الذي يمشي فقالوا:هكذا نجد عندنا صفته في الإنجيل إنه يدخل بيت المقدس ماشياً وخادمه راكب بجواره، فأوصاف أصحابه كذلك ذكرها الله في التوراة وذكرها الله في الإنجيل وذكرها الله في الزابور وذكرها الله في كل الكتب السابقة وأنتم تذكرون جميعاً أنه قال: {أَنا دَعْوَةُ أَبي إِبْراهيمَ}[2]{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ}هذه دعوة سيدنا إبراهيم فنصر الله لحبيبه ومصطفاه كان من قبل القبل فقد أيده وأمر الرسل الكرام بإبلاغ صفاته ونعوته لأممهم وهيأ الكون كله وأمره أن يكون رهن إشارته، لكن العبرة التي نحتاج إليها في هذه الظروف الحالكة في حياتنا اليوم أن نعلم علم اليقين ولا نشك في ذلك طرفة عين ولا أقل أن أي رجل منا أقبل بصدق على الله وتمسك في سلوكه وهديه وحياته بشرع الله فلم ينافق ولم يمارِ ولم يبتغِ بعمله إلا وجه الله فإن الله يجعل له قسطاً من نصر الله لحبيبه ومصطفاه فيؤيده وينصره في أي موقع وفي أي زمان وفي أي مكان لأن هذه سنة الله التي لا تتبدل ولاتتغير على مر الزمان ولا بتبديل المكان ونأخذ مثالاً واحداً كي لا نطيل عليكم{إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}فاسمعوا سيدنا موسى عندما خاف قومه بعد خروجهم من مصر من اللحاق بهم فقالوا له: النجدة فقال لهم: لا تخافوا{كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}أنا معي ربي لا تخافوا ولكن سيدنا رسول الله قال{إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}أي معنا جميعاً ولم يقل إن الله معي ومعنا هذه هى بشرى لكل مؤمن إلى يوم القيامة ولذلك أيده الله في كتاب الله فقال{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ }فالذي ينصر الله ينصره الله،وهل هل الله يحارب لننصره؟ لا ولكن يعنى من ينصر شريعته ويقيمها في نفسه وفي بيته وفي عمله وفي أهله وفيمن حوله فنصر الله يعني إحياء شريعة الله والعمل بها بين خلق الله وماذا كانت النتيجة ؟ بماذا أيده الله؟{فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا }أولاً أنزل عليه السكينة وكيف نأتي بها؟لاتأتي إلا بتوفيق الله لمن أحبه الله واجتباه{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ}وكما أنزل عليه السكينة أنزل علينا السكينة والسكينة يعني الطمأنينة بوعد الله والثقة في قدرة الله ورعاية الله وكلاءة الله وصيانة الله وحفظ الله لمن تمسك بشرع الله ابتغاء وجه الله فكما أنزل الله عليه السكينة أيضاً فتح المجال لجميع المؤمنين وأعلمنا علم اليقين أن السكينة لا تأتي إلا من عنده وهو الذي ينزلها بنفسه حتى أنه لا ينزلها عن طريق ملك ولا عن طريق أي كائن أو مخلوق بل هو ينزلها ولم يقل ينزل (بالمضارع) بل قال أنزل السكينة في قلوب المؤمنين فيحبب إليهم الإيمان ويشرح صدروهم للعمل بأركان الدين والاهتداء بتعاليم القرآن والتأسي بسنة النبي العدنان ثم ماذا؟{وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا}أيده بالملائكة وأيده بالأرض وقال له: الأرض طوع أمرك مرها بما شئت فيقول لها:خذيه فتمسك بفرس الفارس الذى خرج ليلحق به وتغوص به فيقول لها اتركيه فتتخلى عن الفرس فكانت طوع أمره وليس مرة واحدة ولكن ثلاث مرات وأيده بالحمام وأيده بكائن بسيط وحشرة صغيرة وهي العنكبوت وأيده بالأنصار وأيده بالمهاجرين بل وأيده بأناس قبله جهزوا له المكان الذي سيسكنه فالهجرة إلى المدينة كان يعلمها من قبل من ساعة ما نزل عليه الوحي وأخذته زوجته السيدة خديجة إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وقال له: ليتني أكون فيها جزعاً (يعني شاباً فتياً) عندما يخرجك قومك. فقال: أو مخرجي هم؟ قال: نعم ما أُرسل رسول بما أرسلت به إلاأخرجه قومه حتى المكان الذي هاجر إليه كان يعلمه منْ سبقه من الأنبياء والمرسلين ولذلك يروي القرآن أن اليهود تركوا بلاد الشام وجاءوا إلى المدينة مترقبين ظهور النبي الذي قرُب زمانه وعندهم صفاته وكانوا يرجون أن يكون منهم وقد ذكر الله ذلك{وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ}فقد كانوا عندما تحدث بينهم حرب وبين أي قبيلة يقولون كما قالت السيرة العطرة: (اللهم بحق النبي الذي ستبعثه في آخر الزمان انصرنا عليهم) فينصرهم الله وهذا معنى الآية(وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ) أي يطلبون به النصر فينصرهم الله هل كانوا يعرفونه؟ القرآن يقول (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ) وهل هناك أحد لا يعرف أولاده الذي أريد أن أصل له بنفسي وإخواني أننا جميعاً لنا نصيب في هذا الأمر إذا استمسكنا بهدى الله ولم تغرينا مغريات الحياة ما الذي جعل الله ينصر رسول الله هذا النصر العظيم؟ أنه تمسك بهدى الله رغم ما عرضوا عليه في هذه الحياة فقد عرضوا عليه المال وقالوا: إذا كنت تريد مالاً جمعنا لك مالاً حتى تصير أغنانا وإن كنت تريد الملك جعلناك ملكاً علينا وإن كنت مريضاً طلبنا لك الشفاء والدواء والأطباء قال: لا أريد ملكاً ولا مالاً ولا أي شئ في الدنيا (إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ)أريد أن تهتدوا إلى الله ولا أريد منكم شيئاً، ولذلك قال فى الأثر: {كن مع الله يكن الله معك}إن الدرس العملي الذي نأخذه جميعاً من هجرة رسول الله وما أكثر دروسها أن المرء منا لا يتوقف عند أي أمر أمره به الله مهما لاقى في سبيل ذلك من صعاب فالذي أعز أصحاب رسول الله شدة عقيدتهم فكان الرجل منهم لا يبيح لنفسه أن يخرج عن المثل والمبادئ الإيمانية قيد أنملة خوفاً من الله مهما تعرض له من صعاب لكن في عصرنا الآفة التي انتشرت في مجتمعنا أن الناس قد اجتهدوا من عند أنفسهم اجتهاداً خاطئاً في تبرير الزيغ والبعد عن المثل والمبادئ الإيمانية فيبيح لنفسه الكذب بحجة أنه مضطر ويبيح لنفسه أخذ ما يريد من المال العام بحجة أن مال الحكومة ملك للجميع وكل واحد له فيه نصيب ويبرر لنفسه التزويغ من العمل بحجة أن أجره لا يكفي وهذا الوقت على قدر فلوسهم مثلما نسمع منهم ويبيح لنفسه أن يخدع في تجارته أو يغش في بيعه وكيله وبلسانه وإلا لن يستطيع أن يعيش أو يكسب في زعمه هذه الحاجات التي سولّتها لنا النفس وعززها الشطان وهذا الذي جعل الله يبتلينا ليذكرنا وليس للانتقام منا لأنه لا ينتقم من المؤمنين ولكن يذكرنا المرة تلو المرة بالمرض أو الفقر أو الغلاء فكل هذه ابتلاءات كي نرجع إلى الله لكن والله الذى لا إله إلا هو لو تمسكنا بهدى الله لفتح الله لنا الخيرات في الأرض وأنزلها من السماء وكنا كأهل الجنة تأتينا أرزاقنا في أيدينا دون عناء أو تعب(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)لم يقل فتحنا عليهم خيرات لأن الخيرات ممكن تكون كثيرة ولكنها لا تكفي لأنها ليس فيها بركة لكن لو رزقنا القليل وبارك الله فيه لأغنى عن الكثير والكثير فنحن يا إخواني نشتكي في زماننا من كثرة الأمراض ومع كثرة المستشفيات لم تعد تستطيع أن تقوم بمهمة العلاج والأمراض الموجودة في الأجسام كلها لا تساوي مرضاً واحداً من أمراض الأخلاق التي حذّر منها الكريم الخلاق والتي تنخر في مجتمعنا نخر السوس كالشّقاق والنفاق والحسد والبغضاء والكراهية والأحقاد وغيرها من الأمراض التي نعاني منها من الضغوط النفسية والتوترات العصبية كل هذا يسبب وجود الأمراض الجسدية والأمراض الجسدية لو لم يوجد خلفها التوترات العصبية سوف تشفى بإذن الله لكن الذي يزيد المرض هو التوترات والضغوط والمشاغل وكل هذا جاء من الحسد لهذا والكره لهذا حتى أن كل مؤمن بينه وبين إخوانه المؤمنين حروباً لا عدّ لها حروب مع الأولاد وحروب مع زملائه في العمل والحروب مع الأقارب لماذا ؟أين الذين قال الله فيهم{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}الذين ملأوا المحاكم من أجل سهم في البيت أو سهمين في الغيط والأخ وأولاده وزوجته حرب على أخوهم والثاني كذلك وهذا يستعد وهذا يستبدّ ألم يسمعوا عن القول الذين أخذوا الغرباء عنهم في النسب لكنهم معهم وقريبين منهم في الدين ويقول له تعالَ أقسم بيتى نصفين وتختر أحدهما والمال نصفين واختر ما يعجبك وانظر إلى زوجتى الاثنتين أيهما تعجبك فأطلقها وبعد انتهاء العدة تتزوجها أنت على سنة الله ورسوله هؤلاء الجماعة ماذا قال الله لهم في الوسام الذي أعطاه لهم؟{يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}ليس ذلك فقط بل عندما جاءت الفتوحات وجاءت الخيرات جمعهم النبي وقال لهم تعالَوْ معشر الأنصار وتعالَوْ معشر المهاجرين فقال للأنصار: ما رأيكم جاءت إلينا خيرات كثيرة أقسمها بينكم أنتم والمهاجرون ويظلون معكم؟ أم أعطيها للمهاجرين ويتركوا لكم البيوت والأموال التي معهم؟ قالوا: لا أعطيها لهم كلها ولا نأخذ شيئاً خرجنا منه لله{لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءُ الْرَّاجِعُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يرجع فِي قَيْئِهِ }[3]اعطِ لهم الكل ونحن والحمد لله يكفينا رضاء الله علينا أين هؤلاء يا إخواني؟هؤلاء هم أجدادنا وهم آباؤنا وهم قدوتنا وهم أسوتنا وهم الذين قال الله فيهم
{أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}فنحن جميعاً نحتاج نصر الله وتأييد الله ولطف الله وتوفيق الله وهذا هو السبيل البين والطريق القويم له



[1] رواه البزار عن ابن مسعود، البيهقي في شعب الإيمان عن أنس.


[2] رواه ابن سعد عن الضحاك مرسلاً في كتاب جامع الأحاديث والمراسيل.


[3] رواه أحمد عن ابن عباس


الهجرة والثبات على المبدأ

يقول الله فى حديثه القدسى {من ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد ومن أراد رضاي أردت ما يريد ومن تصرف بحولي وقوتي ألنت له الحديد أهل ذكري أهل مجالستي وأهل شكري أهل زيادتي وأهل طاعتي أهل كرامتي وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي إن تابوا إلي فأنا حبيبهم فإني أحب التوابين وأحب المتطهرين لم يتوبوا إلي فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب}[1]ونحن في مطلع عام هجري جديد نقف وقفة قصيرة مع هجرة النبي الأمين نستلهم منها العبرة في حياتنا والمثل الصادق في أخلاقنا والمثال المتفرد في علاقتنا مع خالقنا وإلهنا عملاً بقول الله عز شأنه{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}نسمع اليوم وكل يوم من ييئس الناس من حياتهم الإيمانية ويدعوهم إلى التكاسل والتواني في تنفيذ الشريعة الربانية ويتعلل ويقول: قلَّ المخلصون وندر المساعدون ولا يستطيع الإنسان أن يقوم بمفرده بتنفيذ أوامر الله والعمل بشرع مولاه ولمثل هؤلاء كانت عظتنا في حادثة الهجرة النبوية الشريفة فالرسول وصحبه الكرام ضربوا لنا المثل الأعلى في التمسك بالحق والسير على منهج الصدق ولم يلفته أحد عن دعوة الله فقد عرضوا عليه المال فأباه وعرضوا عليه الملك فلم يرضاه وجاءوا له بكل وسيلة من وسائل الرفعة في الحياة فقال قولته المشهورة لعمه{والله يا عمي لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه}صمّم على تنفيذ أمر الله ولم يعبأ بكل ما جهزه له أعداء الله اعتماداً على مولاه وتحصناً بحصون كتاب الله واعتزازاً بشرع الله فصدق فيه قول الله عزَّ شأنه{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} وحسبه أى كافيه ولذا كفاه الله كل هم وفرج عنه كل غم وأعلا شأنه على مدى دروب هذه الحياة وجعله أعلى الخلق شأناً ومقاماً يوم نلقى الله تبارك وتعالى فكان تأييد الله وإعزاز الله له ونصر الله له مثلاً لنا أجمعين أن من يتمسك بشرع الله ويستمسك بهدي كتاب الله ويتحصن بسنة رسول الله ولا يبالي بمن يعارضه ولا يهتم بمن يناوؤه فإن الله يؤيده ويعضده ويساعده وينصره كما فعل بحبيبه فقد اجتمع حول بيته أربعون رجلاً معهم السيوف المدججة متأهبين لخروجه لينزلوا عليه بضربة واحدة فخرج من بينهم وهم يقولون لبعضهم: إن محمداً يزعم أنه ستفتح له جنان الأردن يعني (بساتين)وخزائن فارس وأن من يتبعه سيتمتع بتلك الجنان ويأخذ نصيبه من هذه الخزائن فخرج عليهم وقال: نعم أنا أقول هذا وأخذ حفنة من التراب ومرّ بها على جميعهم ووضعها على رؤوسهم ولم ينظروه ولم يروه ولم يسمعوه لأن الله أخذ بأسماعهم وأبصارهم عن رؤيته وسماعهe وكان السلاح الفعال في هذا المجال{فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ }وجاء المرور بقيادة أبي جهل فقال لهم: ماذا تنتظرون؟قالوا: خروج محمد قال خيّبكم الله لقد خرج وترككم وما ترك رجلاً منكم إلا ووضع التراب على رأسه ثم ذهب إلى الغار فكانت عناية الواحد القهار بأن أمر النبات أن يخرج في الحال نبتة على باب الغار تسده وأمر كتيبة من العنكبوت تنسج على هذه الشجرة على باب الغار وأمر يمامتين وحشيتين أن تصنعا عشاً على رأس هذه الشجرة وتبيضا فيه حتى لا يعلم الأعداء ما فيه لأن الله تعهد بذلك فقال{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ} ومن ينصره الله لا يستطيع أحد أن يصل إليه بأذى لأنه في وقاية الله وكفالة الله وعناية الله وحماه الله في الطريق عندما لحق به سراقة وقال له ربه: الأرض طوع أمرك فمرها بما شئت. فعندما اقترب منه وقال أبو بكر يا رسول الله إنا لمدركون لا محالة قال{لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}ثم قال: يا أرض خذيه فانشقت الأرض وابتلعت الفرس وأمسكت بنصفه الأسفل مع قدمي سراقة الفارس فاستغاث به وقال يا رسول الله: ادعو الله لي أن ينقذني ولا أعود فقال يا أرض اتركيه فتركته فلما أراد ثانية أن يأخذه قال: يا أرض خذيه فأخذته فكانت الأرض طوع أمره تأخذه عندما يأمرها بالأخذ وتتركه عندما يطلب منها الترك لأنه كان يتحرك بأمر الله فجعل له الله الأكوان والأملاك والأرض ومن عليها كلها مسخرة في خدمته وسمع بعض العرب بالجائزة التي أعدها أهل مكة لمن يعثر عليه وهي مائة جمل فخرجت قبيلة أسلم وكان عددها سبعين رجلاً يرأسهم بريدة بن الحصيب الأسلمي معهم السلاح من سيوف ورماح ليقبضوا عليه فيفوزوا بالجائزة.
فلما اقترب منهم قال له بريدة: من الرجل؟ قال: أنا محمد رسول الله ولم ينكر نفسه ولم يعمِّ شخصيته فما كان من أمر الله إلا أن قذف الإيمان في قلب بريدة وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وإنك عبد الله ورسوله فأسلم ومن معه من قومه وقال: يا رسول الله لا تدخل المدينة هكذا وحدك وقسم السبعين إلى فريقين وصفهما صفين صف على اليمين وصف على اليسار يحملون سيوفهم ورماحهم في عرض عسكري وتشريف رباني إلهي ثم فك عمامته وجاء برمحه وربط فيه هذه العمامة فكانت راية بيضاء حملها في مقدم الصفوف وقال: يا رسول الله أمشي أنا في المقدمة بهذه الراية وهؤلاء عن يمينك وهؤلاء عن يسارك وتمشي أنت في المؤخرة وبينما هم يتحدثون إذا بعبد الرحمن بن عوف يأتي من بلاد الشام وكان في تجارة فقال: يا رسول الله أتدخل المدينة هكذا؟ لا والله لقد اشتريت ثوبين من أثواب الملوك ولا يليقان إلا بمثلك فخذهما وألبسهما لتدخل المدينة دخول الفاتحين فلبس أثواب الملوك ودخل في هذا الجيش المحشود ليتم الله عليه نعمته ويؤيده الله بنصرته لأن الله وعده أن ينصره نصراً عزيزاً ثم دخل المدينة وكان الأنصار قد أعدوا لهذا اليوم عدته منهم من جهَّز طعاماً لحبيب الله ومنهم من جهَّز شراباً طيباً لرسول الله ومنهم من جهز تمراً ومنهم من جهز حلوى ومنهم من جهَّز فاكهة وكلهم يريد أن يمسك بناقته فقال{دَعُوهَا فًّانَّهَا مٌّامُورَة}[2]فكانت إذا مرت ببيت يهودي تمر مسرعة ولا تقف وإذا مرت ببيت أنصاري تقف بأمر الله حتى يقدم تحيته لرسول الله ومن معه بأمر الله فلما كان الموضع الذي اختاره الله لبناء مسجده وموضع إقامته أناخت بأمر الله فجاء أبو أيوب الأنصاري وحمل الرحل إلى بيته وتنافس الأنصار في ضيافة رسول الله فقال{ المرء مع رحله } ودخل إلى دار أبي أيوب فلما استقر قال: يا أبا أيوب أين الكتاب الذي تركه تبَّع؟فأسرع إلى إحضاره ما هذا الكتاب وما قصته؟ غزا تبَّع ملك اليمن المدينة قبل هجرة الرسول إليها بثلاثمائة سنة ولما همَّ بدخولها خرج إليه أحبار اليهود وقالوا: اعلم بأنك لن تتمكن من دخولها لأنها مهاجر نبي يبعثه الله في آخر الزمان فاستشار من معه من العلماء وكانوا أربعمائة عالم هم أجداد الأنصار من الأوس والخزرج فأقروا بذلك فأعطاهم مالاً وزوجهم وبنى لكل عالم منهم بيتاً وملَّكه له وبنى لكبيرهم بيتاً من دورين وسلمه له وسلمه رسالة وقال إذا هاجر نبي آخر الزمان إلى هذا المكان فهذا بيته بنيته له وهذه رسالة سلمها إليه وكتب في هذه الرسالة [3] قائلاً:


شهدت على أحمد أنه

رسولاً من الله باري النسم

فلو مُدّ عمري إلى عمره

لصرت نصيراً له وابن عم

وجالدت بالسيف أعداءه

وفرجت عن صدره كل هم

فمنا قبائل يؤونه

إذا حل فى الحل بعد الحرم

وروى أحمد عن بن سعد: { لاَ تَسُبُّوا تُبَّعاً فَإنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ }وفى النهاية : {فأنه أوَّلُ من كسَا الكعْبة}وفى المستدرك عن عائشة: {ألم تروا أنَّ الله ذمَّ قومّه ولم يذمْه }فانظر إلى من تمسك بهدى الله واستمسك بدين الله كيف أعزه مولاه وبنى له بيتاً قبل هجرته بثلاثمائة عام أو يزيد وهيأ له من يصحبه من الرجال بالسيوف ومن يكسوه بثياب الملوك ومن يحميه من أعين الكافرين وقال في ذلك{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ}وهكذا أمر كل مسلم وأمر كل مؤمن يتمسك بهدى الله ولا يغير شرع الله بأهوائه أو بأهواء من حوله ولا يغير مبدأ أقره الله عليه ولا ديناً أنشأه الله عليه لابد أن يعزه مولاه وينصره الله لقول الله{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}قال{ لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ ولكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ}[4] إن نصر الله لن يتخلف عن عباده المؤمنين لأنه قال في قرآنه{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ}وقال في كتابه {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} وقال لنا أجمعين{إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}فليس نصر الله في الحرب فقط كما يظن البعض ولكن نصر الله هو التمسك بالأخلاق والفضائل والآداب والمثل والقيم التي أتى بها الله في أحلك ظلمات الحياة فمن تمسك بقيمة الإيمان ولم يتخلى عنها مع شدة دواعي الزمان نصره الله في كل مكان فالدين أساسه هذه القيم الإيمانية فمن زعم أن الله تخلى عنه مع إنه يحافظ على الصلوات في وقتها ويتلو القرآن ويذكر الله ويحج بيت الله نسأله ونقول له سل نفسك هل أنت أمين في الكلام مع الخلق؟ فإذا تكلم أحد أمامك بكلمة لا تنقلها إلى غيرك؟ فتلك الكلمة أمانة هل أنت أمين على المجالس فإذا جلست مجلساَو{المجالس بالأمانات}[5] كما قال النبى لا تنقل أسرار هذه المجالس فتحدث فتناً بين الجالسين وغيرهم هل أنت أمين على معاشرتك لزوجتك فلا تبيح ولا تتحدث عما يحدث بينك وبينها؟لقد قال الحبيب : {إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا وتَنْشُرُ سِره}[6] فيصبح وقد نزل عليه ستر الله فيقول فعلت مع زوجتي كذا وفعلت معي كذا وهذا ليس من أخلاق المؤمنين قال ًالنبى{ أَلاَ عَسَى أَحَدُكُمْ أَنْ يَخْلُوَ اهْلِهِ يُغْلِقُ بَاباً ثُمَّ يُرْخِيَ سِتْراً ثُمَّ يَقْضِيَ حَاجَتَهُ ثُمَّ إِذَا خَرَجَ حَدَّثَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ أَلاَ عَسَى إِحْدَاكُنَّ أَنْ تُغْلِقَ بَابَهَا وَتُرْخِيَ سِتْرَهَا، فًّاذَا قَضَتْ حَاجَتَهَا حَدَّثَتْ صَوَاحِبَهَا؟» فَقَالَتْ امرأة سَفْعَاء الخَدَّين: والله يا رسول الله إنهنَّ ليفعلن وإنهم ليفعلون، قال: «فَلاَ تَفْعَلُوا فًّانَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ شَيْطَانٍ لَقِيَ شَيْطَانَةً عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَقَضَى حَاجَتَهُ مِنْهَا ثُمَّ انْصَرَفَ وَتَرَكَهَا }[7]لأنه يكشف ستر الله الذي ستره عليه فلنكن أمناء في كيلنا، أمناء في موازيننا أمناء في مواعيدنا لا نخلف ميعاداً ولا توقيتاً هل نحن أمناء في كل حركاتنا وسكناتنا؟ إذا كان المرء كذلك أميناً في كلمته أميناً في بيعه أميناً في شرائه، أميناً في وعده، أميناً في مجالسه فليستبشر وليعلم أن الله معه يؤيده وينصره ويعضده لأنه تمسك بهدى الله وكان على خلق رسول الله




[1] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين لإبن القيم الجوزيه


[2] رواه الطبراني في الأوسط عن عبد الله بن الزبير.


[3] وردت فى تفسير القرطبى، وخلاصة السير الجامعة لنشوان الحميرى، واللمع اللؤلؤية فى شرح العشر بينات النبوية للفارابى.


[4] متفق عليه.


[5] رواه البزار عن أبي سعيد والبيهقي وأبي داود عن أبي هريرة.


[6] صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدرى


[7] رواه البزار وأبي داوود عن أبي سعيد الخدرى


نصرة الله تعالى لرسوله

ونحن في أيام هجرة رسول الله يقف العبد المؤمن لينظر فضل الله وإنعام الله وإكرام الله لسيدنا رسول الله على من عاداه وتلك سنة لا تتخلف فيمن بعده من المؤمنين والمؤمنات إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها فنحن نأخذ من الهجرة عظة وعبرة وهي أن من توكل على الله كفاه، ومن استعان بالله أعانه وقواه، ومن انتصر بالله نصره على من عاداه ولو كانوا جميعاً وهو بمفرده ولو كان معهم كل أنواع المعدات والأسلحة وليس معه إلا الثقة بربه والاتكال على صنعه وهو ولي المؤمنين فاسمعوا إلى قول الله معبراً عن هذه الحقيقة يقول سبحانه{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ}أي إذا كنتم تركتموه وخذلتموه وتخليتم عنه لكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً فمن اعتز بالله لو تجمع له أو حوله كل أركان الوجود علواً وسفلاً فلن يستطيعوا أن يضروه بشئ لأن الله يحفظه وينصره ويعينه ويكفيه والنصر كما قال الله {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ} فالنصر ليس بالقوة ولا بالسلاح ولا بالرجال وإنما بالله لأنه خير الناصرين كان رسول الله قبل الهجرة بزمن قصير ذهب إلى بيت المقدس في بلاد الشام، وصعد بعدما اجتمع بالأنبياء والمرسلين إلى السموات سماء تلو سماء، وبين السماء والأرض كما قال مسيرة خمسمائة عام، وعرض كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام قطع كل هذه المسافات واخترق السموات السبع والعرش والكرسي ودخل الجنة وشاهد ما أعده الله فيها للمؤمنين ورأى النار وما جهز الله فيها للكافرين والعصاة والمذنبين ثم أذن الله له فشاهد جماله السرمدي وسمع كلامه القدسي وجاء حوار طويل بينه وبين رب العالمين يقول فيه الله في كلامه الكريم{فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } وبعد ذلك رجع وفراشه الذي كان ينام عليه لم يبرد بعد ما زال ساخناً ودافئاً كل هذه المسافات قطعها في أقل من لمح البصر فكان الوضع الطبيعي لنا جميعاً والذي يستدعي العجب منا أجمعين لماذا لم ينتقل من مكة إلى المدينة في طرفة عين كما فعل في هذه الرحلة؟لماذا لم يضع رجله من بيته في مكة إلى مستقره في المدينة ليرتاح من عناء السفر ومن مطاردة الكافرين ومن السير في وعثاء الحر بين الصخور والرمال والجبال؟من أجل يكون لنا فيه الأسوة والقدوة{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً }لأنه لو قطعها في خطوة واحدة لكان كل واحد فينا عندما تحصل له شدة أو مأزق أو أزمة يقول لست كرسول الله في طرفة عين كان هناك أصبح هنا ولكن جعله الله أسوة لنا أجمعين في الأخذ بالأسباب من أجل أن نعرف ونتأكد ونتيقن أن الذي يكون اعتماده على الله لابد أن يثق كل الثقة في تأييد الله وفي نصر الله مهما كان عدد أعدائه وعدتهم لأنه منتصر بالله هذه هي الحكمة يا إخواني في سيره فقد تجمع الكفار وقالوا لم يعد لنا مع هذا الرجل إلاأمراً واحداً نقتله ونستريح منه وكيف نقتله وعائلته كبيرة؟فقالوا:نأخذ من كل قبيلة شاباً فتياً قوياً وأن يذهبوا ويتجمعوا حول منزله فإذا خرج نزلوا عليه بسيوفهم جميعاً فيتفرق دمه في القبائل فلا يستطيع أهله أن يطالبون بثأره وإذا أفلت من هذه الجماعة فإن لمكة إثنى عشر طريقاً للخارج منها أو للداخل إليها فجعلوا على كل طريق فريق مستعد جاهز بالعتاد والسلاح حتى إذا خرج من بينهم ولم تلحقه سيوف المحاصرين تأخذه سيوف المتربصين على أي طريق سيخرج منه لأنه لابد أن يخرج من هذه الطرق فليس لمكة غير الإثنى عشر طريقاً هذه. ماذا صنع له الله؟ وهو عبداً لله ومتوكل على مولاه خرج من بينهم وهم يتكلمون ويقولون لبعضهم: إن محمداً زعم أن الله سينصره وأنه سيكون له جبال وحدائق وجناين مثل التي توجد في بلاد الشام وفي بلاد العراق فخرج عليهم وقال: نعم أنا أقول هذا أخذ الله أسماعهم فلم يسمعوه يسمعون بعضهم ولكنهم لا يسمعونه عناية من الله لحبيبه ومصطفاه يسمعون كلامهم مع بعضهم لكن لا يسمعون كلام النبي الذي قاله لهم يرون بعضهم ولكنهم لا يروا حبيب الله ومصطفاه وزاد على ذلك فأخذ حفنة من التراب بيده ومر عليهم جميعاً ووضع على رأس كل رجل منهم حفنة من التراب ما السلاح الذي كان معه؟ السلاح الذي كان معه سلاح لا يوجد في أمريكا ولا في روسيا ولا في ألمانيا ولا في اليابان وإنما يوجد في مصانع القرآن ما المصنع الذي أنتج هذا السلاح؟ {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} جلس يقرأ هذا السلاح حتى وصل إلى قول الله {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} أي سلاح بالدنيا في هذا الوقت؟ وفي أي دولة من دول العالم يستطيع أن يجعل الواحد يقف في وسط أعدائه ولا يرونه؟ لا يوجد إلا سلاح {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} وأين يوجد؟ يوجد في كتاب الله وفي كلام الله ومع المؤمنين والمؤمنات أجمعين إلى يوم الدين كل واحد يستطيع أن يستخدمه في وقت الشدة وفي وقت الأزمة وفي وقت النكبة ويصلح الله به شأنه وينصره به على أعدائه فخرج من طرق مكة وأيضاً لم يره المتربصون إلى أن وصل إلى الغار وحماه الله في الغار كما قال في قرآنه{بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} جنود لا يصدق أحداً أبداً أنها أصبحت في ميدان القتال حمامة وعنكبوت وشجرة قصيرة ضعيفة من شجيرات الصحراء هي التي حمت سيد الأنبياء من مكر وكيد الأعداء من أجل ماذا يا إخواني من أجل أن نعلم علم اليقين أن الله إذا أراد نصر عبد اعتمد عليه نصره ولو بأضعف مخلوقاته ولو بأقل كائناته ليس فرضاً أن ينصره بالملائكة وما أكثرهم عند الله أو ينصره بالرياح وما أشدها وأعتاها إذا أرسلها الله ولا أن ينصره بالماء يتفجر من الأرض أو ينزل من السماء جنود يقول فيها الرب المعبود{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}فالذي يعتمد على الله لا يحدد السلاح الذي ينصره الله به لأن الله ينصر من يشاء بلا جند أو عتاد وهو إذا أراد نصره بأضعف الأشياء وتلك سنة الله مع الأنبياء والمرسلين والصالحين والمؤمنين في كل وقت وحين. فالعنكبوت حيوان ضعيف وربنا نفسه قال في شأنه{وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }لكن هذا الحيوان الضعيف والحشرة الصغيرة التي ليس لها أجنحة نصرت نبي الله داود ونصرت نبي الله محمد فسيدنا داود لما انتصر على جالوت وأخذ يجري وراءه ليقتله دخل واختبأ في الغار فأرسل الله عليه عنكبوتاً نسج على باب الغار فلما جاء جالوت ومن معه وقال بعضهم لقد اختبأ في هذا الغار قال جالوت كيف دخله ولم يقطع نسج العنكبوت ونسج العنكبوت يغطي الباب كله؟ ولا يعلم أن الله كما يقول في شأن الماكرين والمنافقين والمشركين{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}ويمكرون يعني(يدبرون)هم يفكرون ويدبرون وربنا يدبر ومن تدبيره أكبر؟ تدبير الله أكبر هو نفس العنكبوت الذي نسج على باب الغار بعد أن دخله النبي المختار ولذلك يقول{العنكبوت جند من جنود الله }من أجل أن يعلم المؤمن علم اليقين أن الله ينصر عبده المؤمن بأضعف شئ وبأقل شئ ما دام قد اتجه إلى حماه واعتمد على نصر الله وطلب التدخل السريع من فرق الإنقاذ الإلهية التي جعلها الله نصرة لعباده المؤمنين والمؤمنات أشياء كثيرة لا أريد أن أطيل عليكم بذكرها قال النبى{لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ ولكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ}[1]وقال{المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسانِهِ وَيَدهِ والمؤمن من آمن جاره بوائقه والمهاجِرُ مَن هَجرَ ما نَهى اللّهُ عنه}[2]وفي هذا الشهر الكريم وفي يوم العاشر منه وهو يوم عاشوراء كان أيضاً فيه نصر السماء ملازماً للأنبياء بأضعف الأشياء فهذا فرعون يخرج بجنده وكان عددهم كما تخبر بعض الروايات قد يزيد عن المليون جندي مع عتادهم ومع أسلحتهم وموسى ليس معه إلا قومه وهم مستضعفون ليس معهم أسلحة كافية ولا عدة كافية لكن نصره الله في هذا الموقف كيف نصره الله؟ عندما وصل إلى اليم - إلى البحر الأحمر - وسار ومن معه وقد رأوا فرعون مقبلاً بجنده قالوا{إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}الأعداء خلفنا قال لهم: لا تخافوا{قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}الذي معه الله لا يخاف ولو تجمعت حوله كل الأعداء وكل المعدات وكل المقذوفات الجهنميات إلا أن عناية الله ووقاية الله تغني عن كل هذه الأشياء. ما السلاح الذي نصره به الله؟قال له الله: اضرب بعصاك البحر فضرب البحر بعصاه فظهر فيها اثنا عشر طريقاً لأنهم كانوا اثنا عشر قبيلة كل قبيلة تمشي في طريق والبحر قاعه من أسفل به ماء وطين كيف يمشون على الطين؟ لكن الله بقدرته وعظمته جعل الطين جافاً ويابساً {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً} يبساً يعني (ناشفاً) يمشون عليه وهم مطمئنون وبين كل طريق وطريق جمد الله الماء وجعله جداراً من الماء حاجزاً بينهم فقالوا: يا موسى نريد أن نراهم ونكلمهم فأوحى الله إليه أن يضرب الماء فضرب الماء فصارت في جدران الماء نوافذ يرون منها بعضهم ويكلمون منها إخوانهم وهم سائرون في البحر حتى عبروا إلى الجهة الأخرى وكان آخر رجل من قوم موسى يخرج مع آخر رجل من قوم فرعون ينزل إلى الماء فضرب البحر بعصاه مرة أخرى فعاد البحر كما كان، وبذا أخرجهم الله أجمعين عناية من الله ولما هاجر سيدنا رسول الله من مكة إلى المدينة وجد اليهود يصومون يوم العاشر من شهر الله المحرم فسألهم وهو أعلم لماذا تصومون هذا اليوم؟ فقالوا: هذا اليوم الذي نجا الله فيه موسى ونصره على فرعون وقومه فقال{ نَحْنُ أوْلَى بِمُوسَى مِنْكُم}[3]وصامه وأمر بصيامه وقال في شأنه{صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيةَ}[4]ولما قال اليهود:ما وجد محمد شيئاً مما نعمله إلا عمله خالف هو وأصحابه عملهم وقال{لَئِنْ بَقِيتُ إِلَىٰ قَابِلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ والعاشر}[5]فصوموا هذه الأيام يغفر الله لكم ذنوب سنة بعمل يسير يسره الله علينا ندعو الله في هذا اليوم فإن الدعاء فيه مستجاب. فقد استجاب الله فيه لموسى ونصره على فرعون وقومه واستجاب الله فيه لآدم فتلقى فيه من ربه كلمات تاب بها إلى الله فتاب الله عليه



[1] متفق عليه.


[2] متفق عليه.


[3] عن ابن عباس، سنن أبى داوود وكثير غيرها


[4] رواه البيهقي في سننه عن أبي قتادة.


[5] رواه البيهقي في سننه وابن أبي الجعد في سننه عن ابن عباس.