نظام الراحة والسعادة

ما الذي يجعل مؤمنا جاهلا بسيطا يقف في وجه المصائب المتتالية راضيا قانعا متقبلا يقابل اليأس بالرضا وشدائد الدهر بالتسليم لأمر الله سبحانه؟


وما الذي يجعل امرأة مؤمنة لم تدخل مدرسة وربما لم تقرأ كتابا تستقبل صباحها بقلب مفعم بالأمل والحياة وترطيب قلب زوجها وأبنائها بالرضا والقبول، وبث الحياة في كل من حولها؟


وما الذي يجعل المؤمن يصاب بالمرض فيحتسب أجره ويأمل بالشفاء مهما استعصت حالته في حين يشكو الأقوياء وتخور عزائم الأشداء؟


إنه نظام الراحة والسعادة والطمأنينة الذي يزرعه الإيمان في قلب كل مؤمن، صغير أو كبير، جاهل أو متعلم، رجل أو امرأة، غني أو فقير، نظام لم تستطع الحضارة والعلم أن يزرعه في قلوب المثقفين فضلا عن غيرهم، قد يحاول الكثيرون أن يتلقوا بعض أجزاء هذا النظام عن طريق العلم والدورات والكتب لكن سرعان ماتنهار العزائم وتضعف القلوب أمام أول امتحان حقيقي، ولعل في النهاية المأساوية التي سطرها ديل كارينجي حين أقدم على الانتحار يائسا مكتئبا خاسرا دنياه وآخرته وهو الذي انتشر كتابه عن الإيجابية في التعامل مع الحياة وضغوطاتها «دع القلق وابدأ الحياة» وحقق مبيعات خيالية وانتشارا مذهلا، لكنه عند الامتحان الحقيقي لم يدع القلق ولم يبدأ الحياة بل ودّعها وأنهاها!.


يقول النبي صلى الله عليه وسلم «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، ولايكون ذلك إلا للمؤمن».


نظام عجيب لتقبل الحياة ومعايشتها بطمأنينة ورضا، وراحة لا يعرفها إلا من ذاقها، فأدق تفاصيل الإيمان وكل مكونات العقيدة تزرع هذا النظام في قلب المؤمن وليس في عقله فقط، بدءا من الأسئلة التي تحير عقول غير المؤمنين ومرورا بتسليم الأمر لله كله.


شك وحيرة يقابلها يقين وعلم


في غمرة الشك التي يغرق بها كثير من غير المؤمنين، شك في بداية خلقهم وفي مقصدهم في هذه الحياة وفي مآلهم بعدها، في غمرة هذا الشك وتلك الحيرة يسكن القلق ويعيش الاضطراب وتغيب أجزاء مهمة من نظام الراحة والسعادة.


ولذلك يبث بعضهم معاناته:


جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت


ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت


وسأبقى ماشيا شئت هذا أم أبيت


كيف جئت كيف أبصرت طريقي؟


لست أدري !


أوراء القبر بعد الموت بعث ونشور؟


فحياة فخلود، أم فناء فدثور؟


أكلام الناس صدق أم كلام الناس زور؟


أصحيح أن بعض الناس يدري؟


لست أدري !


لكن المؤمن البسيط يدري ويعلم ولايعيش هذه الحيرة، يعلم أن من أوجده هو الله، وأن آدم كان بداية الخلق، وأنه موجود هنا ليعمر الأرض بطاعة الله، وأن وراء الموت بعث ونشور وحساب، وأن مآل الخلق إلى جنة أو نار، هذه البديهيات في عقيدتنا يحار فيها الفلاسفة الكبار وتعجز عن الإجابة عليها عقول بهرت الدنيا باختراعاتها وإبداعاتها، والفضل هنا ليس للمؤمن بسيطا كان أم عبقريا، إنما الفضل للإيمان الذي يغذينا بأجوبة لأسئلة كثيرة تكوّن نظام اليقين والراحة والطمأنينة في نفس المؤمن.


كيف نلمّ شتات القلب؟


يقول ابن القيم رحمه الله تعالى «إن في القلب شعثا لا يلمّه إلا الإقبال على الله، وفيه نيران حسرات لايطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه»


وفي حياة الخنساء الشاعرة المعروفة عبرة وشاهد، كيف رثت أخويها خاصة أخوها صخر، وذرفت عليه الدموع وأنشدت له القصائد وأوقفت عليه أيامها وحياتها، لكن حينما أسلمت لله وزرع الإيمان في قلبها نظامه العجيب استشهد أبناؤها الأربعة فاحتسبتهم عند الله تعالى صابرة راضية.


المؤمن يعلم أن مايصيبه إنما هو بأمر الله، وأن حياته ببؤسها وروعتها هي من قضاءالله، فهو يسعى ليعمل ويجتهد لينال لكنه يرضى بما يكتبه الله له في نهاية المطاف ويسلم أمره لله في كل ما يجري.


هذا النظام الإيماني العجيب هو الذي جعل نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم يقول حينما فاضت روح ابنه إبراهيم بين يديه «إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولانقول إلا مايرضي ربنا».


وهذا النظام أيضا هو الذي جعل تلك الصحابية الجليلة أم سليم حينما يموت ولدها تنتظر عودة زوجها فتحضر له طعامه ثم تقول له: إن جيرانا لنا استودعهم أناس أمانة فلما جاؤوا ليأخذوا أمانتهم أبوا عليهم، فقال:والله ما ذلك لهم بحق، قالت: فإن الله قد أعطانا ابننا أمانة وإنه قد أخذ أمانته !


هذا النظام الإيماني العجيب هو الذي يحمل المؤمن حين تتوالى عليه المصائب وتشتد المحن وتضيق الأيام أن يهرع إلى ربه وهو يتذكر قوله «أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء» فيمتلئ قلبه بالأمل وتعود له الراحة التي يفتقدها غيره


ولقد ذكرتك والخطوب كوالح


سود ووجه الدهر أغبر قاتم


فهتفت في الأسحار باسمك صارخا


فإذا محيا كل فجر باسم


كيف يبنى هذا النظام؟


لاشك أن الإيمان لوحده يتكفل ببناء هذا النظام في نفس وعقل وقلب كل مؤمن لأن تفاصيل الأيمان وكل جزء من أجزاء العقيدة يضع حجرا متينا في هذا البناء وركنا قويا في هذا النظام، وحينما يختل جزء من الإيمان يفقد المؤمن قوة هذا النظام، فالذي يخاف رزق القادم من الأيام، والذي يحتد ويختل عقله لمصيبة أصابته أو خسارة لحقت به، والذي يلعن الدهر والأيام حينما تمشي على غير مراده، والذي لا يسلّم لله قضاءه وقدره يكون النظام عنده مختلا والإيمان غير كامل.


لكن هناك أمرا ينبغي أن لايغفل وهو التربية والتنشئة على هذه العقيدة وهذا النظام، فإن كنا أوكلنا أمر التعليم للمدارس، والرعاية للخدم، والتثقيف والتسلية للتلفاز والفضائيات فلا أقل من أن نتولى غرس الإيمان والعقيدة بأنفسنا.


كان سهل بن عبدالله التستري يتيما فتولى خاله تربيته، وكان يعلمه أن يقول كل يوم الله شاهدي الله ناظري الله معي ويتفكر في هذا القول، وكان شيخه في حلقة المسجد يقدمه على من سواه، فاشتكى إليه آباء الطلبة، فقال احكموا بأنفسكم وأعطى كل طالب سيئا في يده وقال اجعله في مكان لايراك فيه أحد، وعاد الطلبة كل قد خبأ ما أعطاه إياه الشيخ إلا سهل فقد جاء متأخرا يبكي، فسأله الشيخ عن سبب تأخره، قال سهل: بحثت عن مكان لايراني فيه أحد لكنني كلما ذهبت مكانا علمت أن الله يراني!