فمنذ أيام كنا نستقبل شهر رمضان الكريم، ونستعد له ونتهيأ لاستقبال نفحات الرحمن لنا..
وها نحن نودعه وقد انتهى شهر رمضان، ومع انقضاء هذا الشهر العظيم يتبادر إلى الذهن ماذا بعد رمضان؟
فنحن جميعًا في حاجة إلى أن يستمر حالنا هذا طوال العام على نفس النهج الذي كنا عليه في رمضان، ولئن كان شهر رمضان المبارك قد انتهى، فإن عمل المسلم لا ينتهي إلا بمفارقة روحه بدنه..
قال عز وجل لنبيه r: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]. وقال سبحانه قبل عن عيسى عليه السلام: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31].
وذكر لبعض السلف أناسًا يجتهدون في رمضان، ثم يتركون ذلك بعده، فقال: بئس القوم لا يعرفون الله تعالى إلا في رمضان!!
لقد انقضى شهر رمضان بأيامه ولياليه ودقائقه وثوانيه، ولئن كان ذلك الشهر موسمًا عظيمًا من مواسم الخير والطاعة، فإن الزمان كله فرصة للخير والتزود للدار الآخرة، وليست العبادة خاصة بشهر رمضان، بل الحياة كلها عبادة، قال الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].
ولا تنس صيام ستة أيام من شوال؛ فعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّال كَانَ كَصِيَام ِ الدَّهْر" (صحيح مسلم).
الله تعالى أسأل أن يتقبل منا ما كان من صيام وقيام وركوع وسجود ودعاء وذكر وقراءة للقرآن، وأعاد علينا رمضان أعوامًا عديدة وأزمنة مديدة..
واجعلنا من الذين أعتقتهم من النيران في شهر رمضان..
- لتعش رمضان طوال العام

فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وتفكَّروا في سرعة مرور الأيام والليالي، وتذكروا بذلكم قرب انتقالكم من هذه الدنيا، فتزودوا بصالح الأعمال، حلّ بنا شهر رمضان المبارك بخيراته وبركاته ونفحاته، ثم انتهى وارتحل سريعًا، شاهدًا عند ربه لمن عرف قدره واستفاد من خيره بالطاعة، وشاهدًا على من أضاعه وأساء فيه البضاعة.

فليحاسب كل منا -أيها الإخوة- نفسه، ماذا قدم في هذا الشهر، فمن قدم خيرًا فليحمد الله على ذلك، وليسأله القبول والاستمرار على الطاعة في مستقبل حياته، ومن كان مفرطًا فيه فليتب إلى الله، وليبدأ حياة جديدة يشغلها بالطاعة، بدل الحياة التي أضاعها في الغفلة والإساءة، لعل الله يكفر عنه ما مضى ويوفقه فيما بقي من عمره، قال تعالى: (وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [هود:114]، وقال تعالى: (إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان:70].

أيها الإخوة الأكارم: كم هو جميل وأنت تنظر لتلك الوجوه المتوضئة الصائمة وهي تنطلق إلى المساجد لتشهد صلاة العشاء ومن ثم صلاة التراويح!

وأجمل منها حينما تنطق تلك الأفواج الإيمانية إلى المساجد بعد منتصف الليل لتصلي ما كتب الله لها!

وأجمل من ذلك كله حينما تذرف تلك الدمعات الحارة الخائفة من عقاب الله والفرحة بثواب الله! ما أجمل ذلك الجو الإيماني المليء بالخشية والإنابة والإخبات والخوف من الجليل!

أخي الحبيب، أختي المسلمة: إن كنت ممن استفاد من رمضان وتحققتْ فيه صفات المتقين فصمته حقًّا، وقمته صدقًا، واجتهدت في مجاهدة نفسك فيه، فاحمد لله واشكره، واسأله الثبات على ذلك حتى الممات.

وإن أحذرك من شيء فإني أحذرك من نقض الغزل بعد إبرامه وغزله، أرأيت لو أن امرأة غزلت غزلاً وقد استغرق منها شهرًا كاملاً، فصنعت بذلك الغزل أجمل ما يصنعه الغزّالون، لكنها حينما كمل وجمل وأعجبها منظره جعلت تقطع خيوطه وتنقض محكمه، وتحله خيطًا خيطًا دون سبب، فماذا عسى أن يقول الناس عنها؟!

ذلك -يا أخي ويا أختي- هو حال من يرجع إلى المعاصي والفسق والمجون، ويترك الطاعات والأعمال الصالحة بعد رمضان، فبعد أن كان يتقلب في جنان العبادة وبساتينها إذا هو يتنكب عن الطريق، فيتقلب في أوحال المعصية والفجور، فبئس القوم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان.

أخي: ولنقض العهد مظاهر كثيرة عند الناس، فمنها على سبيل المثال:

1- ما تراه من تضييع أناس للصلوات المفروضة مع الجماعة، فبعد امتلاء المساجد بالمصلين لأداء الفرض، بل امتلاء المساجد بالمصلين في صلاة التراويح التي هي سنة، إذا بالمساجد قد قل روادها في الصلوات الخمس التي هي فرض يكفر تاركها.

2- ومن ذلك السفر للخارج، فنرى الناس على أبواب وكالات السفر زرافات ووحدانًا، يتسابقون لشراء تذكرة السفر إلى بلاد الكفر والانحلال والفساد وغير ذلك.

وما هكذا تشكر النعم، وما هذه علامة قبول الحسنة؛ لأن السلف كانوا يقولون: "علامة قبول الحسنة الحسنة بعدها"؛ لأن الحسنة تقول لأختها: تعاليْ، والسيئة تقول لأختها: تعاليْ.

أيها المسلمون: إنه وإن انقضى شهر رمضان فإن عمل المؤمن لا ينقضي قبل الموت، قال تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:99].

فلئن انقضى صيام شهر رمضان فإن المؤمن لن ينقطع من عبادة الصيام بذلك، فالصيام لا يزال مشروعًا -ولله الحمد- في العام كله؛ ففي صحيح مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر".

وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصيام يوم عرفة، والصيام من شهر الله المحرم، وشهر شعبان، وصيام الاثنين والخميس.

ولئن انقضى قيام شهر رمضان، فإن القيام لا يزال مشروعاً ولله الحمد في كل ليلة من ليالي السنة ثابتاً من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ففي صحيح البخاري عن المغيرة بن شعبة قال: إن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقوم أو ليصلي حتى تَرِم قدماه، فيقال له فيقول: "أفلا أكون عبدًا شكورًا".

وروى الترمذي عن عبد الله بن سلام أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام".

ومن النوافل التي يُحافظ عليها: الرواتب التابعة للفرائض، وهي اثنتا عشرة ركعة؛ فعن أم حبيبة قالت: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعًا غير الفريضة إلا بنى الله له بيتًا في الجنة". رواه مسلم.

ومن الأعمال الصالحة التي لا تختص برمضان فقط: قراءة القرآن؛ فإنها ليست خاصة برمضان، بل هي في كل وقت، فليكن لكل واحد منا ورد من القرآن يقرؤه يوميًا.

وينبغي أن تحرص على أعمال البر والخير، وأن تكون بين الخوف والرجاء، تخاف عدم القبول، وترجو من الله القبول، وتتذكر أنّ يوم عيدنا الوقوفُ بين يدي الله -عز وجل-؛ فمنا السعيد ومنا غير ذلك.

مرَّ وهيب بنُ الورد على أقوام يلهون ويلعبون في يوم العيد، فقال لهم: عجبًا لكم! إن كان الله قد تقبل صيامكم فما هذا فعل الشاكرين، وإن كان الله لم يتقبله فما هذا فعل الخائفين.

فكيف لو رأى ما يفعله أهل زماننا من اللهو والإعراض، بل مبارزة الله بالمعاصي يوم العيد.

اللهم تقبل صيامنا وقيامنا ودعاءنا وسائر أعمالنا...