النتائج 1 إلى 1 من 1
الموضوع: لن أدفن هنا - قصة قصيرة
- 14-08-2012, 03:41 PM #1
لن أدفن هنا - قصة قصيرة
قصة من الخيال في شخوصها وحبكتها ونهايتها , لكنها تحاكي واقعنا من حيث المكان والزمان وما تحمل من آلام وأمال وصور .
لن أُدفن هنا
رأيت الصورة يا أبي , وهاهي اكتملت أمامي , كم سمعتك تحدثني عنها وتصفها لي , لكني لم أتخيلها بتلك البشاعة , كم هي دميمة وقاتمة , أراها كما حدثتني عنها تماماً , رُسمت باللونين الأحمر والأسود , لون الحقد ولون الدم , وقد حملت توقيع ذلك الرسام الحاقد الذي رسم الصورة التي سكنت مخيلتك منذ عقود, لقد كنت بارعاً في الوصف , وكم كنت أظن بأنني استطعت رسم الصورة كما هي مرسومة في مخيلتك , اليوم فقط عرفت أن الخيال - ومهما كان خصباً - يظل عاجزاً عن محاكاة الحقيقة , اليوم فقط استطعت أن أرى الصورة , كنت أحس بالحزن يملأ عينيك وأنت تحدثني , وبالقهر الخارج مع زفراتك , وبعمق الجرح النازف في داخلك , وطعم العلقم الذي يغص به حلقك, كل ذلك كان يشعرني بأنني أدركت ما تريدنا إدراكه , كنت أحدث نفسي فأقول : ما به يُعيد ما قاله ؟ ما به يُسمعنا وصفه للصورة صباح مساء ؟ اليوم أدركت السبب فعذرتك , فكأنك كنت مدركاً لعجزنا وعجز خيالنا عن فهم ما تقول .
كان يقف بين الجموع يتمتم بتلك الكلمات , ولا يصل صوته إلى أحد , والكل ينظر صوبه , الكل يصرخ ويبكي ويرثي , وقد التف حوله جمع غفير , بعضهم يُسمعه كلمات مواساة , وبعضهم يربتون على كتفه أو يمسحون على رأسه , وبعضهم يحاولون الوقوف في مرمى بصره لحجب تلك الصورة عن ناظريه , أما هو فبدا متماسكاً أكثر من الجميع رغم أن المصاب مصابه .
ففي ذلك اليوم , وقد انسحب الجيش من مخيم جنين بعد اجتياح عام 2002 , كان رامز قد عاد إلى المخيم مع بعض المقاومين الذين تمركزوا على التخوم , عاد منهكاً من أيام سهرٍ طويلة , مثخناً ببعض جراحٍ من شظايا أصابته , دامي العينين حزناً على فراق رفاقٍ له , استشهد بعضهم والبعض ظل مجهول المصير .
عاد إلى المخيم ليقف في هذا المكان , ولتستقبله الأحضان في محاولات مواساة وتهدئة , يسمع كلماتٍ تخرج من هنا وهناك ولا ينظر إلى قائليها وكأنه لا يعيها أو لايكترث بها :
- لا حول ولا قوة إلا بالله .
- لم يبق منهم أحد .
- لم ينجُ أحد منهم إلا هو .
- هدموا المنزل فوق رؤوس ساكنيه .
- ها هي جثة أخرى متفحمة .
- اخفضوا اصواتكم رحمةً بهذا المسكين .
- أبعدوه عن المكان , لن يحتمل هذه المشاهد .
كل محاولات إبعاده عن المكان لم تجد نفعاً , فقد كان يصدها بهدوء , ويظل واقفاً في مكانه يتمتم بكلماتٍ غير مسموعة , حتى ظن الجميع أن الموقف قد أفقده صوابه , نعم لا بد أن هول الموقف قد أفقده الصواب , فمن ذا الذي يستطيع تحمل هذا ؟ كل أهله تحت ركام بيتٍ تظافر الجميع على تشييده بدل الخيمة , تلك يد والده مبتورة , وما كان ليعرف صاحب اليد لولا السبحة التي ما زالت الكف مطبقة عليها , تلك ظفيرة لا يدري إلى أي الأختين تعود , تلك جثة أمه التي تحتضن جثة رضيعها حتى التصقتا فصارتا جثة واحدة , هذه حطام دراجة أخيه التي اشتراها له عندما استلم مرتبه الأول , برزت الدراجة من تحت الأنقاض دون صاحبها الذي ربما التصقت أشلاؤه بحطام البيت بينما كان يحاول حمايتها .
العيون كل العيون تحدق في رامز, الذي بدت عيناه كجمرات تتبخر العبرات فيهما قبل نزولها على وجنتيه , بدا منتصباً شامخاً , يتمتم بنفس الكلمات :
رأيت الصورة يا أبي , وها هي اكتملت أمامي , ذات الصورة التي طالما وصفتها لنا , مصبوغة باللونين الأسود والأحمر , تحمل توقيع من رسمها أمامك في ( صفد ) , ما زال منذ عام 1948 يرسم بحقده الأسود لوحاتٍ من دمائنا , آه آه يا صفد , أتذكرين تلك الصورة ؟ عندما وقف أبي فوق ركام بيته هناك , ينظر إلى جثث أمه وأبيه وأخوته تُنتشل من تحت الأنقاض ؟ هل تذكرين أبي يا صفد ؟ هل تذكرين كيف كان يقف وقفتي هذه ؟ أتذكرين كيف سلمه الله يومها ليظل شاهداً ينقل لنا الأحداث ويصف لنا الصور ؟
انتفض رامز وكأنه عاد من مكانٍ غير مكانه وزمانٍ غير زمانه , رفع رأسه بشموخٍ أكبر , شق الجموع عائداً إلى الخلف , غادر المكان يردد بعض العبارات وبصوت مسموعِ في هذه المرة , لم يعِ أحد ما قاله , وظنوا أنه يهذي جراء الصدمة , فخلوا سبيله وقالوا :
لنتركه وشأنه , سيهدأ ثم يعود .
أما هو فقد كان يعي ما يريده حين كان يقول : كتب الله لأبي النجاة والخروج من صفد حياً , ليُدفن في جنين , أما أنا فلقد كتب الله لي النجاة لأخرج من جنين حياً ولأُدفن في صفد , نعم أنا سأُدفن في صفد .
سار مبتعداً عن المكان يردد تلك العبارة , حتى ابتلعه الزقاق الخارج من المخيم وغاب عن الأنظار .
انتهت