ساعة الإفطار ليست كغيرها، هى ساعة يصفو فيها الكون والناس، لكنها أيضا ساعة لا تنسى، فإذا حدث فيها شىء غير مألوف، يأخذ القلب والروح إلى أعلى درجات الدهشة والمفاجأة، لا الحب فيها مثل غيره، ولا الضحك ولا والحزن ولا اللقاء، ولا الفراق، هكذا يعرف الكاتب الكبير إبراهيم عبد المجيد ساعة الفطار فى كتابه الجديد الصادر عن دار الياسيمين للنشر "حكايات ساعة الإفطار".

الكتاب يضم 30 حكاية مرتبطة بساعة الإفطار، ويرصد فيه الكاتب المشاعر الإنسانية، كما يكشف أغوار النفس البشرية فى ساعة خاصة، ربما تمر علينا دون أن نتذكرها، وتتناول الحكايات الرجل الذى لا يصوم ويشعر بالإثم تجاه ذلك، والإنسان الذى لا يشتهى الطعام لأنه يفطر بمفرده، ولكنه عندما يذهب لمائدة الرحمن يأكل بشهية مفتوحة، وغيرها من الحكايات التى لن ينساها القارئ فى ساعة ليست مثل غيرها.

بدأ عبد المجيد حكايات ساعة الإفطار بحكاية "رسائل من الجنة"، وأبطالها الأب الذى جلس فى الصالة يقرأ القرآن فى صمت، على حامل من خشب الورد المعشق بالصدف الذى يشكل رسومات دقيقة لطيور تسبح فى الفضاء ورثه من العصور الوسطى أبا عن جد، وكان صانعه قد ضمخه بعطر الكافور الذى لم يتلاش مع الزمن، كانت هناك نصف ساعة باقية على مدفع الإفطار، وفى المطبخ كانت الأم والابنة يجهزان الطعام والشراب الذى سينقلانه إلى الصالة بعد قليل، كان فى المطبخ راديو صغير ينساب منه صوت الشيخ محمد رفعت يملأ الفضاء بالرضا، لكن الابنة رأت دمعا يتسلل من عينى الأم التى راحت تمسحه ثم انفجرت باكية وانهارت على مقعد صغير، تماسكت الأم واقتربت من الابنة، ووضعت رأسها على صدرها وتقول "خلاص يارقية، حقك عليا، ماتعيطيش ياحبيبتى أخوكى فى أحسن مكان عند ربنا، لكن الابنة انفجرت فى البكاء أكثر".

فقالت الأم "حكمة ربنا يارقية، ربنا سبحانه وتعالى هو اللى بيختار، اختار الشباب الحلوين كلهم، فاكرة صورهم، كلهم بيضحكوا مبسوطين، دول رايحين الجنة، فردت عليها رقية "لكن أنت مش قادرة تنسى ياماما وفى المدرسة بتكتبى كل يوم على السبورة تاريخ اليوم 28 يناير 2011، وقبل أن ترد الأم سمعا الأب يهتف من الخارج بصوت عال "يارقية، يا أم رقية، هتفت الأم فى هلع "باباكى".

جرت خارجة وخلفها رقية فوجدتا الأب جالسا فى مكانه زائغ النظرات والمصحف أمامه فوق الحامل مفتوح وفوقه مظروف أبيض شاهق البياض يشير إليه فى رعب، فنظرتا إلى المظروف فى دهشة فقال "جواب من مصطفى"، تبادلت الأم والابنة النظر فى قلق على الأب الذى قال، وهو يشير إلى النافذة نصف مفتوحة فى ذهول، دخل من هنا وحط لى الجواب طائر عمرى ما شفت زيه، دخل رفرف ملأ الصالة برائحة المسك وحط لى الجواب وطار، شامين الريحة؟، قالت الأم بعد أن جلست جواره تبكى "خايفة عليك يابو مصطفى، ليه بتعمل فى نفسك كده بس؟ ابننا عند ربنا شهيد يابو مصطفى مع الصديقين والأنبياء.

جلس الأب والأم والابنة ينظرون إلى بعضهم فى فرح عميق، انحنى الأب على المظروف يمسكه ويقبله، وأعطاه للأم التى قبلته بدورها، وأعطته للابنة رقية التى قبلته ودموعها تترقرق فى عينيها، بعد قليل أشعل الناس تليفزيوناتهم، فرأوها قد غيرت برامجها كلها، ولا كلام لها إلا عن رائحة المسك العتيق التى ملأت كل البلاد، وفى الصباح كان حديث الصحف عن هذه الظاهرة الغريبة، عن الزهور التى خرجت من بيوت عديدة فى كل وادى النيل والصحراء، لتنشر رائحة المسك العتيق، وصار معروفا أنها كلها خرجت من بيوت الشهداء.