بقلم : فهمـي هـويـــدي
بعدما سكتت مؤقتا نيران العدو الصهيوني في لبنان, اسمحوا لنا ان نتحول الي النيران الصديقة التي مازالت جبهتها مفتوحة فيما تعبر عنه وسائل الاعلام, بما يستصحبه ذلك من قصف مستمر. بالعناوين المفخخة والدعاوي الملغومة والافكار العنقودية.
(1)
اسجل ابتداء بأن استخدامي لمصطلح النيران الصديقة لايخلو من مجاملة, لانني لا اري دليلا علي الصداقة في مسلك من يقصفك وانت في قلب المعركة, لكي يدمر معنوياتك وينقل اليك شعوره باليأس والهزيمة. صحيح ان اولئك الاصدقاء يعيشون بيننا ويتساكنون معنا, ولكنهم يقفون عمليا في مربع العدو, وفي أحسن الفروض فإنهم يحققون له اهدافه شاءوا ذلك ام ابوا, الامر الذي يفرغ الصداقة من مضمونها, ويجعل من المصطلح في هذا السياق نموذجا لاغتيال المعني.
ولا مفر من الاعتراف بان عقلية الهزيمة تمكنت من عدد قليل من النخب العربية, التي صارت نماذجها تطل علينا من فوق مختلف المنابر. ولم نعد نراهم الا وهم منبطحين ورافعين لرايات الاستسلام البيضاء. يزعجهم الحديث عن الصمود, وتروعهم فكرة المقاومة, ولا يخفون استياءهم من أي دعوة لاستنهاض الهمة والدفاع عن الكبرياء والكرامة.
حتي التضامن بالكلمات الذي يعبر عن الحد الأدني من المروءة وجدناهم يتوجسون منه, ويعتبرونه استدراجا لكمين يوقعهم في محظور حرب لم يدعهم احد اليها. مع ذلك فانهم لم يعودوا يرون فيها سوي انها فصل جديد في كتاب الهزيمة المقرر علي العرب, منذ استقر في يقينهم ان الهزيمة قدر مكتوب علي الجبين, لا مهرب منه ولا فكاك.
أكثر من ذلك, فان عقلية الهزيمة لا تحجب عن الانسان ادراك عناصر قوته فحسب, ومن ثم تفقده الثقة في نفسه, ولكنها ايضا تفقده الثقة فيمن حوله, بحيث لا يخطر علي باله أن بوسع غيره ان يقوم بما يعجز هو عنه. وقد يذهب في ذلك الي أبعد, فيعتبر الاقدام تهورا ومغامرة, ويبرر القعود والاحجام بحسبانه تعقلا وحكمة وروية.
(2)
في كل قضية هناك المعلومات, وهناك الاستنتاجات. ورغم ان اللعب في المعلومات وارد وله فنونه, إلا أنه يظل بكثير دون اللعب في الاستنتاجات, التي يتسع المجال فيها لاطلاق الادعاءات والترويج للأوهام والأكاذيب. وحين تتواتر المعلومات ويتوافق عليها اكثر من مصدر, فان ذلك يرجح صحتها, ويتيح للباحث فرصة الوقوف علي الحقيقة والزيف فيها. وفي مشهد الحرب الذي مررنا به ثمن معلومات ثبتت صحتها, يحسن الانتباه اليها أو التسلح بها, في التعامل مع حملة النيران الصديقة. من تلك المعلومات علي سبيل المثال:
* أن توجيه ضربة موجعة للبنان, بهدف تدمير بنية حزب الله والخلاص منه, لم يكن صدي لعملية اسر الجنديين الاسرائيليين في12 يوليو الماضي, ولكنه تنفيذ لخطة امريكية إسرائيلية أعدت سلفا, وكان يفترض ان تدخل حيز التنفيذ في الخريف القادم, والهدف النهائي للخطة هو الحاق لبنان بقطار التطبع مع اسرائيل, وإزالة أي تهديد يمثله حزب الله لاسرائيل, في حالة الهجوم الامريكي علي إيران لاجهاض مشروعها النووي. هذه المعلومة اكدتها ثلاثة مصادر مهمة, أولها الصحفي الامريكي الشهير سيمور هيرش الذي اورد القصة كاملة في تقرير مفصل نشرته مجلة نيويوركر في8/12.
أما المصدر الثاني فهو الكاتب الامريكي وين مادسون المتخصص في شئون الأمن القومي, الذي كتب مقالا ذاع صيته نشرته صحف امريكية عدة, وبثه مناهضو الحرب في إسرائيل علي موقعهم ا لالكتروني, وفيه حدد الكاتب بشكل شبه حاسم تواريخ اللقاءات الامريكية الاسرائيلية(6/17,18) ومكانها( ولاية كلورادو) واسماء المشاركين فيها( علي رأسهم ديك تشيني نائب الرئيس الامريكي وبنيامين نيتانياهو رئيس الوزراء الاسرائيلي الاسبق). وتحدث صاحبنا عن ان حرب لبنان تعد جزءا من حملة تنظيف الشرق الاوسط التي بدأت باحتلال العراق ومورست بمقتضاها بعض الانشطة التخريبية في لبنان, تمهيدا لضرب سوريا وإغلاق الملف الفلسطيني, بحيث ينتهي الأمر بقصف ايران والخلاص من الصداع الذي تسببه, لكي تمهد الساحة تماما أمام الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية.
المصدر الثالث هو الكاتب البريطاني جورج مونبيوت الذي نشرت له صحيفة الجارديان مقالة في8/8 قرر فيها ان خطة غزو لبنان الأصلية خططت لها اسرائيل في عام2004, وأطلعت عليها حكومة الولايات المتحدة وبريطانيا, وأجريت عليها عدة تعديلات ومناورات, الي ان أصبحت جاهزة للتنفيذ في بداية الصيف الحالي.
* المعلومة الثانية هي ان إسرائيل هي التي أرادت الحرب وسعت إليها, تنفيذا للخطة الموضوعة سلفا بالمشاركة الأمريكية. أما حزب الله فانه أرادها عملية مقاومة محددة, استهدفت تحرير الأسري, كما حدث في مرات سابقة, آخرها ماجري في عام ألفين, حين نصب الحزب كمينا وأسر ثلاثة جنود اسرائيليين, واختطف ضابطا إسرائيليا متقاعدا كان قد أغري بالذهاب الي بيروت, وقام الألمان بمفاوضات الوساطة التي استمرت ثلاث سنوات, واسفرت عن اطلاق سراح400 أسير لبناني وعربي, مقابل تسليم الأسري الإسرائيليين.
* المعلومة الثالثة ان نزع سلاح حزب الله هو في البدء والمنتهي مطلب اسرائيلي وأمريكي, وليس أي منهما حريصا علي السيادة اللبنانية, ولا علي بسط سلطان الحكومة علي كافة أراضي البلد. وإنما المطلوب بصريح العبارة هو إنهاء وجود المقاومة في لبنان, فضلا عن فلسطين بطبيعة الحال. وللعلم فإن السلاح موجود لدي كل الفرقاء اللبنانيين منذ حرب الخمسة عشر عاما, والسر المعلن الذي يعرفه أي مار في الشارع اللبناني ان كل فصيل لبناني لديه مخازن سلاحه, من القوات اللبنانية وحراس الأرز الي المردة والدروز وحركة أمل.. الخ. وذلك كله حلال ومسكوت عليه, ولا أحد يتحدث عن ضرورة نزع ذلك السلاح ولا عن بسط سلطان الدول علي المناطق التي يخزن فيها.
وحده سلاح حزب الله الذي يتعين نزعه, والذي يخل بسلطات الدولة ويقيم دولة أخري في داخلها. لماذا ؟ ـ لأنه وحده الذي صوب ضد إسرائيل واضطرها للانسحاب بليل من الأراضي اللبنانية في عام الفين, ولأنه وحده الذي ثبت انه يمكن ان يردعها ويجرح هيبتها. وهو وحده الذي يعطل استكمال المخططات الأمريكية والإسرائيلية.
في بريد الأسابيع الثلاثة الأخيرة.. وقعت علي أربعة خطابات يسألني اصحابها عن مدلول مصطلح الرافضة, وهل مسلمون حقا أم لا. ولم أكن بحاجة إلي بذل جهد لكي أعرف أن استعادة المصطلح واثارة اللغط حوله,هو أحد القذائف الموجهة التي أطلقت في سياق حملة النيران الصديقة, التي استهدفت طعن حزب الله من الظهر, من خلال تلغيم العلاقات السنية الشيعية. وإذ نجح بعض كبار علماء أهل السنة ـ في مقدمتهم الشيخ يوسف القرضاوي. في احباط المحاولة ووأد الفتنة في مهدها, إلا أن ذلك لم يوقف الحملة. فقد استمر القصف مستهدفا تفجير العديد من الملفات, من غمز في علاقة حزب الله بطهران, إلي الإدعاء بأن إيران وراء إشعال فتيل الحرب لصرف الانتباه عن أزمة مشروعها النووي. إلي التركيز علي علاقة الحرب بالدولة اللبنانية, مع الألحاح علي تحميله مسئولية تدمير لبنان وخرابه... الخ
هذه الادعاءات غيبت مجموعة من الحقائق هي:
أن القراءة المذهبية لحزب الله مدخل مغلوط يظلمه ويبخسه حقه. ذلك أن الحزب في مسيرته التي قاربت ربع قرن ظل جزءا من الحركة الوطنية اللبنانية. إذ حين قاوم الاحتلال الإسرائيلي حتي أجبره علي الانسحاب في السابق, وحين ضحي بشهدائه الذين كان من بينهم هادي ابن السيد حسن نصر الله( قتله الإسرائيليون وأخذوا جثته معهم في سنة1997, فإن ذلك كان من أجل لبنان, وليس من أجل إيران.
ليس مفهوما لماذا يعد الدعم الإيراني لحزب الله مطعنا فيه, ليس فقط لأنه ما من قوة سياسية لها وجود في الساحة اللبنانية, إلا وهي تستند إلي دعم خارجي ما, وليس فقط لأن رعاية الولايات المتحدة لإسرائيل تتجاوز بكثير الدعم الإيراني لحزب الله, ولكن أيضا لأنه بالمعيار الوطني الصرف, فإن أية جهة تساعد العرب علي التصدي للاحتلال الإسرائيلي والهيمنة الأمريكية حتي وان كانت فنرويلا, ينبغي أن يرحب بها, وان تستقبل بالحفاوة والثناء وليس بالقرح والهجاء.
بعدما تبين أن إسرائيل هي التي سارعت إلي إعلان الحرب, وأن خطة اجتياح لبنان لإلحاقه بقطار التطبع مع إسرائيل معدة سلفا بالتفاهم بين تل أبيب وواشنطن, لم يعد هناك محل لقبول الإدعاء بأن إيران هي التي عملت علي تفجير الموقف في لبنان. وإذا كانت إيران قد استفادت مؤقتا مما جري, وكذلك سوريا, فلا غضاضة في ذلك, طالما أن تلك الفوائد تحققت ضمن الآثار الجانبية للحرب, ولم تكن هدفا رئيسيا لها.
أن التركيبة الطائفية للبنان سمحت بنمو الكيانات المختلفة فيه, حتي تجاوزت قامتها قامة سلطة الدولة. وكما أشرت قبل قليل فإن وضع حزب الله لم يكن استثنائيا, حيث لم يختلف عن وضع جماعات أخري عديدة, لها حياضها التي لاتمس وسلاحها المتواري عن الأنظار, وعناصرها الباقية رهن الإشارة, وتمويلها المعلن والخفي.
أن وضع حزب الله في جنوب لبنان, قريب من وضع حركة جون قرنق في جنوب السودان, ورغم أن الحزب احتفظ بعلاقة إيجابية مع السلطة اللبنانية, وصار شريكا في مؤسساتها, ورغم أنه ليست لديه أية طموحات سياسية كتلك التي تعلق بها جون قرنق, رغم ذلك كله وقفت الولايات المتحدة والدول الغربية إلي جانب الجنوبيين في السودان, ولم تتحدث لاعن السلاح الواحد ولاعن بسط سلطة الدولة علي كامل تراب الوطن, وانما فرضت علي الخرطوم اعترافها بجون قرنق, وبقواته التي ضمت إلي الجيش السوداني, وقيل من تلك القوات أن تتمركز في ولايات الجنوب, وهي تجربة تفضح مدي الكيد وسوء النية في التعامل الأمريكي مع الملف اللبناني.
(4)
أسوأ ما في حملة النيران الصديقة أنها مستمرة في صرف الانتباه عن المرامي البعيدة ـ الحقيقية ـ للحرب, خصوصا هدف استئصال المقاومة, وتنظيف الشرق الأوسط بتركيعه وتوسيع دائرة الانبطاح فيه, ورغم أن جولة الحرب اللبنانية أفشلت إحدي حلقات المخطط الجهنمي, إلا أن السعي لايزال مستمرا, من خلال منافذ وثغرات أخري.. وهو الحاصل الآن.. حيث يراد لنا أن نقتنع بأن العدو هو الشيعة, وأن إيران مصدر الخطر, وأن الذي خرب لبنان هو حزب الله وليس إسرائيل.. وأن الإدارة الأمريكية هي سفينة نوح التي ينبغي أن نقفز إليها قبل أن يجرفنا الطوفان, في حين إن الرئيس بوش هو المهدي المنتظر.
:: الأهرام