جبران خليل جبران..رمل وزبد
يقول جبران خليل جبران في مقدمة رمل وزبد :
ليس هذا الكتاب الصغير بأكثر من اسمه – رمل وزبد – حفنة من الرمل وقبضة من الزبد .
وبالرغم عمّا ألقيت بين حباته وحبات قلبي ، وبالرغم عمـّا سكبت على زبده من عصارة
روحي ، فهو الآن وسيبقى أبدا ً أقرب إلى الشاطئ منه إلى البحر وأدنى إلى الشوق
المحدود منه إلى اللقاء الذي لا يحدّه البيان .
بين جانحي كل رجل وكل ّ امرأة قليل من الرمل وقليل من الزبد . ولكن بعضنا يبيـّن ما بين
جانحيه وبعضنا يخجل . أمـّا أنا فلم أخجل . فاعذروني وسامحوني .
والآن سوف نتصفح ونقلب كلمات هذا الكاتب العظيم فتفضلوا :
على هذه الشواطئ أتمشى أبدا ً ،
بين الرمل والزبد .
إن المد سيمحو آثار قدمي
وستذهب الريح بالزبد .
أما البحر والشاطئ فيظلان إلى الأبد .
* * *
ملأت يدي مرة بالضباب .
ثم فتحتها فإذا بالضباب قد صار دودة .
وأغلقت يدي وفتحتها ثانية فإذا هناك عصفور.
ثم أغلقت يدي وفتحتها للمرة الثالثة ، فإذا في راحتها رجل حزين الوجه ينظر إلى العلاء.
وأغلقت يدي راجعة ً ، وعندما فتحتها لم أرَ فيها غير الضباب .
ولكني سمعت أغنية بالغة الحلاوة .
* * *
خيل إليَّ في الأمس أني ذرة تتموج مرتجفة في دائرة الحياة بغير انتظام .
وكل اليوم أعرف المعرفة أنيَّ أنا الدائرة وأن الحياة بأسرها تتحرك فيَّ بذرات .
* * *
يقولون في يقظتهم : ما أنت والعالم الذي تعيش فيه سوى حبة رمل على شاطئ
غير متناه ٍ لبحر ٍ غير متناه ٍ .
وفي حلمي أقول لهم : أنا هو البحر غير المتناهي ، وما جميع العوالم ِ سوى حبات
رمل ٍ على شاطئي .
* * *
ما عييت إلا أمام من سألني : من أنت ؟؟
* * *
فكـّر الله ، فكان فكره الأول ملاكا ً .
وتكلم الله ، فكانت كلمته الأولى إنسانا ً .
* * *
كان الإنسان مخلوقا ً هائما ً ينشد ذاته الضالة في الأحراج قبل أن منحه البحر
والريح كلماته بألف ألف سنة .
فكيف يستطيع والحالة هذه أن يعبر عن العتيق الأيام فيه بأصوات حقيرة لم
يتعلمها إلا في الأمس القريب ؟؟؟
* * *
تكلم أبو الهول مرة واحدة في حياته . وإليك ما قال :
حبة الرمل صحراء ، والصحراء حبة رمل . قال هذا وسكت
ثانية ً ولم يفتح فاه .
قد سمعت ما قاله أبو الهول بيد أنـّنـي لم أفهم .
* * *
رأيت وجه امرأة . فرأيت أولادها ولم يولدوا بعد .
ونظرت امرأة إلى وجهي . فعرفت آبائي وجدودي وقد ماتوا قبل أن تولد .
* * *
أودّ الآن لو يتاح لي أن أكمل ذاتي . ولكن أنـّى لي ذلك إذا لم أتحول إلى سيادة يعيش
عليها العاقلون من الأحياء ؟؟
أليست هذه ضالة كل إنسان على الأرض ؟؟؟
* * *
الدرّة هيكل بناه الألم حول حبة رمل .
فما هو الحنين الذي بنى أجسادنا وما هي الحبوب التي بُنيت حولها ؟؟
* * *
عندما رماني الله حصاة صغيرة في هذه البحيرة العجيبة أزعجت هدوءها
بأن أحدثت ُ على سطحها دوائر لا يُحصى عديدها .
ولكني عندما بلغت ُ إلى أعماقها صرت ُ هادئة مثلها .
* * *
أعطني الصمت َ أقتحم غمرات الليل .
* * *
قد ولدت ثانية ً عندما وقع جسدي بحب نفسي وتزوجا معا ً .
* * *
عرفت في حياتي رجلا ً حاد السمع لكنه كان أبكم . فقد خسر لسانه
في معركة .
وأنا اعرف اليوم الحروب التي حاربها هذا الرجل قبل أن حل ّ به قضاء
الصمت العظيم . ويسرني جدا ً أنه مات .
لأن العالم على سعته لا يكفي لنا جميعا ً .
* * *
طويلا ً نمت في أرض مصر صامتا ً عن الفصول .
ثم ولدتني الشمس ، فوقفت ُ ومشيت على حافتي النيل مترنما ً مع الأيام
حالما ً مع الليالي .
والآن تعمش الشمس علي ّ بألف قدم لكي أنام ثانية ً في أرض مصر .ولكن
هوذا الأعجوبة والاحجية .
فإن الشمس نفسها التي جمعتني لا تستطيع أن تفرقني .
لذلك ما برحت منتصبا ً أمشي بخطى ثابتة على حافتي النيل .
* * *
التذكار شكل من أشكال اللقاء .
* * *
النسيان شكل من أشكال الحرية .
* * *
نحن نقيس الزمان بمقتضى حركة الشموس التي لا تحصى وهم يقيسون
بآلات صغيرة يحملونها في جيوبهم .
فقل لي ، رعاك الله ، كيف يمكن أن نجتمع معا ً في مكان واحد وفي وقت واحد ؟؟
* * *
ليس الفضاء فضاء ً بين الأرض والشمس لمن ينظر إليه من نوافذ المجرة .
* * *
الإنسانية نهر من النور يسير من أودية الأزل إلى بحر الأبد .
* * *
ألا تحسد الأرواح القاطنة في الأثير الإنسان على كآبته ؟
* * *
في طريقي إلى المدينة المقدسة لقيت حاجا ً آخر ، فسألته : أهذه حقيقة الطريق
إلى المدينة المقدسة ؟؟
فأجابني : هلمّ ورائي تصل إلى المدينة المقدسة في يوم وليلة .
فتبعته للحال . وسرنا أياما ً وسرنا ليالي ولكننا لم نبلغ إلى المدينة المقدسة .
وشدّ ما كانت دهشتي عظيمة إذ عرفت ُ أنـّه غضب لأنـه لم يسر بي في الصراط المستقيم .
* * *
اجعلني يا الله فريسة الأسد قبل أن تجعل الأرنب فريستي .
* * *
قال لي منزلي : لا تهجرني لأن ماضيك يقكن فيَّ .
وقالت لي الطريق : هلم ورائي . فأنا مستقبلك .
أما أنا فأقول لمنزلي والطريق معا ً : ليس لي ماض ٍ ولا مستقبل .
فإذا أقمت هنا ففي إقامتي ذهاب ، وإذا ذهبت فهناك إقامة في ذهابي ،
فإن المحبة والموت وحدهما يغيران كل شيء .
* * *
كيف أخسر إيماني بعدل الحياة ، وأنا أعرف أن الأحلام الذين ينامون على
الريش ليست أجمل من أحلام الذين ينامون على الأرض ؟؟
* * *
ما أغربني عندما أشكو ألما ً فيه لذاتي !!
* * *
سبع مرات احتقرت نفسي :
أولا ً - عندما رأيتها تتلبس بالضعة لتبلغ إلى الرفعة .
ثانيا ً - عندما رأيتها تقفز أمام المخلصين .
ثالثا ً - عندما خُيرت ْ بين السهل والصعب فاختارت السهل .
رابعا ً- عندما احتملت ما حل بها لضعفها . ولكنها نسبت صبرها للقوة .
خامسا ً- عندما اقترفت إثما ً ثم جاءت تعزي ذاتها بأن غيرها يقترف الإثم مثلها .
سادسا ً- عندما احتقرت بشاعة وجه ما هو عند التحقيق سوى برقع من براقعها .
سابعا ً- عندما أنشدت أغنية ثناء ومديح ، وحسبتها فضيلة .
* * *
أنا لا أعرف الحقيقة المجردة ، ولكني أركع متضعا ً أمام جهلي ، وفي هذا فخري وأجري .
* * *
بين خيال الإنسان وإدراكه مسافة لا يجتازها سوى حنينه .
* * *
الفردوس قائم هناك ، وراء ذلك الباب ، في الغرفة المجاورة ، ولكني
أضعت مفتاح الباب .
ولعلي لم أضعه بل وضعته في غير موضعه .
* * *
أنت أعمى ، وأنا أصم أبكم ، إذن ضع يدك بيدي فيدرك أحدنا الآخر.
ليست قيمة الإنسان بما يبلغ إليه بل بما يتوق للبلوغ إليه .
بعضنا كالحبر وبعضنا كالورق .
فلولا سواد بعضنا لكان البياض أصم .
ولولا بياض بعضنا لكان السواد أعمى .
أعطني أذنا ً أعِطك صوتا ً .
العقل إسفنجة ، والقلب جدول .
أفليس بالغريب أن أكثرنا يؤثرون الإمتصاص على الإنطلاق ؟؟؟
إذا تقت إلى البركات التي لا تعرف لها أسما ً ،
وإذا حزنت وأنت لا تعرف سببا ً لحزنك ،
فأنت حينئذ ٍ تنمو بالحقيقة مع جميع الناميات ، وترتفع متساميا ً إلى ذاتك العظمى .
إذا سكر الإنسان برأي حسب أضعف تعبير عنه خمره طيبة .
أنتم تشربون الخمر لتسكروا ، وأنا أشربها لأصحو من خمرة غيرها .
إذا فرغت كأسي رضيت ُ بفرغها ، وإذا لم يكن فيها نصفها اعترضت
على نصف امتلائها .
ليست حقيقة الإنسان بما يظهره لك ، بل بما لا يستطيع أن يظهره .
لذلك إذا أردت أن تعرفه ، فلا تصغ إلى ما يقوله بل إلى ما لا يقوله .
نصف الذي أقوله لك لا معنى له ، ولكنني أقوله ليتم معنى النصف الآخر .
تعرف الفكاهة إذا عرفت اغتنام الفرص السانحة .
لم أشعر بألم الوحشة حين مدح الناس عيوبي الثرثارة وطعنوا في عيوبي الخرساء .
عندما لا تجد الحياة مغنيا ً يتغنى بقلبها تلد فيلسوفا ً يتكلم بعقلها .
يجب أن تعرف الحقيقة أبدا ً وتقولها بعض المرات .
الحقيقي فينا صامت ولكن الاكتسابي ثرثار .
لا يستطيع صوت الحياة الذي في ّ أن يصل إلى أذن الحياة التي فيك ،
ولكن فلنتكلم على كل حال لئلا نشعر بوحشة الانفراد .
إذا تكلمت امرأتان فهما لا تعلنان شيئا ً .
وإذا تكلمت امرأة واحدة فإنها تعلن الحياة كلها .
قد يكون للضفدع أصوات أعلى من أصوات البقر . ولكن
الضفادع لا تستطيع أن تجرّ السكة في الحقل ، ولا أن تدير دولاب
المعصرة ، ولا يمكن أن تصنع من جلودها أحذية .
لا يحسد الثرثار إلا الأصم .
إذا قال الشتاء : إن الربيع في قلبي ، فمن ذا يصدق الشتاء ؟؟
في كل بزرة حنين .
افتح عينيك جيدا ً وانظر ، تجد صورك في كل الصور .
وافتح أذنيك جيدا ً وأصغ ، تسمع صوتك في كل الأصوات .
يحتاج الحق إلى رجلين : الواحد لينطق به والآخر ليفهمه .
مع أن أمواج الألفاظ تغمرنا أبدا ً ، فإن عمقنا صامت أبدا ً .
كثير من المذاهب كزجاج النافذة ، نرى الحقيقة من خلالها،ولكنها
تفصلنا عن الحقيقة .
هلم بنا نلعب لعبة " تخبأ مليح " ونفتش بعضنا عن بعض ، فإذا اختبأت في قلبي
فليس بالصعب عليّ أن أجدك ، ولكن إذا اختبأت وراء صدفتك فحينئذ ٍ عبثا ً يحاول الناس أن يهتدوا إليك .
تستطيع المرأة أن تقنع وجهها بابتسامة .
ما أنبل القلب الحزين الذي لا يمنعه حزنه عن أن ينشد أغنية القلوب الفرحة .
ما أشبه الراغب في فهم المرأة أو تحليل العبقرية أو حلّ سر الصمت بذلك الرجل الذي يفيق
من حلم جميل ليأكل طعام الصباح .
سأمشي مع جميع الماشين ، ولا ولن أقف بلا حراك لأراقب مواكب العابرين بي .
.
.
.