إن المسلمين ظلموا دينهم مرتين: مرة بسوء التطبيق ومرة بالعجز عن التبليغ.. فسوء التطبيق عرَّض الدين نفسه للتهم حتى قيل: إنه ضد الفطرة والحرية والعقل.. والعجز عن التبليغ أبقى جماهير كثيفة في المشارق

والمغارب لا تدري عن الإسلام شيئا يُذكَر;.

يستقرئ الشيخ محمد الغزالي في هذا الكتاب القرآن الكريم ليستخرج محاوره التي يرتكز عليها؛ فيبدأ الشيخ حديثه مبيّناً فضيلة القرآن العظمى أنه الوحي الخالص وكتاب الأزل والأبد، الذي لم ترقَ إليه شبهة ولم يختلط

فيه الوحي بفكر بشر، يُخرج الناس جميعاً من الظلمات إلى النور، ويضبط سير البشر ويهديهم إلى صراط مستقيم، ثم يؤكد ذلك من وجهين: تاريخي وموضوعي، ويحمل على المكذبين بالقرآن فيخطئهم تاريخياً، كما

يخطئهم من خلال القرآن نفسه، الذي تمثّل في ذاته كمعجزة تتحدى لو أن متحديه عاقل ينشد الحق لا مفترٍ عليه؛ فالشيخ يؤكد أن مظاهر العقل والنقل تتزاحم لتؤكد أن هذا الكتاب {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ

خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}.

وفي هذه الرسالة يؤكد وظيفة القرآن في الحياة قائلاً: ;هذا الكتاب يُعرّف الناس بربهم على أساس من إثارة العقل وتعميق النظر، ثم يحوّل هذه المعرفة إلى مهابة لله، ويقظة في الضمير، ووجل من التقصير واستعداد

للحساب.. هناك أفكار أرضية تبدئ وتعيد في نطاق الحمأ المسنون، أما القرآن؛ فهو يدع الناس يمشون في الأرض، بعد أن يجعل رؤوسهم في السماء".

ثم يستنبط الشيخ من خلال استقرائه المحاور التي دارت عليها سُوَر القرآن الكريم في خمسة محاور؛ فهيا بنا ننطلق معه لنبصر ولنتدبر.

المحور الأول: الله الواحد

يُقرّ الشيخ هنا حالة البشر منذ القدم؛ فهم إما مُشرك مع الله غيره، وهؤلاء قالوا: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ}، أو منكر الألوهية بالأساس، وهم من قالوا: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ}، وهؤلاء

وأولئك هم من قابلوا الأنبياء عليهم السلام بالحرب الشعواء لمّا جاءوا يدعونهم إلى توحيد الله.


وقد أفاض القرآن في هذه القضية، وهو يمزج في ذلك بين أمرين:

1- فقر العالم إلى الله وقيامه به واستمداده الوجود منه؛ لأنه من المستحيل أن ينتظم هذا العالم من غير منظِّم أو يتخلق من غير خالق.

2- أن هذا الخالق المدبر واحد لا شريك له، ليس له ندّ ولا ضدّ، كل شيء هالك إلا وجهه..

ويستقرئ الشيخ آيات القرآن ومسيرة التوحيد والشرك والدعوة والتكذيب، ثم يؤكد أن التوحيد قانون الوجود ونظام الحياة: ;فإننا نشبه المصابيح الكهربية التي لا تضيء من ذاتها؛ وإنما تضيء بتيار يسري في الأسلاك

إليها؛ فإذا انقطع هذا المدد الخارجي أظلمت;.

ويتطرق الشيخ في هذا السياق إلى قضية القدَر والجبْر والزعم القائل بأن ;الحياة رواية تمثيلية، وأن التكليف أكذوبة، وأن الناس مسُوقون إلى مصائرهم المعروفة أزلاً طوعاً أو كرهاً؛ بل إن المرسلين خدعة تتم بها

فصول الرواية.. وهذا ظنهم في علم الله؛ إذ كل شيء حقيقة في علم الله؛ ولكن علم الله هذا ;وصّاف كشّاف; يصف ما كان ويكشف ما يكون، والكتاب الدالّ عليه يسجّل الواقع وحسْب، لا يجعل السماء أرضاً ولا

الجماد حيواناً، إنه صورة تطابق الأصل بلا زيادة ولا نقصان، ولا أثر لها في سلب ولا إيجاب.

المحور الثاني: الكون الدال على خالقه

يؤكد الشيخ الغزالي أن الكون كله دليل على الله من أصغر شيء إلى أكبر شيء، ويدعونا للتأمل في نفوسنا وعالمنا المحدود؛ لندرك أن الخالق قدير، حكيم، عليم، لا منتهى لكماله، ولا حدود للثناء عليه.. ثم بعد ذلك

نعلم أن ما غاب عن وعينا وعلمنا أكبر بكثير مما نما إليه علمنا الذي وهبنا الله إياه {خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ}.

استمع إليه يقول: "إن الجهاز الذي يخترعه أحد العباقرة ينطق بعقل صاحبه وشدة تألقه، وبديع السماوات والأرض أودع في خلايا الأجسام الحية، وفي ذرات الأجرام الميتة ما ينادي يعلمه وحكمته وبركته.. إن هذا

الكون هو المسرح الأول لفكرنا والينبوع الأول لإيماننا. وهنا يتلاقى الشيخ الغزالي مع العقّاد في قوله: ;إن التفكير فريضة إسلامية;؛ فيثبت أن المجال الأول للفكر هو مادة هذا الكون، و;لن يحسن معرفة الله امرؤ

يعمى عن سنن الحق، ولن يخدم رسالات الله جهول بهذه السنن".

ويمضي الشيخ يكشف أمام أعيننا عظمة هذا الكون ودقة صنعه من ماء وظلال وأضواء لندرك عَظَمة الخالق ولتزداد مهابته في قلوبنا.

المحور الثالث: القصص القرآني

وهذا المحور هو أوسع المحاور القرآنية، ويردّ الشيخ على سؤال هام، وهو: هل القصص الواردة في القرآن تكرار يُغني قليله عن كثيره؟ ثم ينفي هذا مبيّناً أن لكل قصة في موضعها إيراد مقصود، وأَثَر مغاير يحتاج

إليه السامع لتكتمل به الحقيقة التاريخية والتربوية، ومرة أخرى يلتقي بفكر الأستاذ العقاد حين يردّنا إلى قوله: إن الصور تختلف للمكان الواحد عندما يتمّ التقاطها من زوايا مختلفة؛ فصورة القاهرة من الجو غير

صورتها من المقطم، غير صورتها من النيل أو الأهرام، والقاهرة هي القاهرة؛ ولكن ما يراد إبرازه هنا غير ما يراد إبرازه هناك.

وأخذ يحلل القصص القرآنية التي وردت عدة مرات كقصة آدم التي يطيل في تحليلها والنظر في حكمة تعدد زوايا الرؤية فيها.

والقصص القرآني أداة للتربية ومصدر توجيه ووعظ واعتبار؛ لذا قصّ القرآن علينا قصص الماضين؛ لأن "الإنسان هو الإنسان قد يختلف في ريفه وحضَره وأميته وثقافته؛ ولكن ذلك الاختلاف في وسائله إلى أهدافه؛





أما غرائزه فهي في أصلها ثابت؛ قلما يعروها تغيير.. إن عرام الشهوات في هوليوود لا يقلّ عن أمثاله من عشرات القرون في أسواق النخاسة أو مواطن البغاء مهما تقدم العلم، ومخازي الاستعمار لا تقلّ عن أمثالها

أيام جبروت الأباطرة والفراعنة، وإن لطُفت الأسماء ورقّت العناوين".

ثم يقودنا الشيخ في تؤدة بعد تطوافة في الحضارة الحالية إلى حضارات مشابهة ذُكِرت في القرآن الكريم؛ لنجد أنفسنا ونحن نتحدث عن العصر الحديث بكل أبعاده من مشكلات الأطفال والإيدز، وغزو الفضاء، إلى

عمالقة عاد، وقوم نوح في القصص القرآني، وهو ربط فريد نجح به الشيخ الغزالي أن يبرهن على غاية سوق القصص القرآني بطريقة عملية الذي هو مناط إيراد هذا القصص التربية والاعتبار {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ

عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.

المحور الرابع: البعث والجزاء

إن الله أوجد البشرية لا لتعيش برهة من الزمن ثم تفنى؛ بل خَلَقها الله لتخلد، وهذا الموت الذي يعترض مسيرتها هو رقدة مؤقتة، أو نقطة فاصلة بين مرحلتين من الوجود، كانت الأولى للغرس؛ بينما كانت الثانية

للحصاد.

المحور الخامس: ميدان التربية والتشريع

يُحلّق بنا الغزالي في ميدان محمد صلى الله عليه وسلم، الذي صاغ به تجربة فريدة ونماذج عَقُم الزمان أن يجود بمثلها، إنها الربانية التي زرعها محمد صلى الله عليه وسلم في نفوس أتباعه رضوان الله عليهم جميعاً أن

تترك الرذائل؛ لأن الموصول بالله لا يكون من الأراذل، وتتحلى بالفضائل لله لا لسواه؛ فالربانية في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، هي أساس أنشطتهم في اليقظة والنوم؛ فالله غاية كل سعي وباعث كل حركة،

ولا عجب أن كان شعارهم في السلم والحرب