مهما كثرت المعاذير والمبررات التي يبرر كل منا بها خطأه وتعديه فإن الأصل أننا جميعًا نعلم حقيقة أفعالنا، أنا وأنت نعرف جيدًا وندرك في غالب أمرنا تلك الحقيقة، مهما تجملنا وادعينا وبررنا وزينا أعمالنا فإن الأصل أننا حين نخلو بأنفسنا لن نتمكن طويلاً من خداعها.


لطالما كنت أسأل نفسي دومًا: ترى! هل يعلم المخطئون أنهم مخطئون؟!
هل يدرك الفاسد أو المفسد أو الضال المُضل أنه كذلك؟
هل يفهم المجرم أنه مجرم وهل يلاحظ الظالم أنه يبغي ويجور؟!


وإن كانوا يعلمون ذلك ويدركونه فكيف ينظرون لأنفسهم في المرآة دون أن يحتقروا تلك الأنفس والأفعال، التي جُبلت الفطر على احتقارها؟! كيف ينام حملة المباخر ومدمنو النفاق ومحترفو الكذب؟! وكيف يضعون جنوبهم مطمئنين وهم يدركون ويعلمون أنهم قد ظلموا إنسانًا أو انتقصوا من حق إنسان؟! الحقيقة أن الإجابة عن الشق الأول من تلك الأسئلة هي بوضوح: نعم يعلمون! كاد المريب أن يقول خذوني! هذا هو الأصل..


مهما كثرت المعاذير والمبررات التي يبرر كل منا بها خطأه وتعديه فإن الأصل أننا جميعًا نعلم حقيقة أفعالنا، أنا وأنت نعرف جيدًا وندرك في غالب أمرنا تلك الحقيقة، مهما تجملنا وادعينا وبررنا وزينا أعمالنا فإن الأصل أننا حين نخلو بأنفسنا لن نتمكن طويلاً من خداعها.


{بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ . وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:14-15]، هكذا واضحة قاطعة بيّنها ربنا في كتابه..
مهما ألقى الإنسان معاذيره وساق حججه وأتقن مبرراته، فالأصل أنه يدرك حقيقة ما يفعله ويبصر بوضوح ما عليه نفسه.. {فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ . ثُمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء:64-65]، هكذا كانت إجابة قوم إبراهيم حين سفه أحلامهم وسخر من آلهتهم الباطلة قائلاً: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63].


وهم يعلمون الحقيقة، إنهم وآلهتهم على باطل وإن معبوداتهم لا تنطق ولا تنفع ولا تضر ولا تفعل، بل يُفعل بها لذلك سألوا ابتداءً: "من فعل هذا بآلهتنا؟!"، ولما سمعوا الإجابة نكسوا على رؤوسهم ورجعوا إلى أنفسهم، ومع تلك الأنفس لا يفيد الإنكار، فاعترفوا.


{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [النمل:13].
أما هذا فكان رد فرعون وآله على تلك الآيات المبينات التي أرسل بها موسى إليهم..
كالعادة.. لا شيء جديد في ردهم! اتهامات وتشكيكات وتسمية للأشياء بغير مسمياتها، لكن هل كانوا حقًا يرون الأمر سحرًا أو دجلاً؟ الجواب يأتيك من ربك في الآية التي تليها من سورة النمل: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:14].


إذاً فقد كانوا يعلمون! بل ويستيقنون! وتلك شهادة ربهم الذي يعلم ما يعلنون، وما في صدورهم يُخفون ويكتمون، لكنهم مهما يخفون ويكتمون، فإن تلك اللحظة التي يقول فيها مريبهم خذوني ويتحسس (بطحته) التي تتوسط رأسه: قادمة لا محالة، وحينئذ يفتضح الأمر وتظهر الحقيقة جلية في تصرفاتهم التي تصرخ باعترافاتهم..


هذا بالنسبة للشق الأول من الأسئلة، لكن ماذا عن الشق الثاني؟
كيف ينامون ومع خطاياهم يتعايشون؟ وكيف لا يحتقرون أنفسهم التي يعلمون حقيقتها الكامنة خلف الأصباغ والزينة؟ هناك عدة وسائل يواجه بها المخطىء خطأه، ويتعايش الفاسد مع فساده إن قرر الاستسلام له والاستقرار في قاعه، ولم يقو على توبة وإصلاح..


أول تلك الوسائل أن يتناسى تلك الحقائق التي يعلمها جيدًا عن نفسه، ويخدر ضميره ويخرسه تمامًا ويتغافل عن كل تلك النكزات والوخزات التي تؤرقه بها أحيانًا بقايا ذلك الضمير، وحينئذ على من اتبع تلك الوسيلة ألا يجلس كثيرًا مع نفسه، وأن يعيش في صخب شديد وضجة عالية يخبو معها كل صوت ينبعث من أي ناصح أمين..


بل حتى ذلك الصوت الذي ينبعث من روحه معاتبًا أو مؤنبًا ينبغي أن يخمده، ومن ثم يخلد إلى فراشه آخر اليوم وقد خارت قواه وهوى في سبات عميق يشبه الغيبوبة، فلا يملك الوقت ولا القدرة أن يراجع نفسه أو يحاسبها.


الوسيلة الثانية تتلخص في كلمة واحدة: (البجاحة)! أنا كدة وعاجبني حالي كدة!
هكذا يقطع على نفسه وغيره كل طريق لوم أو عتاب وتأنيب، وتلك درجة متقدمة من التفلت والفجور إذ كيف ستلوم من هو مفتخر بباطله متصالح مع فساده، منافح عنه ومدافع عن خلله وانحرافه، هو لا ينكر أنه خطأ أصلاً لكي ينفق الوقت والجهد في إقناعه بأن ما يفعله خطئًا، ولا هو معترف نادم يتمنى إصلاحًا، بل هو صريح متبجح بفساده مباهٍ به مُصرٌّ عليه.


أما الوسيلة الأخيرة فهي: إدمان خداع النفس والركون إلى المهاترات والمعاذير الواهية والمبررات المتكلفة، والحجج المتهافتة حتى يحدث المحظور ويصدق المرء خداعه لنفسه، ويقع في حبائل أكاذيبه وترهاته فتُطمس فطرته ويغيب تمييزه، ويقتنع فعلاً أنه على حق ويُزَيَّن له سوء عمله فيراه حسنًا..


{أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر من الآية:8].
هذا في رأيي أصعب النماذج وأضل الأنواع، ولقد سماهم الله بالأخسرين أعمالاً
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103-104]، لقد صار الواحد منهم يخدع نفسه قبل أن يخدع الناس، والأدهى أنه يصدق أكاذيبه ويعجب بألاعيبه، لدرجة مذهلة تصل به إلى أن يجترىء على ممارسة ذلك الخداع مع خالقه يوم القيامة!


{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ} [المجادلة من الآية:18].
لكن مع كل ذلك الحلِف والظن أنهم على شيء فإن وصفهم الذي لا يغادرهم، والذي ختم الله به تلك الآية يظل هو الكذب والخداع: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة من الآية:18]، وأول من كذبوا عليه وخادعوه: تلك الأنفس التي بين جنوبهم!