أربعة عشر عامًا مروا على وفاة الطفل "محمد الدرة" أيقونة النضال الفلسطيني، الذي توفى عام 2000، في مشهد لن يغيب على الذاكرة وهو قابع في أحضان والده في موقف هز ضمائر العالم الإنسانى.

وقعت حادثة محمد الدرة في قطاع غزة في الثلاثين من سبتمبر عام 2000، في اليوم الثاني من الانتفاضة الثانية للأقصي، وسط أعمال شغب امتدت على نطاق واسع في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية، والتقطت عدسة المصور الفرنسي "شارل إندرلان" والمراسل بقناة "فرنسا 2" مشهد احتماء جمال الدرة وولده محمد البالغ من العمر اثنتي عشرة عامًا، خلف برميل إسمنتي، بعد وقوعهما وسط محاولات تبادل إطلاق النار بين جنود الكيان الصهيوني وقوات الأمن الفلسطينية.

وعرضت هذه اللقطة التي استمرت لأكثر من دقيقة، مشهد احتماء الأب وابنه ببعضهما البعض، ونحيب الصبي، وإشارة الأب لمطلقي النيران بالتوقف، وإطلاق وابل من النار والغبار، وبعد ذلك ركود الصبي علي ساقي أبيه.

وبعد تسع وخمسين ثانية من البث المبدئي للمشهد في فرنسا، بتعليق صوتي من رئيس مكتب فرنسا 2 بإسرائيل، شارل إندرلان، الذي لم يشاهد الحادث بنفسه، ولكنه أطلع علي كافة المعلومات المتعلقة به، من المصور عبر الهاتف، أخبر إندرلين المشاهدين أن "آل الدرة كانوا" هدف القوات الإسرائيلية من إطلاق النيران، وأن الطفل قد قتل، وتم تشييع جنازة شعبية تخلع القلوب، مجد العالم العربي والإسلامي محمد الدرة باعتباره شهيدًا.

في البداية أعلنت قوات الدفاع الإسرائيلية تحملها المسؤولية، كما أبدت إسرائيل في البداية، أسفها لمقتل الصبي، ولكنها تراجعت عن ذلك، عندما أشارت التحريات إلي أن الجيش الإسرائيلي ربما لم يطلق النيران علي الدرة، وعلي الأرجح أن الفتي قتل برصاص القوات الفلسطينية.

وذكر ثلاثة من كبار الصحافيين الفرنسيين الذين شاهدوا لقطات من الخام في عام 2004، أنه لم يتضح من اللقطات وحدها أن الصبي لقي حتفه، وأن قناة "فرانس2" حذفت عدد قليل من الثواني الأخيرة، والتي يظهر فيه الصبي وهو يرفع يده عن وجهه.

وفي عام 2005، صرح رئيس تحرير غرفة الأخبار بالقناة، أنه لا يمكن لأحد أن يحدد علي وجه اليقين من الذي أطلق النيران، ولكن ذهب معلقون آخرون من بينهم مدير مكتب الصحافة الحكومي الإسرائيلي، بالقول أن المتظاهرين الفلسطينين قاموا بتنظيم هذا المشهد.

وبعد إجراءات قانونية مطولة، أدين فيليب كارسنتي، المعلق الإعلامي الفرنسي، بالتشهير بقناة فرانس2، واتهامها بالتلاعب في مادة الفيلم ، وقد أدى هذا المشهد إلى سقوط قتلى آخرين، وألقي باللائمة عليه في إعدام اثنين من جنود الاحتياط بالجيش الإسرائيلي في رام الله، أكتوبر 2000، وظل سببًا محفورًا في خلفية العالم، عندما أطاحت القاعدة برأس الصحفي الإسرائيلي الأمريكي دانيال بيرل، في عام 2002.

وعلي الصعيد الإعلامي، أصدرت محكمة الاستئناف الفرنسية حكمها النهائي في قضية التشهير بالقناة الفرنسية في 26 يونيو 2013، حيث أدانت كارسنتي بالتشهير وألزمته محكمة الاستئناف في باريس بدفع غرامة قيمتها 7.000 دولار.

وجاء الحكم النهائي للمحكمة الفرنسية برفض إصدار كارسنتي، الذي وصف فيه مقتل محمد الدرة بأنه' عملية نظمها المتظاهرون الفلسطينيون ، وفي عام 2012، أجري حوار صحفي مع جمال الدرة الذي أكد أنه يفتخر بولده الشهيد، وقال إنه يفتخر بمحمد ليس فقط بكونه ابنه ولكن ابنًا للأمة العربية.

أثارت قضية محمد الدرة وصور استشهاده العالم بأكمله، وبما فيه ذوي الضمائر الميتة، ولا تزال قضيته مطروحة علي الساحة، فهناك جدل دائر حولها كل يوم، وفي المقابلة نفسها، وجه جمال انتقاده لمناصري التناقضات الإسرائيلية المصورة بشكل مبالغ فيه حول أحداث مقتل ابنه.

واستند إندرلين في إدعائه بأن القوات الإسرائيلية أطلقت النيران على الصبي، على تقرير المصور طلال أبو رحمة، ونقلت صحيفة الجارديان قول أبو رحمة عن قوات الدفاع الإسرائيلية: "إنها كانت تستهدف الصبي،وذلك ما أذهلني بالطبع، فلم توجه هذه القوات النيران على الصبي مرة فحسب، بل وجهتها عدة مرات"، وذكر أبو رحمة أن إطلاق النار كان يأتي أيضًا من ناحية قوات الأمن الوطنية الفلسطينية بالبؤرة الاستيطانية جنوب مفترق الطرق، خلف البقعة التي ربض فيها محمد وجمال، لكنه قال إنها لم تكن تطلق النار عندما أصيب محمد، وقال إن النيران الإسرائيلية كانت موجهة إلى هذه البؤرة، وعلى بعد ثلاثين مترًا، كانت توجد قاعدة أمامية فلسطينية أخرى.

وذكر أن ما استرعى انتباهه إلى الصبي، هو وجود مصور رويترز، شمس عودة الذي احتمى مع الصبي وأبيه لفترة وجيزة خلف البرميل الإسمنتي ، وأبلغ أبو رحمة الإذاعة الوطنية العامة في 1 أكتوبر 2000 قائلًا: "رأيت الصبي مصابًا في ساقه، و كان أبوه يستغيث، ثم رأيت الأب أيضًا مصابًا في ذراعه، وكان الأب يطلب سيارة إسعاف لإنقاذه ولكنني لم أتمكن من رؤية سيارة الإسعاف لم أكن بعيدًا، ولربما كانت المسافة بين وبينهم( جمال ومحمد) حوالي 15 أو 17 مترًا".

وفي شهادة خطية بتاريخ 3 أكتوبر 2000، أقسم فيها أبو رحمة أن الجنود الإسرائيلين قتلوا الصبي عمدًا وبطريقة وحشية، قال: "يمكنني تأكيد أن إطلاق النار على الطفل محمد ووالده جمال جاء من الموقع العسكري الإسرائيلي المذكور أعلاه، كما كان الموقع الوحيد المحتمل أن يأتي إطلاق النار على الصبي ووالده منه. ولذا من خلال المنطق والسجية، وواقع خبرتي الطويلة في تغطية الأحداث الساخنة والمواجهات العنيفة، وقدرتي على تمييز أصوات إطلاق النار، أستطيع أن أؤكد أن الجيش الإسرائيلي قتل الصبي بالرصاص عمدًا، وأصاب والده"، وتم تسليم هذه الشهادة إلى المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان في غزة،ووقعها المصور في وجود محام حقوق الإنسان، وفي وقت لاحق، ذكر مدير الاتصالات في فرانس2، كريستين ديلافينات، أن أبو رحمة نفى اتهامه للجيش الإسرائيلي بإطلاق النار عمدًا على الصبي ، وأن هذا قد نسب إليه زورًا.

لم يكن الدرة هو الوحيد الذي مات في صفوف الشعب الفلسطيني، ولكن هناك درة يموت كل يوم، ولكن باسم وشكل مختلف، وسط صمت عربي وعالمي، فشل في إيقاف العدو، وكان آخر هذه الجرائم، الحرب على غزة، والتي امتدت من 8 يوليو إلى 20 أغسطس 2014، راح ضحيتها مئات الأطفال الفلسطينيين.