صاح يوسف إدريس قبل عشرات السنين بصوته الجرئ: تعالوا نتثقف يا ناس، إدراكاً منه أن الثقافة وحدها هى المنقذ للعقل ولإنسانية الإنسان، وفى الذكرى الثانية والعشرين لرحيل عملاق القصة القصيرة يجدد تلاميذه وعشاق أدبه دعوته، التى نحن فى أمس الحاجة إليها فى الوقت الحالى لنخرج بلادنا سالمة من الأنفاق المظلمة التى تجر إليها.

يؤكد الكاتب الكبير أحمد الخميسى، أن يوسف إدريس هو عبقرى القصة القصيرة العربية الذى مازال وهجه وإبداعه يملأ حياتنا ومشاعرنا فهو ليس مؤسس القصة القصيرة المصرية، فقد سبقه إلى ذلك محمد تيمور بقصته "فى القطار" عام 1914، وآخرون مثل الأخوين عيسى وشحاته عبيد، ويحيى حقى، وطاهر لاشين، لكن "التأسيس" ليس البناء، لقد وضع الخليل بن أحمد علم عروض الشعر لكنه لم يكتب الشعر والكتاب الذين سبقوا إدريس وضعوا الأساس لكن إدريس هو الذى بنى صرح القصة القصيرة، وقدمت لنا فى قصصه بانوراما ضخمة ومذهلة لمختلف النماذج الإنسانية المصرية بدءا من الطالب والموظف والفلاح والعامل والمثقف والمقاتل والطبيب وفقراء المدن، قبل يوسف إدريس لم يدخل الفلاح المصرى إلى الأدب إلا فى أعمال قليلة منها رواية الأرض لعبد الرحمن الشرقاوى.

فجاء يوسف إدريس ليجعل الفلاح سيد المشهد من مختلف الزوايا وبمختلف الهموم، وأصبح يوسف إدريس عن حق الناى الذى عزف عليه الفلاحون المصريون أشواقهم وآمالهم، وستظل مجموعاته القصصية البديعة جزءاً أساسياً من كنوز الأدب العربى بدءاً من "أرخص ليالى"، و"حادثة شرف" و"أليس كذلك"، وستبقى رواياته القصيرة المدهشة "الحرام" و"العيب" ومسرحياته "ملك القطن" و"جمهورية فرحات" وغيرها تحيا بقدر ما كان ذلك الكاتب العبقرى مؤمنا بشعبه وممثلا نابغة للتيار الديمقراطى فى الأدب المصرى.

ويضيف الخميسى: فى السنوات الأخيرة من إبداع يوسف إدريس ألح عليه السؤال المؤرق "هل يمكن الجمع بين الحرية والخبز؟"، ووجد ذلك التساؤل تعبيراً عنه فى مسرحياته "الفرافير"، و"المهزلة الأرضية" و"المخططين" وغيرها، وقد أتاحت لى الظروف شرف الالتقاء بذلك الكاتب العبقرى، كما أنه شرفنى بتقديمى فى مجلة الكاتب فى ديسمبر 1966، وكنت أشعر أمامه دائما أننى أمام ليس كاتبا كبيرا فحسب بل وإنسانا كبيرا يريد أن يمنح كل خبراته وأفكاره وأحلامه للآخرين، لم يرحل عنا يوسف إدريس، إنه يرحل إلينا كل يوم، إنسانا وكاتبا عظيما.

ويؤكد الدكتور جابر عصفور وزير الثقافة الأسبق على أن يوسف إدريس هو أعظم كتاب القصة القصيرة العربية بلا استثناء وله مجموعات قصصية أشبه بالمعجزات الأدبية، وروايات هامة ادخرها للنقد الاجتماعى طويل النفس ففى روايته "الحرام" وهى تسميه ساخرة منه كان الحرام الذى قصده هو ما يرتكبه أهل القرية لا بطلة القصة ونفس الشىء فى العيب، كانت رواياته منصبه على النقد الاجتماعى بالدرجة الأولى والسياسى فى الدرجة الثانية كما فى روايته البيضاء والعسكرى الأسود التى ترجمت إلى عدة لغات. كما ان له رصيد وافر من المقالات التى اتسمت بالجرأة وهذه المقالات لو أعدنا قراءتها الآن لوجدناها تنطبق على الوضع الحالى، ودعوته عن أهمية نتثقف لا تزال صالحة حتى الآن، فإدريس كان أول من كتب عن الإرهاب الإخوانى فى قصة قصيرة اسمها "اقتلها" نشرتها له الأهرام ويتحدث فيها عن شاب إخوانى يلتقى مصادفة بشابة يسارية ويتجاذبوا أطراف الحديث ويقع الشاب فى غرامها وعندما يلاحظ الأمير ذلك يأمره بقتلها ويخوض الشاب صراعا نفسيا طويلا وفى النهاية تتغلب عليه عقيدة السمع والطاعة ويقتل الفتاة، وكان يوسف إدريس يهوى تحطيم التابوهات الاجتماعية والدينية التى يشكلها المجتمع على نحو زائف لا علاقة له بالتقدم أو الدين.

ويضيف د.جابر عصفور، أنه إلى الآن يظل يوسف إدريس هو القامة الأعلى بين كتاب القصة يليه السورى زكريا تامر، ومحمد المخزنجى الذى اكتشفه يوسف إدريس واعتبره خليفته المصرى وهذه كانت من ميزاته أنه كشف العديد من المواهب فهو أول من تحمس كذلك لصنع الله إبراهيم عندما أراد نشر "تلك الرائحة"، وهذا الحماس هو الذى دفع الناشر لنشرها لأنه لم يكن أحد يعرف صنع الله وقتها، كما أن الرواية لاقت هجوما من يحيى حقى ومحمود أمين العالم لكن يوسف إدريس احتفى بها وكتب مقدمتها.

ويؤكد عصفور، أن دعوة تعالوا نتثقف يا ناس تحتاج إلى خطة واسعة تتبناها الدولة من خلال الوزارة ويتبناها الشعب ومؤسسات المجتمع المدنى وهى دعوة غاية فى الأهمية الآن خصوصا بعد محاولات التخريب التى ارتكبتها جماعة الإخوان خلال عام حكمها.

وفى كتابه "حكايات الحرية" يقول الروائى محمود الوردانى عنه: نشأ يوسف إدريس كبيرا عملاقا وقدمه للحياة الأدبية الكاتب المعروف والمشرف على القسم الأدبى بجريدة المصرى الواسعة الانتشار عبد الرحمن الخميسى الذى نشر له أولى قصصه بمقدمة حارة ثم قدم له طه حسين مجموعته الثانية، ويتطرق الوردانى إلى الكثير من التناقضات فى يوسف إدريس ويرى أن تناقضات إدريس ومعاركه التى كان يخسرها غالبا ويكسبها أحيانا لم تتوقف لكن ثمة معركة واحدة هى الأكبر والأبقى وهى معركته ككاتب غزير الانتاج مثل الطوفان حيث اصدر 37 كتابا على مدى 35 عاما وشكلت الأعمال القصصية والروائية منها إضافة باهرة إلى الأدب العالمى دون أى مبالغة فقد كان إعصارا أسطوريا هبط كالشهاب ومضى على حد تعبيره هو فى آخر لقاء تليفزيونى قبل رحيله بشهور قليلة عندما طلب منه المذيع أن يصف نفسه فقال: يوسف إدريس قصة قصيرة.. طالت قليلاً.