ضحكت له الدنيا وعلت ضحكاتها عند سماع أول زغرودة من غرفة الولادة "ولد يتربى فى عزك" تلك الكلمات التى أعادت الدماء إلى شرايينها لم يلهمه الله الصبر حتى وقف بجوار الداية يشاهدها تقطع الحبل السرى.. تخرج ابنه من حيز ضيق جداً مظلم إلى نور الدنيا، احتضنه، فهو جميل يشبه الملائكة.. شكر الله كثيرًا.. يا لها من نعمة عظيمة افتقدها طيلة سبع سنوات بمرها وحلوها وإن كان طعم المر أكثر مذاقاً.

ألقمته أمه ثديها ورفعت ذراعيها إلى السماء فى تضرع وخشوع داعية الله أن يجعل يومها قبل يومه، امتلأت الغرفة بالمهنئين وكلٌ يبحث فى وجه الطفل عن شبه.. ويتساءلون عن اسمه؟

نظرات جدته تخفى الكثير من معانى الشكر وتوحى بالمزيد من عمل الخير إرضاء لله، فأبواه لم يرزقا بالإنجاب طيلة سبع سنوات عجاف، زيارات لكل أطباء المحروسة، فالأب وحيد لا إخوة له يبحث عن سند فى الدنيا يحمل اسمه ولقب عائلته.

تم إعداد العقيقة والولائم إرضاء لله وشكر على نعمته التى لا تقدر بثمن أصرت الأم على تسمية الطفل باسم والده نظرا لحبها الشديد له، تم توزيع الولائم على الفقراء والمحتاجين أهالى القرية والأقارب حتى الكلاب والقطط كان لهم من العقيقة نصيب،
"مصرى مصرى" اسم طفل حفر فى عقول أهل القرية.

الأب ظهرت عليه مظاهر إعياء حتى اكتشف أنه مريض بمرض عضال، أخذ من عمره شهورا حتى توفاه الله شابا فى عقده الثالث تاركاً خلفه مصرى ابن العامين بالها من فاجعة، أقاموا سرادقات العزاء، كان عام موته عاما أسود الملامح .


"مصرى "ظل الطفل عالقا فى ذهن كل أب وكأنه ابنه وكل أم وكأنه ضناها
ترعرع فى حب أهل القرية لبس الجلباب القفطان والجلباب البلدى أصدقاء والده يسألون عليه باستمرار جالسين معه معلمين له قواعد الرجولة.

طفل صغير لا يتعدى عمره السبع سنوات قادر على فهم واستيعاب أشياء يصعب على غيره فهمها وإن كانوا أكبر منه بسنوات،
حفظ القرآن فى الكتاب و التحق بالمعهد الأزهرى،
اهتم بعلوم القرآن عشق الرسم واللعب بالألوان تفوق فى دراسته محبوب بين أهل القرية .
معاملة أمه له تختلف عن غيرها من الأمهات ليس لأنه ابنها الوحيد بل زوجها أيضاً فهو الطفل الرجل المسئول عن أمه
تدق الساعة السادسة صباحاً تقوم الأم بإيقاظ صغيرها تعد له طعام الإفطار حتى يأتى أتوبيس المدرسة
تنتظره حتى يعود تراجع له دروسه تجلس تحاوره وكأنه شاب كبير فكل اهتمامات "مصرى" اللعب بالألوان والرسم فى الكراسة أمنية أمه أن يكمل تعليمه ويصبح طبيبًا.
يسألونه: نفسك تطلع إيه؟.. يقول: دكتور علشان ألبس البالطو الأبيض، ظهرت ملامح الرجولة على وجهه، وسامته والقبول الملحوظ فى ملامحه جعلت أهل القرية يزدادون له حبا فهوا خفيف الظل ذو بشرة سمراء وعيون عسلية جذابة.

اعتادت أمه كل فترة أن تأخذه لزيارة قبر والده، فطفل فى السابعة من عمره حرم من حنان الأب وإن عاض عنه الأقارب إلا أنه تعلق بزيارة القبور كلما سمع عن شهامة ورجولة والده،
فى المساء سمع من شباب القرية وصفهم لشخصية والده طلب من أمه زيارة المقابر وألح عليها
وعدته بالزيارة غدا فلا زيارة للمقابر فى الليل، أصر أن لا يذهب إلى مدرسته ويزور قبر والده فى الصباح الباكر
رفضت أمه الأمر ووعدته بانتظاره عند باب المدرسة بعد الحصة الأخيرة لزيارة قبر والده.

شتاء قارص البرودة نام "مصرى" فى ثبات عميق حتى أيقظته أمه، السبت، 17 نوفمبر 2012 للذهاب لمدرسته أزاحت الغطاء عنه وجدته يحضن ركبتيه منكمشًا أيقظته بدأ مذاق طعم النوم يزداد حلاوة، مرددا عبارات وتبريرات اليوم إجازة لماذا أنا دونا عن أولاد خالى أذهب للمدرسة يوم السبت، اليوم برد شديد، والسماء ستمطر اليوم زيارة قبر والدى، كررت الأم وعدها: اليوم انتظرك عند باب المدرسة بعد الحصة الأخيرة والدك كان يتمنى أن يراك طبيبا إذن اليوم سألبس البالطو الأبيض لكى يرانى كما تمنى.

أوصلت صغيرها إلى باب الأتوبيس راكبا مع زملائه يفرك عينيه من النعاس يجلس على كرسيه يحمل كراسته يرسم الحقول الخضراء تغفل عينيه يحلم بالشخابيط يستيقظ على صوت تخبيط أتوبيس المدرسة تحت عجلات القطار.

لم يمهله قدره حتى يحقق حلم أبيه الغائب ولا أمنية أمه التى كانت ترى حلم حياتها فيه "دهسه القطار" آخذا معه الأحلام الوردية لأم ثكلى كانت تنظر لحياتها من خلال طفلها الذى عوضها الله به بعد سنين عجاف.