نحن الان في شهر رمضان,نعيش عمرنا في واحة طيبة خضراء,نستروح جوها الندي المنعش,ونتفيأ ظلالها الوارفة المخضلة,في نشوة روحية طاهرة,ونتنفس في أسحارها الطيبة أنفاس الهدوء والطمأنينة,عندما ينطلق الانسان مع ربه في مناجاة شاعرية عذبة,واقفة بين الخوف والرجاء واثقة بعفو الله ورحمته.
"أدعوك يارب راهباً راغباً راجياً خائفاً..إذا رأيت – مولاي – ذنوبي فزعت,وإذا رايت كرمك طمعت.فإن عفويت فخير راحم,وان عذبت فغير ظالم".
وهكذا تسمو النفس الانسانية أمام ربها في روحانية الدعاء وقدسية الموقف.
فتتطامن وتهدأ,ويتحول قلقها من مصيرها المجهول الى اطمئنان وثقة وايمان بعفو الله ورحمته ورضوانه.
وعندها تشيع المحبة والوداعة والصفاء في أجواء النفس..لتنسكب في مجتمعها أخوة ومودة وإخلاصاً.
وهكذا يرتفع هذا الجو الروحي اللذيذ بإنسانية الانسان,ويشعرها بمسؤوليتها عن المعاني الطيبة التي يشيعها هذا الجو الروحي في نفوس المؤمنين.فلايشوهها بخطيئة,ولايلوثها بجريمة.
قلنا: إننا نعيش عمرنا,في واحة,تستريح بها النفسمن عناء المادة ويسترجع بها الانسان أنفاسه من سيره الطويل المجهد.
ولكنها ليست الواحة التي يخلد الانسان فيها الى الاسترخاء والخمول والكسل بل الواحة التي تتفتح فيها الروح على آفاق جديدة,من الحياة الروحية الكريمة,والجمال النفسي الطاهر,والخير,والايمان,والسلام,والكفاح من أجل ان يطهرالانسان روحه من حيوانية الغريزة..الى انسانية القيمة في اطار انساني رائع..لايشوه القيم ولكنه يركزها في عمليات الابداع.
كل ذلك في طريقة طبيعية عملية,ككل وسائل الاسلام التي تحقق غاياته وأهدافه.
وكان الصوم وسيلة من وسائل الاسلام لتحقيق اهدافه وغاياته.
ومن أعظم أهداف الاسلام تربية الارادة..أن يملك الانسان أنيقول نعم,وأن يقول لا.
عندما تدهمه شهوته,أو تدعوه عادته,أو يسخره ظالم,أو مستهتر,لخدمة أغراضه وشهواته..أن يكون حراً في حياته فلاتستعبده رغبة,ولاتقهره شهوة,ولايملك عليه مصيره إنسان..
أياً كان ذلك الانسان ..أن يكون سيد نفسه..يملك أن يريد,ولايريد.
ووظيفة الارادة,في حياتنا هي وظيفة الضابط الذي يكبح جماح الغريزة ويخفف من غلواء الحيوانية النهمة التي تعيش في عروقنا ودمائنا فتستثير شهواتنا وغرائزنا.
وكان لابد للاسلام من سبل وطرق عملية لتربية هذه الارادة ورياضتها وكان الصوم أحد هذه الوسائل,واحدى هذه الطرق,ففي الصوم حد من طغيان الجسم على الروح,والمادية على الانسانية,والعبودية على الحرية ورياضة للانسان..أن يقول :لا,عندما تدهمه شهوته الى الأكل,أو الشرب أو الاستمتاع بالذات,أوتدعوه عادته الى ذلك.
وليلاحظ – بدقة – نوعية الأمور التي فرض الله – عز وجل – على الانسان أن يمتنع عنها,وشدة علاقته بها في حياته اليومية,ومدى سيطرة العادة والحاجة الذاتية فيها.
ليعرف قوة مثل هذه الرياضة وطبيعتها العملية,واثرها في تربية الارادة.
فإن رياضة النفس فيما هو من ضروريات الحياة..تجعل الانسان أقوى على ترويض نفسه عما هو دون ذلك.
وهنا ندرك كيف يكون الصوم طريقاً للكفاح.فإن الكفاح في حياتنا إرادة للخير,وانطلاق لتحقيق تلك الارادة.
وكان الصوم – الى جانب ذلك – عبادة لله – تعالى -..كيفية العبادات ..يلتقي الانسان فيها ربه.فتتلاشى إرادته وتذوب إزاء إرادة الله سبحانه.
ولكنها لاتذوب لتموت,بل لتحيا,ولتعود – بإيمانها وخضوعها لخالقها – أقوى ماتكون على مواجهة الأحداث في ميادين الصراع,ولتحقق في هذا التلاشي – الذي هو مثال العبودية الحقة – لله – مبدأ قوة الانسان ونقطة الانطلاق لحريته.
لأن الاخلاص لله في العبادة,وإطاعته فيما يأمر به وينهي عنه,يمثل في جوهره وحقيقته التحرر من الخضوع لأية قوة - مهما كانت – وراء قوة الله.
وهذا هو ماتعبر عنه الآية الكريمة "إياك نعبد وإياك نستعين".
وبذلك كانت العبادة,وكان الصوم,وسيلة عملية لتحرر الانسان من عبوديته لأخية الانسان,ومن عبوديته لعادته وشهوته.
هذه هي بعض القضايا التي يمكن أن نستفيدها من الصوم – حسب فهمنا له - .ولكن لامجال لهذه الاستفادة إذا اعتبرنا الصوم – في حياتنا – مجرد عادة – كبقية العادات,أو مجرد عبء ثقيل – كبقية الأعباء -,أو اعتبرناه حرماناً للانسان وحداً من حريته ,لامجالاً لاسترداد الانسان حرية إرادته,وحرية تفكيره.
إننا إن فعلنا ذلك.فنظرنا اليه كما ننظر الى أية عادة من عاداتنا التي نؤديها دون إدراك لضرورتها.فلن تستطيع أن نأخذ منه شيئا.لأنه لايستطيع – حينئذ – أن يعطينا شيئاً.
حيث يصبح عادة كبقية العادات التي تحتاج الى الكثير الكثير من الجهد لاصلاحها واعادتها الى مجالها الطبيعي كأداة للخير لا للشر