إصلاح "الإصلاحيين"!


عبدالله بن صالح العجيري


15 جمادى الثانية 1431هـ


يُخيَّل إليَّ وأنا أقرأ هذا الهجوم التصاعدي الأعمى على اسم "السلفية" مؤخراً أنني أمام مشهد قتالي حامٍ مقصوده إيقاف مد "الاستبداد" بمقاومة حملته ومنظريه، المشرعين له ومقننيه، الفارضين له بقوة الرأي والسلاح، ممن لا همَّ لهم إلا سكب قصائد المديح في بلاط السلطان، والتسبيح باسمه المقدس صباح مساء، ولعن أعدائه بالعشي والإبكار.
لو كنا نسمع حديثاً عن تخاذلٍ وتقصيرٍ في باب "الإصلاح السياسي" لهان الأمر، فمن الذي يكابر في نقصٍ حاصلٍ، أو يدعو لترك النصيحة في أمرٍ واجبٍ، غير أن طائفةً من منتحلي الإصلاح فقد بوصلة قلمه ولسانه، وربما عقله، فانتقل من هذا إلى الاتهام الجائر لمخالفيه بتشريع وتقنين ومباركة "الاستبداد" وممالأة ومساندة "المستبد".
أن يكون ثمة تقصيرٌ وضعفٌ وعجزٌ فشيءٌ نفهمه، نعاني منه ونرجو إصلاحه ولكن نفهمه، أما الذي لا يمكنني فهمه ولا تستوعبه طاقات عقلي فجرأة أولئك بجعل ما نراه من تقصير وخلل ناشئاً عن "عقيدةٍ وإيمانٍ" بنظم "الاستبداد"، واستمتاعاً بصنوف "الكذب والنفاق"، وعشقاً لصراعات "كرتونية فارغة".
والأسوأ، تلك اللغة المشبعة بصيغ التعميم الأهوج، الذي لا يتوقف عند حملة العلم والمصلحين القائمين بأمر الدعوة والإصلاح اليوم، بل ويشمل حتى أئمة الإسلام الماضين الذي هم مفاخر هذه الأمة وقدواتها، علماً وعملاً، وفقهاً وفهماً.
كان الحديث أولاً عن "متسلفة زماننا"، ثم لم تزل الجهالة العمياء تتوسع وتتوسع، حتى أثمرت أن "ما عدا الرسالة وعهد الرشد، تراث وأفكارٌ وتاريخٌ من هجره فهو خير له".
هكذا وبجرَّة قلم ألغى "الإصلاحي" جهود أعيان الأمة وعيونها من أئمة التابعين وتابعيهم، بل وقريباً من نصف قرن من عمر الصحابة رضي الله عنهم. فلو تكلم بهذا الجهل عدو للتشريع الإسلامي لكان موقفه مفهوماً، أما أن يلفظه "إصلاحي" ، "إسلامي"، فذاك هو النكوص المبين.
النبي صلى الله عليه وسلم يشهد لقرنين بعد قرن الصحابة بالخيرية، و"الإصلاحي العتيد" يرى الخير في هجر ذاك الخير ، لمجرد أنه عاجز عن التعاطي معه، فصار يتوهمه قيداً على نهضة الأمة ونيلها حريتها.
مشكلة بعض إخواننا أنهم يريدون تحرير عقولهم من نور القرون المفضلة، ليقعوا مباشرةً أسرى ظلمات الجاهلية العصرية التي كبلت عقولهم بأغلال المحاكاة، فمنعتها من التفكير الحر المتزن.
أولئك الإخوة لديهم كما لدينا قضيةٌ عادلةٌ. وهم يعانون كما نعاني من واقعٍ مرٍّ يكتم الأنفاس.
ظنناهم يريدون النهوض بتلك القضية بعدما عجز الكثيرون عن حملها، فإذا هم يلقونها وراء ظهورهم، ليحملوا قضيةً أخرى خاسرةً، قضية الهجوم على تاريخ الأمة وفقه المسلمين.
فرقٌ عظيمٌ بين من يرى تقصيراً في أداء فرض كفائي فهو يسعى في إقامته، والدعوة إليه برحمةٍ وعدلٍ، مطالباً بإقامة الدين كله، ومن لا يرى من الإسلام إلا بعضاً، فهو يحاسب الناس على ما يعتقد أنه الإسلام كله، فيشتد ويقسو ويريد حمل الناس على ما يعتقده "الإسلام" وإنما هو يريد حمل الناس على بعضه.
مشكلة إخواننا هؤلاء أنهم كثيراً ما يفسرون هذا الهجوم على كتاباتهم وأطروحاتهم بأنه معاداةٌ لمبادئ الحرية وترسيخٌ لقيم الاستبداد.
المشكلة أنهم يتقدمون إلينا "برزمة" من قيم الإصلاح المشوَّه، ثم يستبدون برأيهم، ويريدون منا أن نقبل استبدادهم قسراً، فإذا ما أبدينا تحفظاً على مسألة هنا أو مشروعاً هناك أخذوا يتصايحون: قد علمنا تضجركم "أعداء الحرية" حين تسمعون أشواقنا إليها!
وهذا للأسف تزييف للحقيقة والواقع، فالنقد لم يتوجه قط لمطالبات إصلاح حقيقية سواءً كانت في شأن المال العام أو مجال السياسة أو توسيع دوائر الرقابة أو غيرها، وإنما توجه دوماً إلى ذلك الاستفزاز الأحمق بالتهوين من المعارف الشرعية، والإزراء بعلوم السلف، والاستخفاف بدعاة السنة.
نحن نستطيع أن ندعي بطمأنينة أن "الصحوة" في الجملة ظلت وفيةً للشجعان في مجال "المناضلة السياسية" ما لم يتلوثوا باتخاذ جهادهم تكية للطعن المغلف في أصول السنة، وقواعد الدين.
بالله عليكم كيف يطالب الشرعيون بالسكوت عن جنايات هؤلاء، وهم يعلنونها بشكل متتابع، وبلغة استفزازية، وبأسلوب عدائي سافر، ربما يعجز عن بعضه أهل الريب.
مرةً يحدثوننا عن "السلفية العباسية" وأثرها السلبي في صياغة "المتون العقدية" لأهل السنة والجماعة.
ومرةً يهونون من شأن "الطحاوية" و"الواسطية" و"التدمرية" ويلمزون من يسعى في شرحها وتدريسها، بل ويحدثونك عن "مؤامرة" تحاك لإشغال شبابنا بمباحث "الأسماء والصفات" ومعارك "الجهم والجعد والمريسي" عن ساحات الإصلاح الحقيقية.
يطعنون –بجهلٍ عميقٍ- في مبحث "خلق القرآن" وأن ما جرى من جدل سني معتزلي لا يعدو أن يكون جدلاً بيزنطياً فارغاً في مسألةٍ غيبيةٍ اجتهاديةٍ، وأن قول أهل السنة فيها ليس إلا قولاً اجتهادياً جاء لتقرير مبدأ حرية الاجتهاد لا أن الأمر قطعي من القطعيات، فضلاً أن يكون مستنداً إلى شعار أهل السنة المعلن "ما أنا عليه اليوم وأصحابي".
ثم يفترون علينا أننا نشغل الطلاب بمسألة خلق القرآن لمدة سنتين أو ثلاثة.
يفاخرون بانتسابهم "لإسلام ما قبل التقسيم"، وهل الطريقة السلفية إلا هذه؟! غير أنك إذا فتشت في حقيقة انتسابهم وجدتهم في الحقيقة يدعون لتقسيم الإسلام وتقطيعه، فهم يريدون توزيع الحق بين الطوائف والأحزاب، ويؤكدون على أنه غير محصور في أصول "أهل السنة والجماعة". فلا بأس علينا إذن إن استفدنا من "عقلانيات المعتزلة" وشيئاً من "أطروحات الإباضية".
بعضهم في زحمة حماسته لنيل حريته السياسية، يؤكد على ضرورة حرية التدين والاعتقاد والتعبير فإذا ما اعترضت بأحكام المرتد، أنكرها، وضعف أحاديثها وتعلق ولو بالقشة من أقوال أهل العلم، وقرَّر أن لا عقوبة إطلاقاً للمرتد في الفقه الإسلامي، وهذا خروج عن مذاهب المسلمين كافة بيقين.
يسخرون من مدافعة "الشرعيين" لسيل "الإفساد الليبرالي" ويعدون ذلك مجرد "صراع كرتوني سخيف" "ومعارك وهمٍ" لا تغني ولا تسمن من جوع ، وكأن التصدي لسيل الإفساد هذا خارج عن نطاق الإصلاح.
يبدون تململاً وتضجراً من الانشغال بمشكلات طوائف المبتدعة صوفية وأشعرية ومعتزلية ورافضية، ويعدون هذا الانشغال حمقاً وسفهاً، وتبديداً للطاقات والجهود وتفريقاً للصف المسلم، ثم هم يدعون هذه الطوائف جميعاً، ويدعون معها المستبد، ليتفرغوا بعد ذلك لتوليف شتائمهم "الإصلاحية" الموجهة للشيطان الأكبر "السلفية"!
يجادلونك في مسائل الشريعة والسياسة فإذا ما جادلتهم بالأدلة الشرعية رفعوا في وجهك لافتة "قطعي الثبوت قطعي الدلالة" وكأن أحكام الشريعة لا تبنى إلا على القطعيات.
والقائمة تطول.
دعونا من هذا كله ولنقترب أكثر من مشروعهم الإصلاحي المستورد "الديمقراطية"، مستحضرين تلك اللغة المغرقة في التقديس والتبجيل وحجم التهليل والتصفيق الذي يبدونه وهم يسوقون لمشروع الإنقاذ هذا، حتى وضعوا منتقدي "النظام الديمقراطي" من الشرعيين في خانة "السخفاء والضعفاء والجهلة والملبس عليهم".
حاججناهم بأنه نظام لا يتوافق مع "النظام السياسي الإسلامي"، فمرجعية الحكم فيها "لله وحده" بخلاف "النظم الديمقراطية" التي تجعل السيادة للخلق، إضافةً إلى جعل "المواطنة" أساساً للمشاركة الديمقراطية بعيداً عن اعتبارات الدين.
قالوا: إنما ندعو لنظام ديمقراطي مهذب موافقٌ لأحكام الشريعة. وأن الديمقراطية حين تعمل في "فضاء مسلم" فستنتج نظاماً مسلماً.
لا بأس إذن، ولنتجاوز أساس الإشكال الذي يصر أصحابنا على الهروب منه ، بادعاء أن مُخرج "الديمقراطية المحلية" سيكون بمرجعية إسلامية ، متغافلين عن مشكلة "المبتدأ" الذي يجعل الأمر كله بيد الناس.
لنتجاوز ذلك، ولنتأمل في شيء من تفاصيل هذه "الديمقراطية المهذبة" التي يريدون منا قبولها، وترك التعرض لها بالنقد والتجريح.
الديمقراطية كما يعرفون لا تعمل إلا في أجواء من الحرية الواسعة، فإذا ما حدثونا بالتفصيل عن "فضاءات الحرية الديمقراطية" وسعوها لتستوعب بزعمهم كافة تصرفات المنافقين في زمن النبوة من "لمز المؤمنين" و"إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم" و"التآمر على الدولة المسلمة"، فهل هم جادون فعلاً أن مثل هذه الحريات مكفولة في ضمن النظام السياسي الإسلامي؟!
نحدثهم عن سيادة الشريعة وضرورة تحكيمها وخطورة تخيير الناس في ذلك، فيهونون من خطورة هذا الأمر، ويدعون أن تحكيمها راجعٌ لاختيار الشعب، وأن الإسلام أقر صوراً من "التحاكم للطاغوت"، فهذه بلاد الكفار في العهد الأول كانت تدفع الجزية وتُقر على أوضاعها الحكمية والدينية من غير تغيير، وهذه كذبةٌ كما يقال لها قرون، وجهلٌ فظيع.
يتكلمون في دائرة "أهل الانتخاب" ومن يدخل في "إطار الشورى" ومن يمكنه المشاركة في "اللعبة الديمقراطية"، فإذا هي تضم أهل النفاق والزندقة، مدعين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستشيرهم ويسمع منهم (وإن يقولوا تسمع لقولهم)! وعليه جرى عمل من بعده من الصحابة فهذا ابن عوف استشار الناس وما فرز أهل النفاق من غيرهم!
المعارضة السياسية الشاملة لمختلف الأطياف والتيارات حقٌ مكفولٌ في ظل نظامهم الديمقراطي فمعارضة "البغاة" في عهد عثمان حق مشروع، وكذا معارضة "الخوارج" لعلي كلها دلائل على اتساع دوائر التعددية والمعارضة في الحياة السياسية للدولة المسلمة، وكأن علياً ما بيّن سقف الحريات للخوارج في الحياة العامة (لهم علينا ثلاث: ألا نبدأهم بقتال ما لم يقاتلونا، وألا نمنعهم مساجد الله أن يذكروا فيها اسمه، وألا نحرمهم من الفيء ما دامت أيديهم مع أيدينا).
يحدثونك عن فضائل عهد الرسالة والخلافة، ومثالب ما بعده، ثم تراهم وقد ورمت أنوفهم واحمرت حين تضيق فهومهم عن استيعاب توجيه نبوي يقول: "اسمع وأطع، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك". ثم بعد هذا لا يتحرجون من الإعلان بوجوب الطاعة لمن كفر بالملة وكذب النبوة، إن جاء عبر صناديق الاقتراع المقدسة!
إنهم ببساطة يريدون طمأنتنا أن مشروعهم الإصلاحي لا يخرج عن إطار "المباح الشرعي" وهم للأسف كاذبون، أو على الأقل واهمون، وجناياتهم الشرعية باديةٌ لكل ذي عينين. إنها انحرافات أملاها هذا اللهاث وراء نظام "لاإسلامي" لجعله "إسلامياً" ولو بالقسر ولو بإعادة تشكيل "القالب الإسلامي" نفسه ليتوافق مع شكل هذا النظام.
يجب أن تعلموا إخواننا أن ديننا وعقيدتنا وثوابتنا أعز إلينا مما تدعوننا إليه، ولتذهب ديمقراطيتكم مع صنوف الاستبداد إلى الجحيم.

* * *

همسة:
أخشى على بعض من يلبس ثوب "الإصلاح" أن يكون له نصيبٌ من قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون).