عندما تكون الذات أغلى من الله



ثمة شخصية مشهورة منتسبة للدعوة يتحدث دوماً عن الهدوء واللطف والأرضيات المشتركة والاجتماع على الكليات وترك الفروق الخ مع كل خصوم الإسلام والسنة، فإذا سئل عن من ينتقد ويتهجم على مشروعاته قال: هؤلاء يعانون من توتر واحتقان، وضيق أفق، ونقص وعي، الخ مفردات التقزيم الممكنة، أتذكر أحد الإعلاميين الفضلاء كان يذيل ردوده وجواباته سابقاً بقوله (ولن نتوانى في كل مافيه خدمة ديننا) ونحو هذه العبارات، ثم بعد النغمة الجديدة صار يقول (خدمة ديننا ووطننا) .. ثم صار بعد فترة يقول (خدمة وطننا وديننا) .. ثم قبل أيام يسيرة صرت أراه يقول فقط (كل مامن شأنه خدمة الوطن).
أعرف أحد كتّاب الانترنت منهمك منذ فترة في الحديث عن خطأ الاسلاميين في الموقف من الآخر، وأنه خطأ تاريخي يجب تصحيحه، ويتحدث كثيراً عن أن سائر خصوم الإسلام والسنة (الكافر، والعلماني، والليبرالي، والشيعي) كلهم يجب احترامهم واللطف في خطابهم والبحث عن المشتركات معهم، ويذكر من قصص السيرة النبوية شواهد لما يقول.
لم يلفت هذا الموضوع انتباهي كثيراً، لكن قبل فترة زرت أحد هذه المنتديات، ورأيت موضوعاً لكاتب إلكتروني مجهول يشتم فيه صاحبنا السابق بأنه منسلخ ومنبطح ومتلون إلخ هذه الأوصاف، لا أنكر أنني تقززت من وصفه بذلك، فهو على أية حال لايزال لديه تعظيم للنصوص الشرعية بشكل عام، لكن الذي فاجأني أن صاحبنا دخل وبادل شاتِمه بسباب مماثل، لم تكن عبارة واحدة، بل غرز في رده عدة ألفاظ نارية ساخنة ومقذعة.
وقفت مع نفسي أتأمل في هذا الموقف..
ياسبحان الله .. كيف تكون نفس الإنسان أغلى عليه من ربه وخالقه ومولاه؟
هذا الرجل تحول إلى إصبع إتهام مشهرٍ في وجوه الدعاة لا يكف عن غمز قناتهم بأنهم ينقصهم الوعي بسبب موقفهم من خصوم الإسلام والسنة، وإذا رأيت هجومه المستمر ولمزه المتكرر لأخطاء المحتسبين لاتستطيع أن تدفع عن نفسك الشعور بأنه صار يرى خطأ المنكِر (وهو خطأ تبعي اجتهادي) أغلظ من خطأ صاحب المنكر ذاته (وهو خطأ أصلي ظاهر).
ما فرق هذا عن رجل يشنع على (المجاهد) أكثر من تشنيعه على (المحارب) ؟! ما فرق هذا عن رجل يرى أن خطأ (رجل الأمن) أشنع من خطأ (قاطع الطريق) ؟!
المهم ليس هذا .. المهم أنني بدأت أقارن بين موقفه ممن انتقصه، وبين موقفه ممن انتقص دين الله وسنة نبيه؟!
في موقفه ممن انتقص دين الله وسنة نبيه لم نر إلا اللطف والهدوء والدعوة لتفهم الزوايا المضيئة والقواسم المشتركة، وفي موقفه ممن شتمه شخصياً رأينا السباب والشتائم والعبارات النارية المتحديّة!
يا ألله .. هل صارت نفسه أغلى عليه من ذات الله سبحانه وتعالى ؟!
الصورة النهائية التي أمامي أن من غض من دين الله فهو يستحق عنده الاحترام، واللطف، ومن غض من قيمته الشخصية صار مستحقاً لأن يرد عليه بالمثل!
وثمة شخصية أخرى مشهورة منتسبة للدعوة قريبة من هذا السلوك جداً، يتحدث دوماً عن الهدوء واللطف والأرضيات المشتركة والاجتماع على الكليات وترك الفروق الخ مع كل خصوم الإسلام والسنة، فإذا سئل عن من ينتقد ويتهجم على مشروعاته قال: هؤلاء يعانون من توتر واحتقان، وضيق أفق، ونقص وعي، الخ مفردات التقزيم الممكنة!
فيا لله العجب .. صار خصوم القرآن يبحث معهم عن المشتركات، وخصومك يعانون من ضيق الأفق! هل صارت نفسك أغلى عليك من الله؟!
وقريب من هذا النمط من الناس –أيضاً- فريق كبير الآن يتسع ويتسع في إعلامنا المحلي، إذا اعتدى أحد على "دين الله" رأيت نشاطه الهائل في تذويب الغيرة والحمية والمطالبة بالعقلانية والرزانة والهدوء والبحث عن المشتركات، وإذا
تهكمت أي شخصية سياسية بـ "الوطن" رأيت التفنن في المواجهة والدفاع، وتفتقت عقولهم عن فنون من الحجاج والجدل والإفحام تجاه منتقد الوطن بشئ لا ينقضي من العجب.
حين ترى ذلك، فبالله عليك ألا يؤلمك أن يكون "وطنهم" أغلى في نفوسهم من "ربهم" ؟!
وأنا أرى هذه المشاهد أتذكر دوماً قول نبي الله هود لخصومه حين راعو جانب قومه أكثر من مراعاة الله سبحانه وتعالى، حيث يقول لهم نبي الله هود (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ).
فانظر بالله عليك كيف صار رهط هود أعز عليهم من رب هود سبحانه وتعالى، وقارن ذلك بكتبة ومتحدثين كثيرين اليوم يرون مجابهة منتقِد (الوطن) شرفاً، ومجابهة منتقِد (الشرع) ضيق أفق ! وقل لهؤلاء الكتبة والمتحدثين: ياقومِ أوطننا أعز عليكم من الله؟!
ومافعله خصوم هود من مراعاة جانب رهطه أكثر من مراعاة جانب الله جل وعلا؛ ليس شأناً خاصاً به، بل حتى خصوم نبي الله صالح كانوا يراعون جانب عشيرة صالح أكثر من مراعاة جانب الله جل جلاله، ولذلك كانوا يقولون: ( قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ).
فالذي كان يعنيهم فقط السلامة من لوم أوليائه وعشيرته، أما ملامة الله فلم تخطر لهم ببال، وهذا أيضاً شأن كثير من المنحرفين فكرياً ممن يخفون في أنفسهم بغضاً لبعض الأحكام الشرعية فإنه يجتهدون في إخفاء ذلك عن عامة الناس وتلبيسه بالعبارات الغامضة المجملة لتكون لهم مخرج طوارئ، وما ذلك إلا بسبب ماقام في نفوسهم من الهيبة من الناس أكثر من الهيبة من الله، ولذلك يقول تعالى عن هذا النمط من الناس: (لأنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ).
والشئ بالشئ يذكر .. أتذكر أحد الإعلاميين الفضلاء كان يذيل ردوده وجواباته سابقاً بقوله (ولن نتوانى في كل مافيه خدمة ديننا) ونحو هذه العبارات، ثم بعد النغمة الجديدة صار يقول )خدمة ديننا ووطننا) .. ثم صار بعد فترة يقول (خدمة وطننا وديننا) ..( ثم قبل أيام يسيرة صرت أراه يقول فقط (كل مامن شأنه خدمةالوطن) ..هكذا مجردةً .. وهي عبارات لها دلالات أبعد من كونها مجرد ألفاظ عرضية .. إنها تحول عميق في أسس الشرعية الاجتماعية في مناخنا الفكري المعاصر.. إنه تبدل بنيوي في مرتكزات الشرعية التي يحال إليها ويستند عليها.. إنه انقلاب في مصادر الاستمداد العميقة في الوعي.. إنه بعبارة أخرى .. إنتقال من توحيد الله، إلى الشركة بين الله والوطن، ثم أخيراً إلى توحيد الوطن ..!
ولذلك ترى كثيراً من الناس اليوم لايجد أية غضاضة في التمييز بين الناس على أساس الوطن، سواء في الخدمات الحكومية، أو الانتماء القلبي، لكن التمييز بين الناس على أساس الدين، أو التمييز بين الناس على أساس القرب من السنة والبعد عنها؛ هذا كله عنده تشنج وضيق أفق وطائفية مقيته وإقصاء الخ!
سبحان الله .. إقصاء غير المواطن مطلب، وإقصاء غير المسلم مذمة! ودعني أضرب لك مثالاً مفترضاً، لو قلت لكثير من النخب المنتسبة للثقافة الصحفية إننا سنخصص الخدمات الصحية المجانية للمواطن، وسنحرم منها غير المواطن حتى لو كان مسلماً سنياً متمسكاً، لما رأو في ذلك إشكالاً بل لرأوه تنظيماً مطلوباً ، لكن لو قلت لهم: إن الخدمات الصحية ستكون لكل مسلم، وسيحرم منها أي مواطن يثبت أنه يستغيث بغير الله كالاستغاثة بالحسين ونحوه حتى يتوب من ذلك. فإنهم سيهجمون عليك ويشعلون في وجهك غازات الإعلام، ويجعلونك وثن الإقصاء والتخلف، فانظر كيف انقلبت الموازين، فصار التمييز على أساس (الوطن) تقدم وحضارة، والتمييز على أساس (لا إله إلا الله) تخلف وانحطاط!
على أية حال.. لنعد لموضوعنا .. ضع في ذهنك أولئك المنتسبين للدعوة الذين يناضلون بلغة ساخنة عن أنفسهم ومشروعاتهم أكثر من دفاعهم عن سنة رسول الله، ثم قارن ذلك بموعظة الله لنا في القرآن حين حذرنا أن نجتهد في صيانة أنفسنا أكثر من اجتهادنا في صيانة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال تعالى (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ).
والمراد .. أن هؤلاء الذين ينتفخون إذا انتُقِدوا، بينما هم في غاية البرود إذا انتُقِد دين الله.. ويتهكمون بمن ينتقد مشروعاتهم الشخصية، بينما يتلطفون لمن ينتقد الأحكام الشرعية.. ويلبسون لأمة الحرب إذا انتُقِد الوطن، بينما يتحولون إلى مخذّلين إذا انتهكت محارم الله.. هؤلاء كلهم يجب عليهم بشكل إسعافي عاجل مراجعة منزلة الله في قلوبهم، وليتذكرواأن من أعظم ينابيع النفاق الخفية في القلب ماذكره الله تعالى بقوله (وَطَائِفَةٌقَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) .