الأخ المتدين و الملتزم



شاعت في عصرنا بعض المصطلحات مثل التدين والالتزام والإخوة والأخوات , وصارت تطلق في مجتمعاتنا على أصحاب اللحى والجلابيب , فالرجل الذي يستخدم السواك ويقصر ثوبه فوق الكعب , فهو الأخ المتدين الملتزم , والمرأة التي ترتدي الحجاب أو النقاب يطلق عليها وصف الأخت الملتزمة ,

وفى المقابل طائفة أخرى ادعت التطور و التحضر و التقدم و العصرية و التنوير وصفت أصحاب اللحى و النقاب بالتطرف والتحجر والتخلف والرجعية والجمود والعودة لعهود الظلام وسائر نعوت التنفير والتشويه و التشهير ,

ونحن لا ننكر شيوع الألقاب في السلف بلا نكير كالمهاجرين والأنصار , وأصحاب بيعة العقبة وبيعة الرضوان , وأهل بدر وأهل أحد , و البحرية ثم السفينية , وأهل السنة وأصحاب الحديث , وأهل الأثر ..... , ولكنها تسميات لم تكن بديلة عن كلمة الإسلام ,ولا ننكر وقوع الخلاف بين الأفاضل , فقد كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يتناظران في المسألة ما يقصدان إلا الخير , واختلفت أم المؤمنين عائشة مع معاوية رضي الله عنهما في : هل رأى النبي صلى الله عليه و سلم ربه ليلة أسرى به أم لا ؟ وتنازع الإمام أحمد مع الإمام الشافعي في تكفير تارك الصلاة تكاسلاً .... حدث ذلك وغيره مع بقاء الألفة و الأخوة الإيمانية ,


ولم يرجع البعض على البعض الأخر بالتكفير , بل وفى حديث : " لا يصلين أحدكم العصر إلا في بنى قريظة " صلى البعض العصر في الطريق لما أدركه الوقت , وصلى الفريق الآخر عندما وصل إلى بنى قريظة , وصوب النبي صلى الله عليه و سلم الفريقين ثم صفهم صفاً واحداً , وقاتل بهم الأعداء , وحسبنا أن نفرق بين الخلاف السائغ المعتبر الذي لا يفسد للود قضية وبين الخلاف غير المعتبر , وكان ابن تيميه - رحمه الله – يقول : " نعم من خالف الكتاب المستبين و السنة المستفيضة خلافاً لا يعذر فيه , فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع " و المسلم يحذر الغلو في التكفير كما يحذر أن يدخل في الدين من ليس منه , فمن قال لأخيه : يا كافر فقد باء بها أحدهما , إن كان كذلك و إلا صار عليه ( أي رجع عليه )


والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها ألتقطها , فالحق مقبول من كل من جاء به , والباطل مردود على صاحبه كائناً من كان , والحق ما وافق الكتاب و السنة , والباطل ما خالف هذا المنهج القويم , وكل إنسان يؤخذ من قوله و يترك إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم ,




ثم التعصب والاجتماع على الحق محمود , أما التعصب على الباطل فهو مذموم , ويقال لأهله دعوها فإنها منتنة , فلا يجوز أن نتحزب على غير ذات الله ,أو أن نجمد على مذاهب تخالف ما جاء في كتاب الله و سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ,

وقد قال ابن عباس – رضي الله عنهما – لمن خالفه : " أقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم و تقولون قال أبو بكر و عمر يوشك أن تتنزل عليكم حجارة من السماء " .

ولما اعترض رجل الإمام الشافعي بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للإمام أتأخذ به , قال له الشافعي – رحمه الله – على العين والرأس كيف لا أخذ بحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم , أرأيتني خارجاً من كنيسة أو مرتدياً زناراً .


فليكن هذا منهجنا الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة " فلا وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا " " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا " وقال تعالى : "  فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً " ,

وفى الحديث المتفق عليه : " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " , ومن خلال هذا المنهج نتعرف على معاني التدين والالتزام و الأخوة والتطور والتحضر والتقدم ومفهوم التخلف والرجعية والتطرف , بحيث نحق الحق ونبطل الباطل , ويصطلح كل فريق على حقه , بعيداً عن أجواء المشاحنة والخلاف التي تورث الفشل بين أبناء الأمة الواحدة , والعدل أساس الملك وبه قامت السماوات والأرض  " وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى "


والذي يستصحب الضوابط الشرعية , وينظر في واقع هذه الأمة سيجد أن الناس قد ورثوا الإسلام وجهلوا معانيه ولم تقم عليهم الحجة الرسالية قياماً يتأكد معه أن يحيى من حيى عن بينة وأن يهلك من هلك عن بينة , وهذه الحجة يقيمها عالم أو ذو سلطان مطاع , بحيث تنتفى الشبهات وتدرأ المعاذير , فالوقت الذي نعيشه وقت غربة وجهالة , والإنسان يدخل في الإسلام بنطقه الشهادتين باتفاق العلماء ثم يؤمر بالتزام أحكام الشرع التكليفية , ويكفر بجحود الواجب أو باستحلال المحرم ,

والصلاة أعظم واجبات الإسلام العملية ، فمن جحد فرضيتها أو استخف بحقها أو استهزأ بأهلها فهو كافر خارج من الملة ، أما من تركها تكاسلا فإيمانه موضع نزاع بين العلماء ،


ولا ريب أن اللحية وتقصير الثوب واستخدام السواك والحجاب والنقاب من الدين , ومن التزم ذلك فهو على طاعة وعبودية ، فقد وردت الأخبار " أطلقوا اللحى احفوا الشوارب خالفوا المجوس " وفى بعضها "وفوا ، أوفوا ، وفروا ,أرخوا " بحيث تترك على سجيتها حتى تكثر وتغزر، وكانت لحية النبي صلى الله عليه وسلم كثيفة عظيمة الطول ، ولم يؤثرا أنه أخذ من طول لحيته ولا من عرضها إلا ما رواه البخاري عن ابن عمر أنه كان إذا اعتمر أخذ ما زاد على القبضة ، وفى الحديث " ما دون الكعبين فهو في النار "

وفى الحديث " لا ينظر الله لمن جر ثوبه خيلاء يوم القيامة " وورد بشأن السواك " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة " والحجاب متفق على مشروعيته ، والأدلة كثيرة من الكتاب والسنة " وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب " " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ "

وقد حكى ابن رسلان اتفاق العلماء على أنه لو كثر الفساق أو خيفت الفتنة يجب على المرأة تغطية الوجه والكفين ، وقال الحافظ ابن حجر لم يزل الأمر منذ عهد رسول الله عليه وسلم إلى يومنا هذا على خروج النساء في الأسواق وإلى الأسفار منتقبات


وأدلة تغطية الوجه والكفين كثيرة وعديدة ، فهو مشروع باتفاق العلماء ، والخلاف بينهم في هل هو واجب أم مستحب .

ومع إقرارنا بأن هذه المسائل المذكورة تدين والتزام إلا أننا نرفض قصر مفهوم المتدينين الملتزمين على من تلبس بها ، فدائرة الدين أوسع من ذلك وأشمل ، وقد ذكر سبحانه أقسام هذه الأمة المرحومة فقال : " ثم أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ "


والسابق بالخيرات يدخل الجنة لأول وهلة ، وهو من غلبت حسناته على سيئاته ، والمقتصد من تساوت حسناته مع سيئاته وهذا يوقف به بين الجنة والنار ما شاء الله أن يوقف به ثم يدخل الجنة ، أما الظالم لنفسه فهو من غلبت سيئاته على حسناته وهذا يقع تحت المشيئة ،

إن شاء الله عذبه ، وإن شاء غفر له ، وإذا دخل النار لا يدخلها دخول الكفار ولا يعذب عذاب الكفار ولا يخلد فيها خلود الكفار " أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِين َمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ "


وكل شيء يوضع في الميزان فالملتحي والمنقبة ملتزم مأجور بإذن الله في ذلك فإن عق والديه فهو مأزور وتدينه والتزامه وأخوته ناقصة يحسب ذلك ، على العكس والنقيض ، فالسافرة وحليق اللحية المسلم ، إذا كان بارا بوالديه فهو متدين وملتزم ومأجور بإذن الله على بره ، فعادت الأمور على الطاعة والمعصية ، قال تعالى " وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ "

فربنا جل وعلا لا تضيع عنده موازين الذر ، ويا لتنا نستخدم المصطلحات الشرعية كالمسلم والعاصي والكافر والمنافق والبر والفاجر ، حتى نتجنب الهلامية والمحاباة على حساب الحق فمن أطلق لحيته مثلا صار أخاً ملتزماً ومتديناً حتى وإن كان عاقاً ، بينما يصبح الحليق البار وكأنه لا دين ولا التزام ولا أخوة له !!! والظلم ظلمات ، والواجب أن يقال للأول أصبت في إطلاق اللحية وقصرت في عقوق الوالدين ، ويقال للثاني وافقت الدين في برِّك بوالديك وخالفته في حلق لحيتك ، والميزان هنا وهناك ، ميزان واحد وهو الكتاب والسنة .


ومن هنا تعلم الرد على من أطلق نعوت التنفير كالتطرف والتخلف والرجعية ووصف بها من طالب بتطبيق الشرعية أو أطلق لحيته

يقال لهم راجعوا إسلامكم ـ إن كانوا مسلمين ـ فالإسلام الذي تدينون به وتزعمون التزامه هو الذي يأمركم بتطبيق الشرعية وتقصير الثوب والنقاب وقال تعالى : " أفحكم الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ "

أما إن كانوا غير مسلمين فيقال لهم : " إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ " " ومن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ "

فالمتطرف هو الذي يحيد عن الإسلام ، إفراطاً أو تفريطاً والتخلف ليس من دين الله في شيء " إن هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَم " و المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، والطب والهندسة والزراعة هي من فروض الكفاية عندنا ، والعلوم النافعة تؤخذ من كل من أفلح فيها وواقع المسلمين لابد وأن يقاس بمقياس الكتاب والسنة ،


فإن اعتبروا رجوعنا لمثل ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجعية قلنا لهم تهمة لا ننفيها وشرف لا ندعيه ، فهذه هي الطائفة الناجية الظاهرة المنصورة ، ولا يحل لنا حتى وإن كنا في القرن المائة ، أن نغير أو نبدل في دين الله " قل مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إليّ "

إن هذا الدين يأمر أهله بإقامة حضارة على منهاج النبوة ، وبالأخذ بأسباب التطور والتقدم مع مراعاة واجب العبودية وطاعة الوقت فلا مانع من صنع السيارة والطائرة والصاروخ ،


ولا حرج في بناء المدرسة والمستشفى والملجأ ، ولا بأس بالانتفاع بوسائل التكنولوجيا والاتصالات والبث العصرية ... وكل ذلك لما استخدم له ، فإن استخدم في أمر صالح كان صالحاً وإن استخدم في أمر فاسد كان فاسداً ، فالأصل في المعاملات الإباحية إذا روعيت ضوابطها الكلية ، فلا تعنى الحداثة والتطوير والتنوير ومجاراة العصر ، أن نفرط في ديننا ، أو أن نبتدع فى شرع الله ما ليس منه ، أو أن نستهزأ بلحية ونستخف بالنقاب ،

فلابد من تعظيم لشعائر الله " ذلك وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب "


ولا معارضة بين إطلاق اللحية وركوب الطائرة ، ولا بين تقصير الثوب وصنع الصاروخ ، ومن أراد من المتدينين الملتزمين ، أن يجمد على وسائل التطور الأولى ، نقول له لا تحجر واسعاً ودر مع إسلامك حيث دار فلا تحريم للحلال ولا تحليل للحرام ، و" إذا قامت الساعة وفى يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها فإن له بذلك أجر "


فهل يتفق معنا دعاة التطور والتحضر والتقدم والتنوير والحداثة على هذا المفهوم أم أنهم يقصدون من وراء ذلك الانسلاخ من دين الله ، وأخذ النجاسات الموجودة في أمعاء الغرب والشرق ، وبيع الدين بالدنيا ... إذا كان هذا هو ما يريدونه وما يطلبونه ،

قلنا لهم " أتستبدلون الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خير " , هذا فراق بيننا وبينكم ،

فالإيمان هو الضياء والنور والخير والحياة الحقيقية " أومن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ منها " والأمور كلها على ما عند ربك ، والمسائل لا تؤخذ بالادعاء ، فالظلامي هو من أعرض عن نور الإيمان , والمتخلف هو من ترك دينه ورائه ظهرياً ، والرجعي هو من أرادها جاهلية جهلاء ، وما تأخرت الأمة وصارت إلى وراء وراء إلا يوم أعرضت عن كتاب الله وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعودوا إلى دين ربكم عوداً حميداً ، يعود لكم عزكم ومجدكم الغائب المفقود فإن أبيتم إلا الجري وراء كل ناعق وزاعق ، فلن تضروا إلا أنفسكم ولن تضروا الله شيئا ,


والله غالب على أمره ومتم نوره ولو كره الكافرون .