السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

"خمسون ألف روماني... يراقبون كل حركة من سيفك يرغبون بان تجعل ضرباتك قاتلة .. الصمت قبل ضرباتك ..والصياح والتصفيق بعدها يعلو... ويعلو مثل العاصفة وكأنك إله الرعد نفسه", بذلك الوصف أغرى سيدٌ أحد المصارعين ليشارك في حلبة الصراع في الكولوسيوم أشهر مسارح ذلك العصر، ففي قمة عظمتها كانت الإمبراطورية الرومانية تقيم حلبات للمصارعة تسحر الجمهور، وتصرف انتباههم عن فتك الطاعون ومآسي الحياة التي يكابدون، وغالبا ...ما ينتهي العرض بمقتل احد المتصارعين فتسيل الدماء وتفوح رائحة الموت..

والغريب أن الجمهور كان يصر على قتل الخاسر ليستمتع بلون الدم ..فيضج المسرح بالصراخ والتصفيق في مشهد أبعد ما يكون عن الإنسانية.

وفي مشهد آخر من عصر الجاهلية كانت طقوس العبادة، طواف حول الكعبة يعلوه التصفيق والصراخ ..واستمر التعبير عن المشاعر المختلطة أحيانا والمتناقضة أحيانا أخرى بالتصفيق والصراخ كظاهرة تصاحب أحداث يصعب نسيانها،

و يفسر احد نواب مجلس الدوما السوفيتية سر مشهد التصفيق المتواصل بعد خطاب ستالين...يفسره بخشية الحضور على حياتهم من سطوة الزعيم ومعتقلاته ونفيه لخصومه في سجون سيبيريا و صقيعها إن توقفوا عن التصفيق قبل أن يطلب ستالين منهم ذلك.

وفي مشهد درامي مشابه ومن جامعة القاهرة هذه المرة تعالت الصيحات واخترق التصفيق كلمة رئيس الولايات المتحدة الأمريكية مرات ومرات، مناقضا لكل المشاعر و المشاهد والسيناريوهات.

فأوباوما... وإن وقف كمصارع في الكولوسيوم شاهرا سيفه و الدم يقطر منه في العراق وباكستان وأفغانستان والصومال وفلسطين ،فإن الأمة الإسلامية التي وجه خطابه لها لا تستمتع أبدا بهذا المشهد الدموي الحزين ،ولا تشبه بحال من الأحوال سادية الجمهور في المسارح الرومانية، فهي أمة واحدة إذا اشتكى منها عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى....فلن تصفق له، كما أنها لم تعبد الديمقراطية ولن تطوف حولها ولا حول صنم من تمر إن جاعت أسواق الرأسمالية أكلته، فهي تملك نظاما أخرجها من الظلمات إلى النور و عاشت في ظله قرونا، عزيزة منيعة صان بشرائعه حرمات نسائها ومقدساتها ....فلن تصفق له، ولم تؤمن يوما بهرطقة الدولتين وقسمة الأرض المباركة بين أهلها ومغتصبيها لتصفق له، ولن ترقص تلك الأمة طربا لإزالة مستوطنة هنا أو حاجز هناك فالقدس وفلسطين كلها ملك لهم, كما أنها لن تصفق له خوفا فقد طار الخوف من عيون أطفالها الذين تعودوا أزيز الطائرات، ورؤية الأشلاء في الأفراح والمناسبات، وباتت نزهتهم الوحيدة زيارة آبائهم في المعتقلات ،ولم تعد جيوش الاحتلال ترعبهم فللمقاومة في العراق ولبنان وفلسطين أمام ناظرهم صولات وجولات...فلن يصفقوا..

لكنه الاستعراض على الطريقة الأمريكية في هوليوود, فقد تنبه المخرجون لأهمية التصفيق كأحد المؤثرات الصوتية الضرورية لإعطاء الانطباع بالموافقة والإعجاب ،وإضفاء نوع من التفاعل مع المشاهدين، فبرزت أهمية استئجار بعض الممثلين الثانويين أو ما يسمون بالكومبارس مهمتهم التصفيق عند طلب المخرج ، أو القيام بأدوار ثانوية لا تغير النص ولكنها تضفي عليه نوعا من الواقعية والإثارة، وقد لا يبتعد دور الكومبارس ومهمته كثيرا عن المشهد السياسي في العالم العربي والإسلامي كظاهرة تفسر وجود ألاف من مدعي العمل بالسياسة والاضطلاع بشؤون الأمة يصفقون متى طلب منهم المخرج الأمريكي ذلك بما يتناسب مع النص ونوعية العرض.

إلا أن التصفيق في مشهد القاهرة جاء نشازا وخارجا عن السياق الموضوعي والتاريخي، فيبدو أن الجمهور خارج القاعه قد سئم هذه الاسطوانة المشروخة، وخرج من عالمه الافتراضي الذي صنعه المخرج وجوقته من الكومبارس السياسيين، فلم تعد المؤثرات الصوتية أو المرئية تخفي واقعه المرير، ولم تعد لا الوعود ولا التضليل يجدي نفعا مع أمة شاهدت كل الاستعراضات الوهمية وحرقت كل الأفلام وشبعت من أباطرة الكلام...ترنو للتغيير وهي ترى اوباما رئيسا لأمريكا في تحقق سريع للأحلام ,فقبل ست وأربعين سنة فقط وأمام مئتين وخمسين ألفا وقف الزعيم الأمريكي من أصل إفريقي مارتن لوثر كينج ليلقي واحدة من اشهر خطبه "لدي حلم",

أعلن كينج فيها رفضه للتمييز ضد أبناء جلدته " لن نرضى أبداً ما دام الزنجيُّ في المسيسيبي لا يملك حق التصويت ، والزنجيُّ في نيويورك لا يؤمنُ في شيءٍ يصوّتُ من أجله . لا ، لا ، لسنا راضين . ولن نرضى حتى يتدفّق العدلُ كالماء ، والاستقامةُ كالنهرِ العظيم.... لدي حلم . "... وفي مشهد تاريخي مؤثر.. صفق الجمهور المحتشد حول نصب لنيكولن التذكاري وعلت اصوات التأييد، واعتبر كثيرون ان رسالة لوثر كينج قد تحققت وان التفرقة العنصرية قد انتهت في اليوم الذي فاز فيه باراك اوباما بالانتخابات الرئاسية.

فالأيام حبلى وعصر الإمبراطورية الرومانية قد ولى، وصار الكولوسيوم أثرا بعد عين وانتهت الجاهلية بخوفها وظلامها، و أطل عصر جديد لن يبقى فيه المسرح حكرا على الكومبارس يخذلون امال الامة و تطلعاتها ... و يصفقون ،فالجمهور قد ضاق ذرعا بعرض هزيل آلم القلوب وأبكى العيون.

ولعلنا على أبواب حلم آخر يتحقق ... يعتلي المسرح فيه أبطال حقيقيون، السحاب فيه... قد يخاطبون"أمطري حيث شئت فخراجك عائد إلي"،... ولملك الروم برسالة قد يبعثون "الرد ما تراه لا ما تسمعه"، وليصلوا في قبلتهم الأولى... جيوشهم قد يحركون...فيعلو التكبير والتهليل، ومن على منبر صلاح الدين انتهاء عصر الكومبارس بلا رجعة ... قد يعلنون.
__________________


منقول