الاقتصادية - لا بد للبلدان ذات الفائض أن تستوعب على نحو طوعي التعديلات اللازمة من قبل البلدان ذات العجز.

أقفر العالم من المقترضين الخاصين الراغبين في الاقتراض وذوي الجدارة الائتمانية. الانهيار المذهل للنظام المالي الغربي هو أحد الأعراض الدالة على حقيقة كبيرة؛ على المدى القصير ستحل الحكومات محل القطاعات الخاصة في دور المقترضين. لكن لا يمكن لهذا الوضع أن يدوم إلى الأبد. على المدى الطويل لا بلا للاقتصاد العالمي من إعادة التوازن. إذا لم تعمل البلدان ذات الفائض على توسيع الطلب المحلي نسبة إلى الناتج المحتمل، فإن الاقتصاد العالمي المفتوح ربما يتعرض للانهيار. وكما كانت الحال في الثلاثينيات، فإن هذا الوضع الآن يشكل خطراً حقيقياً.

لفهم هذا الموضوع، لا بد لنا أن نفهم كيفية عمل الاقتصاد العالمي خلال العقد السابق. كان هناك دور مركزي لعِبَهُ ظهور فائض المدخرات الهائلة في أنحاء مختلفة من العالم. في 2008، وفقاً لتوقعات صندوق النقد الدولي، سيزيد مجموع فائض المدخرات على الاستثمار في البلدان ذات الفائض قليلاً على ألفي مليار دولار.

من المتوقع أن تولد البلدان المصدرة للنفط مبلغ 813 مليار دولار. اللافت للنظر أن عدداً من البلدان المستوردة للنفط يتوقع لها كذلك أن تولد كميات هائلة من الفائض. أبرز هذه البلدان هي الصين (399 مليار دولار)، ثم ألمانيا (279 مليار دولار)، ثم اليابان (194 مليار دولار). يبلغ فائض الحساب الجاري في الصين، عند حسابه كحصة من الناتج المحلي الإجمالي، رقماً مذهلاً هو 9.5 في المائة، وبالنسبة لألمانيا الحصة 7.3 في المائة، واليابان 4 في المائة. وحين نحسب مجموع هذه البلدان الثلاثة ونضيف إليها البلدان المصدرة للنفط، من المتوقع أنها ستولد جميعاً 83 في المائة من جميع مبالغ الفائض.

غالباً ما تستمتع البلدان ذات الفائض بمقارنة سلوكها الحصيف بالسلوك المستهتر لدى الآخرين. لكن من المستحيل بالنسبة لبعض البلدان أن تنفق أقل من دخلها، إذا لم تنفق البلدان الأخرى أكثر من دخلها. المقرضون بحاجة إلى المقترضين. من دون المقترضين المقرضون سيعلنون إفلاسهم.

في 2008 كانت البلدان التي تعاني عجزا هي على التوالي (حسب الترتيب التنازلي لمبلغ العجز): الولايات المتحدة، إسبانيا، بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، وأخيراً أستراليا. وتعتبر الولايات المتحدة أكبر البلدان المقترضة. من المتوقع أن تعاني هذه البلدان الستة عجزا يبلغ نحو 70 في المائة من العجز العالمي. (يجب كذلك أن نلاحظ أن العالم يبدو أنه يعاني عجزاً مقداره 350 مليار دولار مع نفسه).

يمكن لنا أن نجادل بأن إسبانيا وفرنسا وإيطاليا تعتبر المقابل الذي يعادل فائض ألمانيا ضمن منطقة اليورو. صحيح أن منطقة اليورو بكاملها يتوقع لها أن تعاني عجزا بسيطا مقداره 66 مليار دولار. وهذا لا يعني أن الفائض الهائل في ألمانيا ليس له وقع على الاقتصاد الكلي العالمي. رغم أن منطقة اليورو هي ثاني أكبر منطقة اقتصادية في العالم، إلا أنها لا تساهم بشيء يذكر في معادلة مبالغ الفائض في المناطق الأخرى. إضافة إلى ذلك الضغوط على البلدان ذات العجز في منطقة اليورو في حالة ازدياد. وبالتالي من المعقول على الأقل أن نتوقع أن تشهد بعض البلدان أزمات في المالية العامة.

كما ذكرت في السابق، أهم جانب من جوانب الاختلالات العالمية هو النمط المقابل من الاختلالات المالية المحلية. لا بد أن يصبح مجموع صافي القروض الخارجية (أي إجمالي المدخرات ناقصاً الاستثمار المحلي) والأرصدة المالية للحكومات والقطاعات الخاصة (المقصود بالرصيد المالي للقطاع الخاص مجموع أرصدة الشركات والأسر) أن يكون صفراً.


وفي حالة الولايات المتحدة الأطراف المقابلة لصافي القروض الخارجية لهذا العقد كانت أولاً، العجز في المالية العامة بالدرجة الأولى، ثم العجز الحكومي وعند الأسر بمقدار متساو، وأخيراً العجز الحكومي مرة أخرى. أثناء فترات الركود الاقتصادي يتراجع القطاع الخاص ويتوسع العجز الحكومي. يمكن رؤية أنماط مشابهة لذلك في البلدان الأخرى ذات الدخل العالي، خصوصاً بريطانيا. ساعدت الطفرات في أسواق الإسكان على جعْلِ العجز الهائل في قطاع الأسر أمراً ممكناً في الولايات المتحدة وبريطانيا وإسبانيا وأستراليا وبلدان أخرى.

إذن أين نحن الآن؟ لأن الشركات مهتمة بأرباحها المستبقاة أكثر من اهتمامها بإنفاق مزيد من الأموال على الاستثمار، ولأن الأسر تقلص الإنفاق، رغم انخفاض أسعار الفائدة، العجز في المالية العامة في حالة انفجار. وحتى مع ذلك، فإن العجز لم يكن كبيراً إلى الحد الذي يعمل على استدامة النمو على نحو ينسجم مع الطاقة الكامنة. وبالتالي الحكومات تتخذ الآن كذلك خطوات مقصودة لتعزيز الاقتصاد من المالية العامة: أعلنت بريطانيا لتوها عن صفقة صغيرة للتحفيز، وهناك صفقة هائلة ستأتي من الإدارة الأمريكية المقبلة للرئيس باراك أوباما.

هذه هي إذن المرحلة الأخيرة بالنسبة للاختلالات العالمية. من جانب، هناك البلدان ذات الفائض. وعلى الجانب الآخر تقع البلدان ذات العجز الهائل في المالية العامة. وبالتالي العجز الهادف إلى استدامة الطلب سيتكوم فوق التكاليف التي ستتكبدها المالية العامة لإنقاذ النظام البنكي الذي أصيب بالإفلاس أثناء التدافع لتمويل الإنفاق المفرط من قبل أسر لا تتمتع بجدارة ائتمانية، من خلال الإقراض بأدوات مهيكلة مالياً مقابل مساكن ذات أسعار فوق قيمتها الحقيقية.

ليس هذا حلاً دائماً للتحدي المتمثل في إدامة الطلب العالمي. عاجلاً أو آجلاً – عاجلاً في حالة بريطانيا وآجلاً في حالة الولايات المتحدة – فإن الاستعداد لامتصاص الأوراق الحكومية ومطلوبات البنوك المركزية سيصل إلى نهاية معينة. عند هذه النقطة ستحدث الأزمة. لتجنب هذه النتيجة الوخيمة، فإن القطاع الخاص في الاقتصاد الأمريكي والاقتصاد البريطاني يجب أن يكون قادراً على الاقتراض وراغباً فيه، وإلا فلا بد من إعادة توازن الاقتصاد على نحو يتسم بوضع أقوى للأرصدة الخارجية التي ستعمل كمقابل للعجز المحلي الأصغر حجماً. بالنظر إلى الفائض الكبير من الدين الخاص، فإن الاحتمال الأول (أي رغبة القطاع الخاص وقدرته على الاقتراض) لا يبدو أمراً غير مرجح بقدر ما يبدو أنه حل مميت. وبالتالي لا بد من اللجوء إلى الحل الثاني.

في الأوقات الطبيعية يمكن حتى أن نعتبر أن الفائض في الحساب الجاري أمر مفيد لدى البلدان التي تكون إما ذات روح تجارية هيكلية (أي أنها تتمتع بفائض مزمن في الناتج على الإنفاق)، مثل ألمانيا واليابان، أو البلدان التي تتبع سياسات مركنتيلية تجارية (بمعنى أنها تُبقي أسعار الصرف متدنية عن طريق التدخل الهائل في العملات الأجنبية كما تفعل الصين). لكن أثناء الأزمة التي تتسم بتراجع الطلب يصبح الفائض في الحساب الجاري انقباضياً بصورة خطرة.

البلدان التي تتمتع بفائض خارجي كبير تستورد الطلب من بقية العالم. وفي طور الركود الاقتصادي العميق، فإن هذه هي سياسة "الاستيلاء على جميع أموال الجار". إنها سياسة تجعل من المستحيل الجمع بين إعادة التوازن العالمي والطلب الإجمالي المستدام. كانت هذه هي بالضبط الحجة التي استخدمها جون مينارد كينز حين كان يفاوض على النظام العالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية.

باختصار، إذا كان للاقتصاد العالمي أن يجتاز هذه الأزمة ويخرج منها بصورة معقولة، فلا بد للبلدان ذات الفائض التي تتمتع بجدارة ائتمانية أن تعمل على توسيع الطلب المحلي نسبة إلى الناتج الكامن.


أما كيف تحقق البلدان هذه النتيجة فأمر يعود إليها. لكن هذه هي السبيل الوحيدة التي يمكن من خلالها أن ترجو البلدان ذات العجز على نحو واقعي أن تتجنب مواصلة الإنفاق إلى أن تلقي بنفسها في هوة الإفلاس. يجادل البعض بأن محاولة البلدان ذات العجز الخارجي لتعزيز النمو المدفوع بالصادرات، عن طريق تخفيض سعر الصرف، هي سياسة الاستيلاء على جميع أموال الجار.


وهذا هو عكس الحقيقة. فهي سياسة تهدف إلى العودة إلى التوازن. إن سياسة الاستيلاء على جميع أموال الجار تكون حين تسمح البلدان التي تتمتع بفائض خارجي هائل بالانهيار في الطلب المحلي. في هذه الحالة، فإن البلدان المذكورة تصَدِّر البطالة. فإذا سمحت البلدان ذات الفائض الهائل لهذا الوضع بالحدوث، فلن يكون بمقدورها الشعور بالمفاجأة إذا لجأت البلدان ذات العجز حتى إلى إجراءات حمائية.

نحن جميعا في الاقتصاد العالمي في السفينة نفسها. لا بد للبلدان ذات الفائض أن تستوعب على نحو طوعي التعديلات اللازمة من قبل البلدان ذات العجز. فإذا قررت الجلوس والتفرج، وفي الوقت نفسه الإصرار على أن البلدان ذات العجز تستحق ما يجري لها، فلا بد أن تستعد للنتائج الوخيمة.