ايلاف - مثل غرينسبانان أمام لجنة استماع مؤلفة من قانونيين اميركيين برئاسة هنري واكسمان لمساءلته عن اسباب الأزمة المالية التي تعصف بأميركا والعالم اليوم. رئيس مجلس إدارة البنك الفيدرالي السابق والذي يبلغ من العمر 82 عامًا، تعرض للوم الشديد من قبل اعضاء اللجنة التي استجوبته بقسوة هو ووزير الخزانة السابقة جون دبليو سنو وبعض المسؤولين الماليين السابقين. وإذا كان جون دبليو سنو قد تعرض للنقد اكثر من مرة سابقاً، إلا انها المرة الاولى التي يتعرض فيها عراف اقتصاد السوق الان غينسبرغ لهذا القدر من اللوم الذي وصل حد التجريح، وحملته اللجنة مسؤولية الانهيار الحالي معنويًا، بما يشكل نهاية حزينة لحياة حافلة بالنجاحات.

اشتهر غرينسبانان باعتباره المدافع الابرز عن حرية السوق، باعتبار ان السوق تعالج مشكلاتها بطريقة آلية يصعب على المحللين الاقتصاديين توقعها. وهو كان في ذلك مقتفيًا اثار عالم الاقتصاد الانكليزي الشهير ادم سميث الذي برزت نظريته عن حرية السوق بوصفها احد اعمدة النظام الرأسمالي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وعرّضها كارل ماركس لنقد قاس في نهاية ذلك القرن. لكنها استعادت تألقها في ثمانينات القرن الماضي بعد انهيار الانظمة الاشتراكية وفي غرة عهد الان غرينسبانان كحاكم فعلي للاقتصاد الاميركي طوال 18 عاماً. وبلغ من شهرة الرجل واهميته ان رجال السياسة والاقتصاد في العالم كله كانوا يتابعون كل همسة يهمسها الرجل ويأخذون كل كلام يقوله بمثابة الكلام الذي لا يقبل الزلل.

وبلغ من امر سطوته على الاسواق المالية والاقتصاد عموماً ان مصورين صحافيين باتوا يراقبونه وهو يدخل إلى مبنى المصرف الفيدرالي كل يوم، فإذا كانت حقيبته منتفخة تخرج الصحف في اليوم التالي لتحذر الناس بأخطار محتملة على الوضع الاقتصادي، وإذا كانت حقيبته ضامرة تخرج التعليقات الصحافية في اليوم التالي لتبشر الناس بأن الاوضاع بخير.

لكن غرينسبان الذي لم يعلق يومذاك على ما تذهب إليه الصحف، عاد واوضح بعد خروجه من منصبه ان هذا الامر لم يكن إلا اضغاث تكهنات لا قيمة لها، وان حقيبته كانت تنتفخ او تضمر بسبب انه كان يحمل معه في بعض الأحيان سندويتشات إلى مقر عمله. ولا علاقة لانتفاخها او ضمورها بالاقتصاد من قريب او بعيد. لكن هذه الحكاية توضح، بما لا يقبل الشك، إلى اي مدى بلغت سطوة غرينسبان على الاقتصاد العالمي، وهذا ما عكسه واقع انه بقي في منصبه طوال ثلاثة عهود رئاسية، من عهد بوش الأب، إلى كلينتون بولايتيه، وصولاً إلى جورج بوش الابن. وفي مطلع عهد كلينتون صرح الرئيس الديمقراطي يومذاك بأنه لن يتدخل في سياسات المصرف الفيدرالي الذي يرأس غرينسبانان مجلس ادارته. وكذلك فعل جورج بوش الابن.

تقاعد غرينسبانان عام 2006 وحل بن برنانكي في منصبه. ويومها اعتبر غرينسبانان ان اختيار برنانكي لهذا المنصب كان اختياراً موفقاً. مما يعني ان الخلف سيستمر على نهج السلف الذي اثبت كفاءته طوال 18 عاماً. لكن المدافع الأشرس عن حرية السوق اعترف امام لجنة الاستماع انه صُدم بسبب حدة الازمة، وانه في صدد مراجعة قناعاته حول نظرية السوق. ورداً على سؤال من اعضاء اللجنة عن سبب ثقته العمياء بالسوق، اجاب ان هذه النظرية لطالما عملت بكفاءة طوال ما يزيد عن الاربعين عاماً قضاهاً في مناصب رسيمة او شبه رسمية. وانه اليوم متفاجئ إلى ابعد حد بسبب عجز السوق عن اصلاح اوضاعها، مثلما كانت تفعل دائماً.

في معرض دفاعه عن افكاره، اشار غرينسبانان إلى ان اي مسؤول اقتصادي رفيع يرسم سياساته الاقتصادية بناء على تقديرات وتوقعات، فإذا كانت تقديراته مصيبة بنسبة 60 في المئة فذلك يعني ان سياسته ناجحة، وان الاقتصاد سيشهد نمواً لافتاً من دون شك. لكن الاصابة في التقديرات بنسبة ستين بالمئة تعني ان السياسة خاطئة بنسبة 40 في المئة، وهذا امر لا يمكن اغفاله. والحق ان مثل هذا التقدير الذي يقر به غينسبرغ يكشف معنى الجملة التي لطالما رددها بوصفها الميزان الذي تقاس عليه السياسات الاقتصادية: اي تحرير السوق من القيود. فتحرير السوق من القيود باعتبار ان السوق تحسن التعافي من الضربات التي تتعرض لها بطريقة افضل بكثير من سياسات التخطيط الاقتصادية، ونصائح المحللين حائزي جوائز نوبل في الاقتصاد، يعني في نهاية المطاف ان مسألة تحرير السوق من قيودها مرغوبة ومطلوبة بسبب عجز علم الاقتصاد ان يكون علماً دقيقاً. وبمعنى آخر، السوق بالنسبة لغرينسبانان امهر من المنظرين والمحللين الاقتصاديين، لكنها ايضاً غامضة ورجراجة ومتقلبة ولا يمكن قياس تقلباتها بدقة. مما يوجب على عالم الاقتصاد ان يكتفي بمعالجة بعض اثار الهزات التي تحدث بين الفينة والفينة. اما التدخل في السوق فلا لزوم له، لأن ليس ثمة وصفة علمية تؤدي إلى تنظيم عملها على نحو يكفل التقدم والرخاء والنمو. وهذا مما يخفي خلفه قناعة ثابتة لدى غينسبرغ ومن يرون رأيه بأن علم الاقتصاد اشبه ما يكون بعلم الزلازل. حيث لا يستطيع علماء الزلازل منع حدوثها او ترقبه، وتقتصر ادوارهم على معالجة اثارها.

مع نهاية غينسبرغ المحزنة، يبدو ان السوق تأكل ابناءها. تماماًً كما اكلت الثورات ابناءها من قبل. ومع غروب شمس نظريات غينسبرغ وآدم سميث من خلفه، يبدو ان العالم قد ترك من دون بوصلة على المستوى الاقتصادي، ولن تتوقف تسونامي الاقتصاد، كما وصف غينسبرغ الأزمة الحالية، قبل ان تأكل كل ابناءها واحداً تلو الآخر. لكن ما لا يمكن حسابه بدقة هذه المرة، يتعلق اولاً واساساً في معرفة القعر الذي ستستقر عليه.