عرض + طلب + ائتمان = سقوط؟

خبراء أميركيون يرون ان الإجراءات التدخلية الكبيرة سوف تقود إلى كوارث اكبر من الأزمة المالية الحالية.

ميدل ايست اونلاين - من المؤكد الآن في الأوساط الأميركية على اختلاف توجهاتها أن الأزمة الاقتصادية التي تعصف باقتصاد الولايات المتحدة وغيرها من دول العالم سوف تستمر على الأقل خلال المستقبل القريب، وان تداعياتها سوف تطال الكثير من القطاعات الاقتصادية وبالتبعية سوف يتأثر بها المواطن العادي.

وما تزال هذه الأزمة الشغل الشاغل لوسائل الإعلام الأميركية.
وأثارت الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الفيدرالية لمواجهة الأزمة عدد من ردود الأفعال المتباينة تجاه ماهية هذه الإجراءات ومدى تأثيرها على طبيعة الاقتصاد الأميركي والفلسفة الرأسمالية التي يقوم عليها.

هل تؤمم الولايات المتحدة اقتصادها؟
سؤال يبدو غريباً أن يثار فى احد معاقل الرأسمالية فى العالم، ولكن تحت هذا العنوان أعد جوشوا بروكمان تقريراً لشبكة راديو "ان بي ار" تساءل فيه حول معنى قيام الولايات المتحدة بشراء جزء لا يستهان به من أصول العديد من المؤسسات المالية التي أصابتها شظايا الأزمة المالية، الأمر الذي يعني مزيداً من السلطات والصلاحيات التى سوف تملكها الحكومة الفيدرالية تجاه هذه المؤسسات وزيادة سيطرتها على آليات عمل النظام المالي فى البلاد.

فهل تقوم الحكومة الفيدرالية عن طريق هذه الإجراءات بعملية تأميم جزئية للنظام المالي الأميركي؟

وفي هذا السياق أكد الكاتب أن فكرة امتلاك الحكومة الفيدرالية لأنصبة في الشركات الخاصة الأميركية هو أمر مرفوض من جانب الكثير من المواطنين الأميركيين، وهو نفس الاتجاه الذي عبّر عنه وزير الخزانة الأميركي في إطار تفسيره لطبيعة الإجراءات التي اتخذتها الولايات المتحدة لمواجهة تداعيات الأزمة المالية.

حيث أكد انه رغم قناعته بهذا الأمر ـ في إشارة إلى ضرورة عدم تدخل الحكومة الفيدرالية في الاقتصاد بصورة غير مسبوقة ـ إلا أن بقاء الاقتصاد والمستهلكين بدون سيولة مالية هو الآخر أمر غير مقبول ويضر بالاقتصاد.

وعرض الكاتب لبعض وجهات نظر الخبراء الاقتصاديين فى مثل هذه الإجراءات؛ فعلى سبيل المثال أكد بن شابوت - المحاضر البارز فى قسم الاقتصاد بجامعة يال - أن الحكومة الفيدرالية بخطة الإنقاذ الذى قدمتها مؤخراً قد اقتربت كثيراً من مفهوم التأميم، إلا أن الأمر ليس كذلك إلى حد بعيد، لان الأصول التى استحوذت عليها الحكومة هي أصول لا تعطيها حق التصويت في مجالس الإدارة لهذه المؤسسات والبنوك.

ولكن على الجانب الآخر فإن مثل هذه الإجراءات تعطيها كل الوسائل التى تمكنها من التأثير على طريقة عمل هذه المؤسسات وطرق صنع القرار فيها، دون أن تمتلك أسهم وأنصبة فيها، ويظل مثال الاستحواذ على مؤسستي الرهن العقاري فاني ماي وفريدي ماك المثال الأبرز على هذا الصعيد.


وفى سياق متصل لجهود الإدارة الأميركية لإنقاذ الاقتصاد تناول الكاتب إعلان وزارة الخزانة عن خطة لإعادة الثقة إلى الأسواق المالية تكلف 250 مليار دولار لشراء الأسهم المميزة في العديد من البنوك والمؤسسات المتعثرة مثل بنك أميركا ومؤسسة جي بي مورجان وسيتي غروب، كما أن الحكومة أتاحت إمكانية أن تشارك بعض الشركات القوية في تنفيذ هذا البرنامج.

حيث أعلنت الحكومة أن هناك تسع مؤسسات مالية كبرى سوف تشارك في تنفيذ هذا البرنامج بمساهمة قدرها 125 مليار دولار، وهو الأمر الذي بمقتضاه سوف يتم استثمار مبلغ محدد فى هذه المؤسسات المهددة بما لا يتجاوز 25 مليار دولار أو نسبة 3% من أصولها المهددة بالخطر.

وأكدت الحكومة أن الشركات التي ستشارك في تنفيذ البرنامج وتستفيد منه سوف يكون عليها الانصياع للقواعد التى سوف تفرضها وزارة الخزانة، من اجل ضمان عدم حدوث انهيارات أخرى فى الأسواق المالية، الأمر الذي اعتبره الكاتب مظهراً آخر من مظاهر السيطرة الفيدرالية على الطريقة التي تدار بها الأسواق الأميركية.


وفي هذا السياق أشار الكاتب إلى تأكيدات الخبير الاقتصادي بموقع مودي الالكتروني على شبكة الانترنت مارك زيندي الذي اعتبر أن هذه الإجراءات تعتبر بمثابة تأميم قطاع كبير من النظام المالي، واعتبر أن أهم ما يميز هذه الإجراءات أنها تمت خلال فترة وجيزة جداً.
واعتبر البعض الآخر مثل سيمون جونسون الباحث بمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي انه لا يمكن اعتبار هذا التدخل من جانب الحكومة الفيدرالية بمنزلة اتجاه نحو تأميم النظام المالي، لأنه لا يمكن اعتباره كذلك إلا إذا قامت الحكومة بنزع ملكية هذه الأصول من أصحابها لصالحها، فغاية ما قمت به الحكومة هو زيادة الدعم للنظام المالي، الأمر الذي انعكس فى صورة مؤشرات أولية لبداية تعافي الأسواق المالية من آثار الأزمة الاقتصادية، أما لو كان الأمر كما يقول البعض بمنزلة تأميم لمؤسسات القطاع المالي لاتجهت السوق نحو الانخفاض، وبالتالس زيادة التأثيرات السلبية للازمة المالية التي مر بها الاقتصاد في الوقت الحالي.


وفى صحيفة الواشنطن بوست كتب بيتر شيف مؤكداً انه في وسط الفوضى العارمة التي اجتاحت الأسواق المالية في الولايات المتحدة خلال الأيام الماضية اندفعت الحكومة الفيدرالية إلى اتخاذ إجراءات تدخلية غير مسبوقة فى محاولة منها لإعادة الثقة إلى النظام المالي.

واعتبر شيف أن هذه الأزمة نتجت بالأساس من التردد الحكومي في التدخل من اجل تنظيم الأسواق المالية بمجموعة من الإجراءات والضمانات لكبح جماح الاستثمارات المكشوفة في بورصة وول ستريت.

مما دفع الكثير من الاقتصاديين الذين كانوا - في الماضي - معارضين لأي نوع من التدخل الحكومي في عمل السوق إلى الدعوة إلى ضرورة تنظيم عمل المؤسسات والشركات العاملة فى السوق، ووضع إطار تنظيمي يستطيع تحجيم القوى المدمرة للرأسمالية.

واعتبر الكاتب أن هذه الأزمة تعتبر فرصة كبرى لليسار السياسي الذي لا طالما نادى بضرورة وضع مثل هذه القيود على عمل السوق.

وأشار إلى أنه إذا كان المسؤولون داخل وول ستريت قد تعاملوا بصورة غير مسؤولة، فإنهم يجب أن يدفعوا ثمن الأخطاء التى ارتكبوها وتسببوا عن طريقها فى حدوث الأزمة المالية الأخيرة.

ولفت الكاتب إلى انه فى السوق الحر فان الأسعار تتحدد طبقاً لقوى العرض والطلب، وانحرافاً عن الهدف الاساسي لمثل هذا النموذج الحر وجدت فئة هدفها الأول هو جمع اكبر قدر من المال دون النظر إلى أي اعتبارات أخرى، وبالتالى فان هذا الجشع لجمع المال هو كان السبب الاساسي لحدوث المخاطر الاقتصادية.

علاوة على ذلك فإن السياسات الحكومية التى وضعتها العديد من الجهات ـ مثل بنك الاحتياط الفيدرالي وإدارة الإسكان الفدرالية وغيرها من المؤسسات والوكالات المعنية بالأمر ـ ساهمت في حدوث الأزمة المالية الحالية، والتي بدأت بأزمة كبيرة شهدها سوق العقارات في الولايات المتحدة، حيث قامت الحكومة بتوفير كافة المميزات والحوافز للاستثمار في السوق العقاري خاصة ما تعلق منها بشراء وبيع المنازل دون توفير ضمانات كافية تضمن عدم انهيار مثل هذا القطاع بعدم قدرة ملاك المنازل على تغطية ودفع قروضهم.

كما أنها أزالت كافة القيود على عملية الإقراض والاقتراض، والنتيجة كانت فقاعة ائتمانية وعقارية ظلت تكبر حتى فقدت كل إمكانية للنمو والكبر مرة أخرى.

وكان من بين الحوافز الكبيرة التي وفرتها الحكومة الفيدرالية للقطاع العقاري إعفاء أرباح رؤوس الأموال المستثمرة في هذا القطاع من الضرائب على الدخل، وقد ساهمت هذه السياسات في إيجاد طلب غير محدود على العقارات.

واعتبر الكاتب أن السبب الاساسي فى حدوث هذه الفقاعة كان معدل الفائدة المنخفض الذي أقرته الحكومة الفيدرالية؛ فبعد الركود الذي أصاب الاقتصاد الأميركي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول قام بنك الاحتياط الفيدرالي بخطوة غير مسبوقة بخفض معدل الفائدة إلى 1% في محاولة منه لمنع حدوث ركود اقتصادي، وظاهرياً بالفعل أدت هذه الخطوة إلى حدوث انتعاش اقتصادي فى الأسواق، وأضحت السيولة المالية متاحة، وبالتوازي حدث نوع من المغالاة فى أسعار العقارات دون مبرر.


واعتبر الكاتب أن مثل هذه الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الأميركية هى التي أدت إلى انهيار كبير في سوق العقارات، وهي الأزمة التي تبلورت فى نهاية الأمر فى الأزمة المالية الكبيرة التي عصفت بالنظام المالي فى وول ستريت، وحاولت وزارة الخزانة الأميركية مواجهة هذه الأزمة بمزيد من الإجراءات الرقابية والتنظيمية على عمل المؤسسات المالية، ودفع الكونغرس إلى إقرار خطة للدعم هدفها توفير حوالي 700 مليار دولار من أموال دافعي الضرائب الأميركيين، سوف تستخدمها الحكومة لشراء الديون السيئة للكثير من المؤسسات المالية الكبيرة المهددة بالانهيار.


واعتبر شيف هذه السياسات خطأ كبيراً ارتكبته الحكومة الأميركية تعرقل به عمل الأسواق الحرة، كما أنها بهذه الإجراءات الرقابية والتنظيمية المزمع إقرارها تقوم بمقاومة العلاج للازمة، في حين تقوم بالإبقاء على المرض الاساسي الذي سبَّب الأزمة، وأكد أن هذا التدخل في عمل الأسواق بحرية خطأ كبير، لأن الولايات المتحدة وصلت إلى قوتها الاقتصادية الكبيرة عن طريق آليات السوق الحر، ومن ثم فإن الإجراءات التدخلية الكبيرة سوف تقود إلى كوارث اكبر من الأزمة المالية التي يعيشها الاقتصاد في الوقت الحالي، وسوف تخضع الولايات المتحدة لمعضلة المثاليات الاشتراكية التي سوف تجعل الولايات المتحدة قوة اقتصادية من المستوى الثاني.