الاقتصادية - حين خرج وزير الخزانة الأمريكي هانك بولسون باستراتيجيته الخاصة بإنقاذ النظام البنكي الأمريكي، اتصل بوزراء المالية في عدد من البلدان ليشرح تفاصيل الخطة. قال وزير الخزانة عن خطته الرامية إلى إنهاء الجمود في أسواق الائتمان العالمية: "نحن بحاجة إلى تفجير هذا الأمر".

سأل أحد وزراء المالية الأوروبيين عما يمكن أن يحدث إذا أخفق برنامج الإنقاذ البالغة قيمته 700 مليار دولار لشراء الموجودات السامة في البنوك، في كسر الجمود. أجاب بولسون بصراحة فجة: "ليس لدينا شيء آخر". يبدو أن وزير الخزانة الأمريكي افترض أن الكونجرس سيتصرف على نحو ما يُطلَب منه. ولعل المسؤولين السابقين اللامعين في بنك جولدمان ساكس غير معتادين على أن يُغلبوا على آرائهم من قبل أناس هم مجرد سياسيين.

نأمل أن يكون لدى بولسون الآن خطة احتياطية، بل وخطة احتياطية بديلة عن الخطة الاحتياطية. وحتى بعد أن انقلب مجلس النواب الأمريكي على نفسه وأقر نسخة من الخطة، فإن قلة من الخبراء تصدق أن هذا بحد ذاته سيكون كافياً لاستعادة الثقة في النظام البنكي وإعادة الثقة إلى الأسواق.

إن الموافقة على خطة مَعيبة كان شرطا ضروريا، لكنه غير كاف للاستقرار. البنوك تريد رأس المال الآن. وبعض هذه الأموال ربما تأتي من صناديق الثروة السيادية. لكن دافعي الضرائب، من الأمريكيين والأوروبيين، سيتعين عليهم كذلك أن يدفعوا مبالغ إضافية خلال الأسابيع والأشهر المقبلة.

بصرف النظر عن المسار المستقبلي للأزمة، كما قال أحد المسؤولين في البنك المركزي "لا أحد يراهن على مدة أكثر من ساعتين بعد هذه الساعة"، فمن الواضح أن بضعة أصابع من الديناميت الذي استخدمه بولسون انفجرت الآن تحت السياسة.

أول الآثار المباشرة كانت أن العاصفة التي هزت وول ستريت حولت مجرى الانتخابات الأمريكية. قبل ثلاثة أسابيع أو نحو ذلك كان يبدو أن السباق الرئاسي سيدور حول المنطقة المفضلة لجون ماكين. ذلك أن غزو روسيا لجورجيا وضع الأمن القومي تحت الأضواء.

كما أن إضافة سارة بالين إلى البطاقة الانتخابية لماكين بدت للبعض (أقول "البعض") وكأنها ضربة معلم. حين لم يكن ماكين يذكر سامعيه بأنه من أبطال الحرب، كان من الممكن خوض الحملة في المنطقة المألوفة وهي الحروب الثقافية. أما الديمقراطيون، الذين تقض مضجعهم الهزائم السابقة، فقد كانوا يخشون أن الانتخابات ستتحول بالتأكيد إلى "غيرية" باراك أوباما.

كان ذلك قبل حين، لكننا نعود الآن إلى الموضوع الرئيسي: إنه الاقتصاد أيها الأحمق. هذه بالتأكيد الأرض التي يحسن الديمقراطيون القتال فيها. إحدى الرسائل القادمة من الأزمة هي الانهيار التام ـ إلى جانب أسواق الائتمان ـ لسلطة إدارة الرئيس جورج بوش. تعرض بوش للسخرية من أعضاء مجلس النواب الجمهوريين الذين رفضوا مشروع القانون الخاص بصفقة بولسون.

وسيجد ماكين، رغم كل جهوده من أجل الوحدة الوطنية وعدم التركيز على خلافات الحزبين، أن من الصعب عليه الإفلات من تحميله الذنب بسبب ارتباطه بالإدارة الأمريكية. خرج المرشح الجمهوري من مؤتمر الحزب متفوقاً بثلاث أو أربع نقاط على أوباما في استطلاعات الرأي العام. أما في الاستطلاعات الأخيرة فقد تقدم أوباما عليه بست أو سبع نقاط.

بصرف النظر عن نتيجة الانتخابات الأمريكية، فقد تحول الجو السياسي في كل مكان. لقد وصلنا إلى مرحلة من المراحل التي نقول فيها "لن نعود لمثل ذلك أبداً". وحتى بين الناخبين الذين لا يثقون بالحكومة، فإنهم يعتبرون أن الأمور ساءت فوق الحد. لماذا وقف السياسيون في موقف المتفرج في الوقت الذي كان فيه "المضاربون والشركات المالية الوسيطة" يعيثون الفساد في الأسواق؟
يجب أن نكون حذرين هنا فيما يتعلق برسم الخطوط المستقيمة بين اليسار واليمين. رد الفعل السياسي على الأزمة أخرج لنا تحالفات وعداوات جديدة. ورأينا بعض الديمقراطيين وقد وجدوا أنفسهم في جانب واحد مع أدعياء السوق الحرة من اليمين الجمهوري، من حيث رفضهم تحميل المجتمع خسائر البنوك. الفريق الأول يريد بدلاً من ذلك إرسال المصرفيين إلى السجن، أما الفريق الثاني فإنه يشعر بالقلق من أن الروح النشطة للرأسمالية ستتعرض للتقييد على يد الدولة.


من المفارقات الكثيرة الأخرى أن أقرب حليف لإدارة جمهورية في واشنطن، كان أول المؤيدين لنظام مالي عالمي ليبرالي مفتوح (والآن يؤيد صفقة الإنقاذ) هو حكومة من يسار الوسط في بريطانيا.

للإنصاف أقول إن رئيس الوزراء البريطاني، جوردون براون، كان يضغط منذ فترة طويلة في سبيل وضع رقابة عالمية أفضل للنظام المالي. لكن حتى عهد قريب لم يكن، ولو من بعيد، من دعاة تشديد النظام الرقابي. ويجب ألا ننسى أن تكريم ألان جرينسبان بلقب "فارس" كان بناء على توصية من براون، وهناك الآن في رواق وزارة المالية البريطانية لوحة تشيد بذكر الرئيس السابق لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الذي أصبح سيئ السمعة الآن.

الفائز بجائزة الشماتة هو بير شتاينبروك، وزير المالية الألماني من الحزب الاشتراكي الديمقراطي، حين تنبأ بأن الأزمة الحالية تشكل العلامة الفارقة التي تنهي دور أمريكا باعتبارها القوة العظمى المالية. لكن هذا الموقف من الحزب الاشتراكي معروف تماماً. بالمقابل خفف نيكولا ساركوزي، الرئيس الفرنسي من يمين الوسط، من انتقاداته لدور الولايات المتحدة. لكن عدداً كبيراً من الديمقراطيين المسيحيين في أوروبا سيتباهون في مجالسهم الخاصة بأن الجيشان في الأسواق يعطي تأكيداً مريحاً لازدرائهم لليبرالية الجديدة "للأنجلو ـ ساكسون".

من جانبهم، شعر كثير من سياسيي يسار الوسط في بريطانيا بفرحة غامرة في البداية لأن إدارة الرئيس بوش "أممت البنوك". لكنهم غيروا موقفهم بطبيعة الحال حين أعيد وصف خطة بولسون على أنها شبكة الأمان للغرقى من أساطين المال في وول ستريت.

بالمقياس نفسه، كثير من السياسيين الذين يرسمون لنا الآن مستقبلاً يتسم بقدر كبير من التدخل الحكومي وقدر قليل من السوق أثبتوا عدم اكتراثهم بالحقائق العملية في أرض المالية العامة للدولة. جميع عمليات الإنقاذ، دع عنك الصدمة الاقتصادية التي ستعقب الصدمة المالية، ستدفع بالدولة إلى قدر أعلى من الاقتراض العام. وحتى قبل الأزمة كانت الولايات المتحدة، ومعها بريطانيا أيضاً، تواجه عجزاً ضخماً متزايداً في الميزانية. المزيد من التدخل الحكومي لا يمكن أن يعني قدراً من الإنفاق أكبر بكثير من ذي قبل.

بصرف النظر عن هذه التعقيدات والتوترات تغيّر وجه الساحة السياسية. وبإمكانك رؤية ذلك في بريطانيا. قبل ثلاثة أسابيع كان يبدو على براون أنه متجه إما إلى قذفه إلى الخارج على يد حزبه، أو إلى الهزيمة على يد منافسه ديفيد كاميرون، زعيم المحافظين. لكن براون، الذي راح يلوح ببطاقة "نحن نؤمن بالحكومة"، وراح يؤكد خبرته الشخصية، يبدو أنه حصل على الأقل على هدنة مؤقتة.

لست متأكداً من مقدار الفائدة التي يمكن أن تعود على حظوظ براون في المستقبل البعيد، إذ يجب ألا ننسى أن الناخبين لم يحسوا بعد بلسعة التكلفة الاقتصادية للأزمة المالية. لكن بالنسبة للوقت الحاضر على الأقل، كاميرون يجهد الآن للتوصل إلى توازن بين الإحساس الغريزي لديه بإعطاء الحرية لاقتصاد السوق من جهة ورغبة الناخبين في الانتقام من جهة أخرى. وقد وعد هذا الأسبوع بأنه سيكون هناك "يوم حساب" للمسؤولين عن هذه الفوضى، حتى في الوقت نفسه الذي صرح فيه بأن هذه الأزمة يجب ألا تعتبر سبباً لدفن نظام السوق.

المأزق الذي يعاني منه كاميرون يجب أن يكون درساً لنا. لن يكون من السهل التوصل إلى الموقف المتوازن، سواء بالنسبة لزعيم حزب المحافظين أو لأي شخص آخر، وسط صرخات الجماهير الغاضبة على اليمين وعلى اليسار على حد سواء. لكن هذا ما يجب أن يفعله السياسيون الجادون. الحكومات بحاجة إلى العثور على سبيل لتقييد حركة الأسواق المالية دون وضعها في الأصفاد.