الاقتصادية - افع منظرو الرأسمالية عن فلسفتها القائمة على عدم تدخل الدولة في حركة السوق وفق شعار "دعه يعمل"، وهو الشعار المبني على نظرية اليد الخفية لآدم سميث – أبو الرأسمالية - حيث إن الرأسمالي يعمل لمصلحة نفسه، لكنه ومن دون قصد منه يعمل لمصلحة الجميع, وبذلك فإن الأسواق قادرة على التصحيح الذاتي من حيث قدرة السوق على امتصاص كامل الإنتاج وفقا لقانون ساي. لكن الكساد العظيم وضع النظرية الاقتصادية في المحك, فلقد ثبت لها أنه من الممكن أن يحدث الكساد، وأن الطلب يتناقص، وأن الأفراد يفضلون الاحتفاظ بالنقد بدلا من الاستهلاك. وقفت النظرية الرأسمالية كثيرا قبل أن تخطو خطوة مهمة جدا إلى الأمام لتسمح للدولة ولأول مرة بالتدخل لحفز الطلب. واستطاعت النظرية الرأسمالية أن تنجو بفعل النظرية الكنزية وأن تحافظ على جوهرها، وأن الأسواق قادرة على تصحيح أوضاعها، وأن الدور الذي تلعبه الحكومات يجب ألا يتخطى المحافظة على توازن اللعبة فقط.

لكن المشكلة التي تواجهها الرأسمالية اليوم تبدو على نحو ما مختلفة وتشكل تحديا كبيرا لجوهر النظرية نفسها، فاليد الخفية تكاد لا تعمل بل هي التي قادت الرأسمالية إلى وضعها الصعب اليوم، كما أن الأسواق لم تستطع أن تصحح أوضاعها وأن تقيم السلع وفقا لمبدأ السعر العادل, ولم تكن أزمة الرهونات العقارية إلا نتيجة أخطاء كبيرة مارستها الأسواق على نحو منتظم طوال سنوات عدة. والمشكلة الأصعب أن الأسواق لم تمهل المنظرين كثيرا كيما يحاولوا علاج الأخطاء وفقا للنظرية, فالمخاطر كبيرة والانهيارات سريعة وبشكل خطير جدا. هنا لم تجد الحكومة الأمريكية إلا أن تتدخل لتعالج السوق وتشتري الرهونات وتكافئ على الأخطاء على نحو لم يسبق له مثيل, فليس هناك وقت لتتبع النظرية والتمسك بأقوال فلاسفتها, وهذا ما يؤكده بيرنانكي محافظ البنك الفيدرالي عندما يقول إنه لا توجد أيديولوجيات في زمن الأزمات المالية There are no atheists in foxholes and no ideologues in financial crises. هنا يجب على النظرية أن تتطور لتفسير القرار أو عليها أن تخلي المكان لنظرية جديدة.

لكن الخطوات التي اتبعتها الحكومة الأمريكية تجعل البعض يتساءل فعلا إذا ما كانت الرأسمالية ما زالت تعمل فعلا. ففي الوقت الذي رفضت فيه الحكومة أن تمد يد العون إلى بنك ليمان في إشارة هائلة إلى أنها تفرض قوى السوق ولن تتدخل، إلا أنها في الوقت نفسه تنازلت عن المبدأ وأممت مؤسستي فاني ماي وفريدي ماك وتقوم اليوم بأكبر خطة إنقاذ شهدها الاقتصاد الحديث, التي سماها سكرتير الخزانة الأمريكية هنري بولسون برنامج إغاثة الثروة troubled asset relief program وكلمة إغاثة relief لها من الدلالة على عدم قدرة الواقع الاقتصادي الرأسمالي الحالي على حل مشكلاته. المشكلة الأكثر حيرة وخطورة لأساطين الرأسمالية الأمريكية اليوم - ومنهم من لا يؤمن بالنظريات في زمن الأزمة - أنه أصبح من الصعب التنبؤ بما سيحدث بعد ذلك, فالنظرية لا يمكنها التنبؤ بما لم تنظر له.