الاقتصادية - في الساحة الكبيرة قبالة المقر الأوروبي لبنك ليمان براذرز في حي المال والأعمال في كناري وورف في العاصمة البريطانية لندن، تتحول مشاعر الصدمة، التي اعترت نحو خمسة آلاف من موظفي البنك الأمريكي لدى سماعهم نبأ إعلان إفلاسه الإثنين الماضي، إلى جو من الارتباك والوجوم والتكتم الشديد الذي لف المكان في اليوم التالي.

هكذا أبادر بسؤال الشابين اللذين كانا يهمان بدخول البرج الشاهق، وقد بدا لي بوضوح أنهما من موظفي المصرف الذي كان حتى يوم أمس يُعدُّ رابع أكبر بنك استثمار في العالم، فقد ارتديا بذلتيهما الكحليتين الرسميتين وربطتي العنق الأنيقتين وكأنهما يبدآن يوم عمل جديد عادي.

يتسابق الشابان بالرد قائلين، وكأن كلامهما يصدر عن شخص واحد: "نعم إننا حتى اللحظة موظفان في هذا البنك الجميل، إذ لم ننُقل من عملنا بعد".

لكنهما يرجوانني بألا ألتقط لهما صورا أو أذكر اسميهما أو أنسب إليهما أي تصريحات بشكل رسمي، "فنحن ممنوع علينا بشدة الإدلاء بأي تصريحات".

ومع الإلحاح عليهما، يوافق الموظفان على المضي قدما بالحديث بعد أن يستمهلانني بضع لحظات لمضغ اللقيمات الأخيرة السندويشات ويفرغان آخر ما تبقى من زجاجات العصير. "لا تعليق"
"رجاء دعنا ننزوي جانبا بعيدا قليلا عن أعين موظفي الأمن ومدخل البنك. نحن لا نستطيع إعطاء أسمائنا أو أي شيء يتعلق بهويتنا الرسمية".

ويردف الآخر قائلا: "أستطيع أن أقول لك إن الطقس أجمل جدا في الخارج، على الرغم من الغيوم الكثيرة التي تلبد الجو؟"

أقول له: "لكني ماذا عن الأجواء في الداخل، هل تم إبلاغكم بأي شيء، ولماذا كل هذا التكتم الشديد؟"
يجيب الشخص نفسه: "أؤكد لك أننا عائدون إلى بلدنا قريبا جدا".
ومن أي بلد أنتما؟
يقاطعه زميله: "نحن من بلد أوروبي، لكن الحمد لله أننا لسنا من هنا".

وهل استلمتما مستحقاتكما، أو وُعدتما بوظائف جديدة حتى تتمكنا من العودة مطمئني البال؟ يجيب الاثنان معا: "لا تعليق. دعنا ننتظر لنرى ما الذي تخبئه لنا الأيام القليلة القادمة".

أترك موظفي البنك الأوروبيين، لأحاول الحديث مع شخص آخر يبدو لي أنه في أوائل الخمسينيات من عمره وقد فرغ لتوه من إجراء مكالمة هاتفية مطولة على هاتفه الخلوي.
"هل تعمل في البنك أيضا يا سيد؟
يجيب بالنفي قائلا: "لا ليس في هذا البنك ولا في هذه البلاد، فأنا قادم لتوي من الولايات المتحدة".
إذ لربما جئت لتفقد أخبار قريب أو صديق لك يعمل هنا؟ "الصديق عند الضيق".
يهز رأسه مؤكدا: "بالضبط. لدي صديق يعمل في مقر البنك في لندن منذ مدة، وقد وصلت ليلة أمس قادما من بلدي، أمريكا، لكي أسأل عنه وأتفقد أحواله".
وهل طلب صديقك منك المساعدة أو أخبرك عن حالته ووضعه بُعيد إعلان إفلاس البنك؟
يقول: "أنا لم ألتق به بعد، وهو لم يطلب مني شيئا. حقيقة، لقد بادرت بنفسي لنجدته، فأنا بخبرتي المصرفية الطويلة أعرف ما الذي يعنيه أن يُبلغ الموظف فجأة أنه فقد مصدر رزقه وقوت أطفاله".
ويردف قائلا، وقد بدأ يغالب انفعالاته التي بانت بشكل جلي على وجهه وفي عينيه: "جئت لامتحن نفسي إن كان فعلا كما يُقال إن الصديق وقت الضيق أم لا. أريد أن أفاجئه".

وأحاول أيضا أن أستشف منه تصوره لما يمكن أن يكون عليه فعلا حال من سيخسر عمله سواء في بنك ليمان برذرز أو غيره في ظل الظروف الراهنة؟

يقول المصرفي الأمريكي: "لا شك أن البعض منهم سيجد عملا ربما في القريب العاجل أو بعد مدة. لكن لك أن تتخيل وضع من سيخفق في إيجاد فرصة عملة ولديه منزل يتعين عليه تسديد أقساطه كل شهر وعائلات يعيلها وديون يسددها وأعباء والتزامات كثيرة أخرى عليه مواجهتها".
أسأله: قل لي، كيف شعرت وأنت تركب الطائرة مغادرا بلدك الذي يتعرض لمثل هذه الكارثة الاقتصادية الكبيرة؟ أخطر أزمة

يجيب المصرفي الأمريكي، الذي طلب إلي أيضا عدم ذكر اسمه: "إنها فعلا من أخطر الأزمات التي تعصف باقتصادنا وبلادنا منذ هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عام 2001. وربما أن الأسوأ لم يأت بعد".

ويضيف قائلا: "هناك شركات تأمين ومصارف أمريكية كثيرة ربما تسمعون بأخبار انهيارها قريبا، فهي قد تكون في طريقها إلى إشهار إفلاسها، ولك أن تتصور كم سيكون كبيرا انعكاس مثل ذلك علينا وعلى العالم أجمع، اقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا".
استراق السمع

لم أشأ، عن قصد أو بدون قصد، أن أسترق السمع إلى أحاديث الكثيرين ممن كانوا حولي يتحدثون على هواتفهم الخلوية عندما كنت أحاول جاهدا انتزاع بعض المعلومات ممن يخرجون من البنك حاملين معهم متعلقاتهم الشخصية في حقائب صغيرة أو صناديق كرتونية متواضعة.

لكن كلمات كثيرة ترن في أذنك ولا تجد بدا من التفكير بدوافعها وانعكاساتها على حياة قائلها أو قائلتها وعلاقتها بتطورات الأزمة.

"سيدركون في نهاية اليوم طبيعة الخبرة التي لدي ومدى حاجتهم لي،" يقول مصرفي كان يزرع المكان جيئة وذهابا وقد بدت عليه علامات الثقة بالنفس والحزم، وإن كانت نبرة صوته مشوبة بشيء من القلق.

تقول سيدة أخرى، وقد بدا أنها حامل وقد خرجت لتوها من مقر البنك: "أنا لا أفكر الآن كثيرا بيوم غد. أريد فقط أن أستريح".

وعندما أبادرها بالسؤال عمَّا إذا كانت موظفة في البنك أم لا، ترد علي بشيء من الانفعال: "أنا آسفة جدا، إنني أرفض الكلام عن البنك أو عن أي شيء آخر. انظر إلى هذه الساحة إنها مليئة بمن لا يريد الكلام مثلي".
حظر الكلام

أترك الموظفين المنفعلين وشأنهم، وأحاول الحديث مع زميلة إعلامية بدت عليها علامات الانزعاج هي الأخرى، وإن لسبب مختلف، فتقول: "يبدو لي أنهم قد حظروا عليهم (الموظفين) الكلام ومنعوهم من قول أي شيء، كما أن الإدارة هي الأخرى لا تريد الكلام. لقد حاولت الحديث مع أكثر من 50 شخصا، لكنهم جميعا رفضوا التصريح بأي شيء".

يبادر زميل إعلامي آخر بالقول: "لقد فتشوا (عناصر أمن المصرف) حقيبتي وحاولوا معرفة سبب إلحاحي بالتقاط صور للموظفين الخارجين من المبنى".

أحاول أن أحصي عدد الإعلاميين في المكان وعدد الكاميرات التلفزيونية المسلطة على البرج من بعيد، لطالما منعنا عناصر الأمن، الذين زرعوا المكان بصحبة كلابهم البوليسية، من دخول المبنى أو حتى الوقوف سوى على مسافة أمتار من مدخله.

وحده الموظف "جورج"، الذي قال لي صراحة إنه لم يعط اسمه الحقيقي، قبل التحدث إلى وسائل الإعلام عن وضعه كأحد موظفي البنك الخمسة آلاف الذين ينتظرون معرفة مصيرهم على أحر من الجمر.

يقول "جورج": "في الأمس تمكنا من ذرف بعض الدموع وتبادل القبل وكلمات المواساة. أما اليوم فلا كلام ولا قبل".

ويضيف: "لقد أخبرونا أن كل شيء قد انتهى وها نحن نحزم حقائبنا ومتعلقاتنا الشخصية ونمضي كل في حال سبيله".

أما ديفيد تروبريدج، فيوافق على الحديث المطول معي، يبدو ديفيد منشرح الصدر عندما أطلب منه أن ألتقط له صورة وهو يقف أمام مبنى البنك بعد أن دس بطاقته الشخصية في يدي، فظننت للوهلة الأولى أنه أحد موظفي المصرف المنهار ويريد كشف شيء جديد.

أتصفح البطاقة، فأدرك سر ابتسامته قبل أن يعاجلني بشرح موقفه إذ يقول: "أنا لا أعمل هنا، بل جئت "لأتصيد الرؤوس" (أي أبحث عن موظفين جدد من الشركة المفلسة بغية تصديرهم إلى شركات أخرى). نعم إنها مأساة بالنسبة لهؤلاء الموظفين ولمصرفهم المنهار، لكنها فرصة عظيمة بالنسبة لنا".

ويردف ديفيد، وهو يعمل خبيرا لشؤون التوظيف في مجموعة ليكويد كابيتال البريطانية المختصة باقتناص الخبرات من المؤسسات المنهارة وإعادة تصديرها إلى المؤسسات الأخرى، قائلا: "جئت أبحث تحديدا عن سماسرة ووسطاء ماليين حيث إنني أحصل عليهم هنا بأجور أخفض بكثير من أي مكان آخر، نظرا للظروف التي يمرون بها".

ويضيف: "انظر إلى هذه الساحة الشاسعة كيف تحولت إلى سيل من صيادي الخبرات. إنها بمثابة سوق مفتوحة ورخيصة بالنسبة لنا".

إذا أنتم تستغلون مآسي الآخرين؟
يرد ديفيد بابتسامة لا تخلو من المكر: "لا، بل نحن نساعد أنفسنا ونساعدهم".
محاولاتي لدخول المبنى أو للحديث مع أحد المسؤولين فيه باءت كلها بالفشل، مع إصرار موظفي الأمن على عدم السماح لأي إعلامي من الوصول إلى داخل المقر.

وأخيرا، يبادرني كبير مسؤولي الأمن بالقول: "يمكنك فقط الاتصال بالمكتب الصحافي على هذا الرقم".
لكن الاتصالات بالمكتب الصحافي للبنك لم تكن قط بأنجع من المحاولات الفاشلة لدخول المبنى أو للحديث مع أحد مسؤولي المصرف الذي كانت آخر أنباء تطورات حادثة انهياره وانعكاساتها تتوالى على اللوحة الإلكترونية العملاقة على المبنى المقابل.


وقبل أن أغادر المكان، ألتفت للمرة الأخيرة إلى البرج لكي ألتقط له صورة من على بعد، فألمح بجانبي شابا يحتضن صديقته وقد أخذ يربت على كتفها وهو يقول بانفعال: "سنتذكر هذا المكان كثيرا. لكن لا تحزني".

لم أدر، في الحقيقة، إن كانا من موظفي البنك أم لا. لكنني عندما قابلتهما ثانية في محطة مترو الأنفاق القريبة في طريق عودتي إلى المكتب، وكانا يحملان معهما صندوقين شبيهين بتلك الصناديق الكرتونية التي كان الموظفون المغادرون لمقر البنك في الصباح يحملونها، قلت لنفسي: "ربما".