د عشر سنوات من الثبات على الموقف، فاجأت الحكومة الصينية الدوائر الاقتصادية العالمية بالاعلان عن فك الارتباط بين اليوان (رينمينبي) وبين الدولار الأمريكي وربطه عوضا عن ذلك بسلة العملات الأجنبية الرئيسية الأخرى التي تشكل دولها أهم شركاء الصين التجاريين.
فى خطوة تم بموجبها تعديل سعر الصرف من 8.27 يوان الى 8.11 يوان مقابل الدولار على أن يعلن بنك الشعب الصيني (البنك المركزي) سعر الصرف مقابل العملات الأجنبية الرئيسية في ختام تعاملات السوق اليومية واتخاذ هذا السعر كأساس لتعاملات اليوم التالي. ووفقا للقرار الذي تم الاعلان عنه يوم الخميس الماضي وسرى تنفيذه اعتبارا من اليوم ذاته، فقد تم تعويم سعر اليوان أمام الدولار في سوق النقد الأجنبي، فيما بين البنوك في نطاق .03 بالمائة، بينما تم تعويم اليوان أمام العملات الأجنبية الرئيسية فى نطاق 1.5%. كما تم رفع أسعار الفائدة على الودائع بالدولار الأمريكي الى 1.6 بالمائة وعلى الودائع بدولار هونج كونج الى 1.5 بالمائة تماشيا مع قرار الحكومة المحلية لمنطقة هونج كونج الادارية الخاصة بالابقاء على نظام ربط عملتها بالدولار الأمريكي، مشددة على أن ذلك الربط أسهم في تعزيز الاستقرار الاقتصادى للمنطقة على مدار الأعوام الـ21 الماضية. وخلافا لكل الحجج والذرائع التي سيقت على مدار السنوات العشرة الماضية في معرض تبرير الحفاظ على سعر اليوان ثابت والتهديدات التى أطلقت من مغبة تداعيات تعويم اليوان على منظومة الاقتصاد العالمى بأسرها الى حد انهيارها، وصفت الحكومة المركزية الصينية هذا التحرك بأنه يسهم فى بناء آلية سعر صرف لليوان الصيني أكثر مرونه ترتكز على قوى العرض والطلب في السوق وقادرة على تعديل نطاق التعويم في الأوقات المناسبه بما يتماشى مع الأوضاع الاقتصادية المالية العالمية وبما يحافظ على سعر صرف مستقر عند مستوى قابل للتكيف وبما يفضي الى حماية الاقتصاد الوطني والاستقرار المالي وتعزيز التوازن في ميزان المدفوعات وإعادة هيكلة وتحسين القطاعات الصناعية ودفع مسيرة الاصلاح الداخلى والانفتاح الخارجي. واللافت للانتباه أن يأتي قرار الحكومة الصينية بعد أيام قليلة من نفي البنك المركزي القاطع لشائعات ترددت بقوة في الآونة الأخيرة بشأن تعويم سعر صرف العملة الوطنية واصفا تلك الشائعات بأنها مغرضة وعارية عن الصحة ومتهما جهات أجنبية بالترويج لها بهدف زعزعة استقرار المنظومة المالية والاقتصادية للبلاد. كما يأتي القرار، على الرغم من التحذيرات التى أطلقها خبراء اقتصاد محليون وأجانب من مغبة تعويم دولة ما لعملتها النقدية طالما كانت غير قابلة للتحويل مثل اليوان، لما لذلك من تداعيات مدمرة على مسيرة التنمية الاقتصادية لهذه الدولة، وهو مايضع الكثير من علامات الاستفهام حول دوافع وأهداف ومبررات وتوقيت القرار الصيني وسط تكهنات واسعة النطاق تجمع على أن القرار الصيني مجرد خطوة أولى ستتبعها بخطوات أخرى على مراحل تدريجية وصولا بسعر الصرف عند مستوى يعكس قيمته الفعلية (5 يوان للدولار) وهي التكهنات التي سارعت الصين، بنفيها بقوة مشددة على أنها لن تتخذ المزيد من الخطوات في هذا الصدد خلال المستقبل المنظور الذي حددته بعامين على أقل تقدير. إن حجم الضغوط الرهيبة التى تعرضت لها الصين منذ فترة ليست بالقصيرة لرفع قيمة عملتها الوطنية ليست بخافية على أحد، حيث مارستها علانية أطراف خارجية عديدة في مقدمتها الولايات المتحده الأمريكية والاتحاد الأوروبي واليابان (شركاء الصين الرئيسيين) والذين رفعوا مؤخرا من مستوى ضغوطهم الى حد التهديد بفرض عقوبات تجارية ضد بكين مالم تستجب قبل نهاية العام الحالي. ولعل هذا الموقف يفسر بجلاء مسارعة رؤساء حكومات العديد من الدول ووزراء المالية ومديري المؤسسات المالية العالمية بالترحيب والاشادة بالقرار الصيني، فى مقدمتها مجموعة دول الثماني ومحافظ البنك المركزي الأوروبي والمتحدث باسم صندوق النقد الدولي ورئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي واليابان وسنغافورة واندونيسيا وماليزيا والبرازيل، جميعهم أكدوا أن القرار الصيني يصب في مصلحة الاقتصاد العالمي ويساهم فى تعزيز استقرار أسواق المال العالمية فيما سيقضي على ظاهرة اغراق الأسواق العالمية بالمنتجات الصينية رخيصة الثمن ومن ثم تقليص عدد قضايا مكافحة الاغراق المرفوعه ضدها، والتي تعتبر الصين المتهم الأول في جميع هذه القضايا، كما سيساعد في تصويب الخلل الرهيب في ميزانها التجاري مع شركائها الرئيسيين والذي يميل لصالحها بفوارق تتخطى سقف المائة مليار دولار أمريكى فى بعض الحالات. وقد شهدت أسواق المال العالمية ردود فعل سريعه وقوية متأثرة بإصلاح آلية سعر صرف العملة الصينية، حيث انخفض الدولار الأمريكى أمام الين الياباني ليصبح 110.75 بدلا من 112.91 وأمام اليورو الأوروبي، ليصبح 1.213 بدلا من 1.219، كما انخفض أمام عدد من العملات الرئيسية الأخرى كالجنيه الاسترلينى والفرنك السويسري والدولار الكندي. كذلك انخفضت سندات الخزانة الأمريكية وسط توقعات بانخفاض حجم مشتروات الصين من هذه السندات، علما بأن الصين تعد ثاني أكبر حامل أجنبى لسندات الخزانة الأمريكية بقيمة تجاوزت في نهاية مايو الماضي 243 مليار دولار أجنبي ومع توقع خبراء الاقتصاد لردود الفعل تلك لكنهم أجمعوا على أن أثرها على سعر صرف الدولار الأمريكي سيكون محدودا على المدى البعيد، ذلك أن حجم الاحتياطي العالمي من الدولار والأصول المقومة به مثل السندات يشكل أكثر من 60 بالمائة من الحجم الاجمالي العالمي فضلا عن أن تحديد سعر الدولار فى الأسواق العالمية يبقى مرهونا بعوامل كثيرة من مثل تعديل حجم الاحتياطي العالمي بالدولار لصالح العملات الأخرى وكمية الطلب على الدولار وعلى الأصول المقومة به ونسبة الفائدة ومجمل السياسات النقدية الأمريكية ومعدل النمو الاقتصاد الأمريكي ونسبة البطالة ومؤشر الاستهلاك صعودا وهبوطا، ووضع ميزان المدفوعات الأمريكي وقيمة العجز في الموازنة الفيدرالية وهو ما يعني بالمجمل أن فك ارتباط عملات الدول بالدولار الأمريكى لايؤثر سلبا بالضرورة على قيمته. على الصعيد الصيني يتفق الخبراء على أن أثر رفع سعر صرف الرينمينبى سيقتصر على الأشهر القليله القادمة قبل أن تتمكن كافة القطاعات الصينية من استيعابه وئمتصاص تداعياته بحيث لن تطرأ تغييرات دراماتيكية جذرية على الأرقام المعلنه ضمن الخريطة الاقتصادية الوطنية (9.5 بالمائة معدل النمو الاقتصادي في نهاية النصف الأول من العام الحالي 812.3 مليار دولار أمريكي حجم الناتج المحلي في نهاية النصف الأول من العام الحالي 1154.74 مليار دولار حجم التجارة الخارجية فى نهاية العام الماضى بزيادة 35.7 بالمائة قياسا بالعام الأسبق (31.89 مليار دولار قيمة الفائض في الميزان التجارى في نهاية العام الماضي بزيادة 25.6 بالمائة قياسا بالعام الأسبق) هذه الأرقام ستتحرك بمعدلات لاتزيد عن كسور الأعشار بحسب إجماع الخبراء. وبين ما قيل بالأمس سلبا ومايقال اليوم إيجابا، تصبح الحقيقة الوحيدة المؤكدة هي أن الصين خطت أولى خطواتها باتجاه تلبية سلسلة طويله من مطالب صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية وشركائها الرئيسيين كتحرير الحساب الجارى وتحرير حساب رأس المال بما يسمح بالتدفقات الرأسمالية، بكل مايعنيه ذلك من الابتعاد قسرا عن الطريق الذى سبق وئختارته طواعية وأسمته الاقتصاد الاشتراكي ذي الخصائص الصينية الخالصة والسير على طريق آخر شاق ومحفوف بالمخاطر ومغاير، أو بالأحرى معاكس كليا. فيما لم يعد أمام الصين ثمة خيار أخر سوى المضى فيه قدما الى الأمام حتى النهاية.



المصدر جريدة اخبار الخليج


مع تحيات فريق اخبار المتداول العربي