للإستزادة




أبو تريكة وغزة.. هدف في مرمى السلبية
أمير سعيد 18/1/1429
[email protected]

دائماً ما يروعني تسلل شعور إلى شباب متدين وربما دعاة مسلمين بأن دعوتهم إلى الله هي جهد وظيفي رتيب يأخذ من أوقاتهم حظاً محدوداً وإن طالت مدته، ثم ينصرفون إلى حياتهم العادية دون شعور بثقلة الواجب وضرورة التفاعل كل الوقت وبكل بقعة تطؤها أقدامهم مع هذا الدين وشرائعه وشعائره.
إن الدعوة والتربية والتوجيه تموت وتتلاشى وتضمحل حين تكون عملاً وظيفياً أو "دواماً" يلقى في روع المتدين أنه ذاهب إليه في المكان والزمان المحدد سلفاً للدعوة والتربية!!
تسمع من تقول "لا أريد أن يطغى عملي على دعوتي" أو "لا أريد أن أصير كبقية الناس أسعى للقمة العيش فإذا ما جن الليل عدت إلى فراشي" وربما استحضر البعض صورة استقاها من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله يبغض كل جعظري جواظ سخاب بالأسواق حمار بالنهار جيفة بالليل " صحيح الجامع (2759 (؛ فظن أن عمله بالنهار أو دراسته هي جزء مجتزأ من حياته الدعوية، ثم ترتب على ذلك ما هو أفظع وأكثر جرماً.. أن تتسع الهوة بين ممارساته في العمل عن تلك التي تتجلى خارجه في "الحيز الدعوي"!!
فبطبيعة الحال، ليس للدعوة لباس محدد ولا لها مكان مخصوص، وإن دفعها لأن تكون "دواماً وظيفياً" - يبدأ من ساعة وينتهي إلى ساعة - , هو قاتل لها ومفضي إلى انزوائها، ثم هو قادح في إخلاصها وتفانيها، وأيضاً هو نوع من الانفصام الشخصي بين حال وأخرى، لم يعرفه تاريخ الدعوات الإسلامية والدعاة المسلمين على مر الأزمان.

والحاصل أنه عندما تصير الدعوة عملاً منبتاً عن بقية حياة المسلم، تصبح جسداً بلا روح، وفعلاً بلا فاعلية، وهدرا للأوقات والجهود، لأنها ستكون حينئذ نوعاً من التجمل الشكلي والصوتي والأدائي، كبوق أجوف يخلو إلا من هواء، أنّى لمثله أن يصيب من القلوب صدقاً وإخلاصاً وتضحية، وفي الأمر ملاحظتان بالغتا الأهمية:

الأولى: تتعلق بالنوايا والضمائر، وهي أن الدعوة لا يمكن تصنعها أو بالأحرى لا يمكن أن تثمر شيئاً وهي صورة تجملية يتبدى بها المسلم أمام الآخرين توهماً منه أنه بهذا يدعوهم ويربيهم ويوجههم ويحسن إليهم، ثم هو في داخله وفي محيطه الذي لا يستهدفه ـ للأسف ـ بإصلاحه يصنع حياته على نحو مغاير تماماً.
والثانية: تتعلق بظرفي الزمان والمكان، إذ الدعوة لا تعرف هذا ولا ذاك، فحين يغوص المرء في مشاغله اليومية وممارساته الحياتية لابد وأن يعي أن هذا مجال تحركه لذاته أولا ثم للآخرين، تصديقاً لقول الله سبحانه وتعالى "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين "؛ فالحياة كلها لله، فلا كهنوت ولا كنسية في الطريق إلى الله سواء على الصعيد الشخصي الداخلي أو في المعاملات والأخلاق والآداب.

وكلا الأمرين إذا انخدش صارت البوصلة على غير الجادة وتراجع عمله هو وتبدد جهده لأنه في الحقيقة قد يخادع بممارسته الآخرين، لكن الله خادعه.
وما تقدم من حديث استدعاه مشهد هز مشاعر وأركان الآلاف ـ بل ربما الملايين ـ من المسلمين الذين شاهدوا اللاعب المصري محمد أبو تريكة وهو يرفع قميصه أمس ليكشف عن آخر كتب عليه عبارات التضامن مع أهل غزة المحصورين في محنتهم (باللغتين العربية والانجليزية) فور إحرازه هدفاً في مرمى الفريق المنافس، ما استدعى إنذاره من حكم المباراة.

إن كثير من الأمثلة قد كان يصلح للاستشهاد به هنا، خروجاً من جدلية اللعب وجدوى الفعل وما إلى ذلك، غير أن ما نود قوله بالأساس هو أن اللاعب قد أعطى لكثيرين من المشاهدين درساً سواء أتعمد ذلك أم لم يفعل.. إنه وهو يستقطب عيون مشاهديه، يقول للناس إن كلا منا يمكنه أن يصنع شيئاً لهذا الدين سواء لذاته أو للآخرين، وإن أي ميدان يمكن أن يرفع فيه لله كلمة به ينبغي أن ترفع، ولو كانت في حيز قد لا يظنه الناس هدفاً للدعاة والمصلحين؛ فحمل مسؤولية هذا الدين ليست حكراً على من نمق ملبسه وتعطر وتسمى باسم "داعية"، وإنما هو شأن كل مسلم يعي أن الإسلام لا يتبعض ولا يتجزأ، وأن محاولات تسكينه في المساجد وحدها أو في بقع بعينها هي جهد سلبي لا يؤدي إلا إلى توسيع الهوة بين النظرية والتطبيق، والقناعة والممارسة، والإيمان والعمل.

ولكم حرك هذا المشهد المشاعر التواقة إلى نصرة أهل غزة، ولامس قلوباً كانت في لحظة لهو وانصراف عن غزة وعن مأساتها؛ فأعاد التذكير بقضيتها، وتحمل جراء ذلك أي جزاء لقاء تعاطفه مع المسلمين في غزة، فالعقوبات التي قد تنتظره فادحة وهو يدرك مغبتها ولم يبالِ، أوليس في ذلك ما يجسد لحظة صدق مع النفس لا تعرف في أي مكان كانت أو في أي لحظة هبت فيها المشاعر؟! إن الرجل يدرك ـ وهو الذي رفع من قبل شعاراً يقول "نحن فداك يا رسول الله" ـ أن ما فعله قد يجلب عليه العقوبة، لكنه كان حريصاً على نصرة إخوانه المحاصرين ولو في هذا الموطن الذي قد يخالفه عليه من يخالفه، وهو أراد أن يفعل، وخرج من بيته عامداً أن يفعل ما فعل؛ فوفقه الله جزاء نيته ـ التي نحسبها صالحة ولا نزكيه على الله تعالى ـ أن يسر له "السيناريو" الذي يريد.
إن النماذج كثيرة، لكننا أردنا فقط أن نلتقط صورة تذكرنا بأن واجبنا تجاه ذواتنا والآخرين ليس عملاً منفصلاً عن واقع حياتنا نصرفه في فضول أوقاتنا ولا يغمر لحظات الحياة ودقائقها ـ كل الحياة ـ، وليس حكراً على فئة تقوم بما لا يقوم به غيرها سواء أكانت مخلصة أم غير ذلك.
إننا حين نتذكر تاريخنا العظيم، ننبهر برؤية الجموع تدخل في عز هذا الدين بسبب التجار المسلمين، لا الدعاة المبتعثين بشكل وظيفي.. إن أربعة أخماس جدودنا المسلمين دخلوا هذا الدين عن طريق هؤلاء الدعاة الذين كانوا خير سفراء لخير دين؛ فدخل الناس في دين الله أفواجاً.. إنهم لم يصرخوا في آذان الناس بأنهم دعاة.. لم يتصنعوا لهم القدوة ولم يرجوا منهم نوالاً ولم يرفعوا أنوفهم متعالين على الناس، أو يمنوا عليهم بما أفاء الله به عليهم من دين ومن علم، بل تركوا أنفسهم للناس.. تعاملوا على سجيتهم الطاهرة.. وبسجيتهم الطاهرة تلك دخل الناس في الدين ولم يغادروه.