النتائج 1 إلى 2 من 2
  1. #1
    الصورة الرمزية داي ترايدر
    داي ترايدر غير متواجد حالياً عضو نشيط
    تاريخ التسجيل
    Jan 2006
    الإقامة
    هولندا
    المشاركات
    7,524

    افتراضي


    وحدة القلوب ( لمسات إيمانية بمطار زيورخ الدولي )


    بدأ هذا اليوم الساعة الخامسة صباحا بعد صلاة الفجر وأنا أحاول أن أنجز حاجياتي وأولوياتي في صراع مع الوقت الذي لا يكاد يكفي لإنجاز شيء من الأشياء قبل السفر لمهمة علمية وبعثة دعوية لسويسرا، ولم يكن ضيق الوقت وحده هو العائق أمامي؛ بل ترافقه مجموعة من الأمور الأخرى مثل التعب الشديد والإجهاد المتواصل، وعدم النوم إلا سويعات قليلة قبل سفري.

    أخذت مفكرتي الخاصة التي دونت عليها مجموعة من الأشياء التي يجب عليّ القيام بها قبل السفر، ولم أتمكن من القيام بها لضيق الوقت وطبيعة العمل التي لا تجعل لنا في عالم البشر وقتا نفكر فيه مع أنفسنا سوى ما يمكن إنجازه في الوقت الحاضر في التو واللحظة، وكأن الإنسان في هذه الحياة ليس من حقه التفكير في الماضي أو المستقبل.

    أمسكت قلمي لأشطب على كل عمل أنجزته بالفعل، لكن سرعان ما أضيف إليها أشياء أخرى أكثر مما شطبت، وكأني لم أقم بشيء!!

    بدأ العد التنازلي

    بدأ العد التنازلي للحظات الوداع التي لا أحبها ولا أقدر عليها.. لذا حاولت جاهدا أن أسرع بإنجاز حاجياتي حتى لا تطول عليّ هذه اللحظات؛ لذا بدأت أنظر في الساعة كل فترة حتى أختفي عن الأنظار هروبا من لحظات الوداع، لقد وجدت عددا كبيرا يريد أن يودعني قبيل سفري رغم أنني لم أقل لأحد إلا القليل!!

    لم أكن أتصور أن أكون ضعيفا إلى هذا الحد الذي جعلني أردد في نفسي قول الله تعالى: {فتمنوا الموت إن كنتم صادقين}.
    قلت لنفسي: أنا أضعف من أن أتمنى الموت الذي لا أستعد له؛ بل أنا أضعف من أن أقدر على لحظات الوداع التي ربما تكون الأخيرة للأهل والأحباب والأصحاب، وربما لا تكون الأخيرة، فكيف أقدر على لحظات الموت الحقيقي؟ وهل يمكن أن أصل بنفسي لمرحلة تتعدى ما فات وأتمنى الموت؟ كم شعرت بضعف ما بعده ضعف، فلقد فشلت في ثلاث:

    أمام الوداع الذي ربما يكون الأخير.
    2. وأمام أن أكون جاهزا للموت.
    3. وأمام تمني الموت نفسه.. وهو ما حدا بي أن أسأل نفسي: من أكون إذا كنت قد فشلت في كل هذا؟! هربت من مواجهة نفسي بالحقيقة لكن عزمت على التوبة خشية الموت، لكنني في النهاية تمنيت ألا أموت، ووعدت الله أن لا أعود إلى تقصيري إن حفظني من الموت!! وكم تمنيت أن أكون مخلصا هذه المرة حتى لا تتكرر المرات ويأتي وعد الله قبل أن أنفذ أنا وعدي!!.

    بدأت أرتحل وأترك كل من عرفت لتنتهي لحظات الوداع الصعبة لتبدأ لحظات أصعب بين السماء والأرض من مطار القاهرة/ براغ/ زيورخ لتبدأ رحلة نفسية خاصة لا تعدو إلا أن تكون خوفا من الموت، إضافة لمجموعة من الكوابيس أثناء اليقظة تدور حول سيناريو طريقة الموت التي تنحصر في كيفية وقوع الطائرة وكيف سأكون؟ لكن من منا أكبر من أن يخاف الموت؟!

    هبطت الطائرة بسلامة الله إلى أرض مطار براغ بعد 4 ساعات ونصف من الإقلاع، وكان عليّ الانتظار فترة طويلة لظروف مواعيد الطيران في مطار براغ لأكون على متن الرحلة الثانية من براغ/ زيورخ، وبرغم التعب الشديد والانتظار بمطار براغ فإن النظام والدقة والنظافة تجعلك لا تشعر كثيرا بالتعب الحقيقي.

    أراد الله ثانية أن تهبط الطائرة بسلام بمطار زيورخ ليكتمل عدد ساعات الطيران إلى 6 ساعات ونصف، أما الانتظار فكان 8 ساعات في القاهرة وبراغ لتصل عدد ساعات الطيران والانتظار إلى 15 ساعة دون نوم، وكم تمنيت أن أكسر القاعدة وأنام للمرة الأولى في حياتي أثناء السفر لكن دون جدوى!.

    حدث ما لم أتوقعه!!

    في مطار زيورخ كان المفترض أن ينتظرني مجموعة من الأحباب إضافة لمسئولي المركز الإسلامي بـ"لوجانو" بجنوب سويسرا لنقوم بعدها بالانتقال من المطار إلى لوجانو بالسيارة لمسافة 400 كيلو تقريبا حيث المركز الرئيسي الذي ستكون فيه المحاضرات والندوات والنشاط، لكنني لم أجد أحدا ينتظرني!! بالطبع لم أتوقع هذا للحظة؛ لأنه لم يحدث من قبل في مرات السفر السابقة، كما أنني أعلم تماما مدى حرصهم على انتظاري.
    عموما انتظرت كثيرا دون قلق؛ لأنهم أبلغوني قبيل سفري بألا أقلق إذا تأخروا عليّ قليلاً بسبب المطر أو الثلوج، لذا لم ينتابني القلق إلا عليهم فقط.

    بدأ الوقت يمر ويمر، وتأتي الرحلة تلو الرحلة بمطار زيورخ الدولي الذي تأتيه الرحلات من كل أنحاء العالم؛ حيث لا تمر فيه دقائق معدودة دون أن ترى فيه هبوطا أو إقلاعا لطائرة، وأنا بدوري أتلمس وجوه المستقبلين والمودعين وشتان بينهما! فما أصعب أن تختلط الدموع بالأمل للمسافر مع من يودعونه، وما أجمل أن تختلط الفرحة بالدموع من شدة الفرح للعائد مع من يستقبلونه، لكن ما أصعب المشاهد التي لا تقل أبدا عن مشهد ورحلة الحياة التي ترى فيها أن هذا قد بدأت رحلته وأن هذا قد انتهت رحلته!!.
    لقد طالت المشاهد وطال الانتظار حتى وصل إلى أربع ساعات في انتظار حضور مسئولي المركز الذين لم يحضروا بعد، وهو ما جعلني أبحث عن مفكرة التليفونات لأتصل بهم قطعا للقلق والانتظار، لكنني اكتشفت أنني نسيت المفكرة بالقاهرة!! وبحثت عنها بين طيات الحقائب التي افترشتها في ركن المطار دون جدوى؛ وهو ما اضطرني إلى أن أقلب ذاكرتي الضعيفة فربما أتذكر الرقم! وفعلا وفقني الله بعد طول تفكير في تذكر رقم ربما يكون هو!.

    في نفس اللحظة!

    في نفس اللحظة التي انتابني فيها القلق بدأت أنظر في الوجوه التي حولي فوجدتها جميعها من الأجانب من جميع الجنسيات ولم أجدا أحدا من العرب أو المسلمين، غير أن نظري وقع على واحد ينظر إلي في نفس اللحظة التي نظرت إليه فيها! وكأننا اتفقنا على لحظة ما دون اتفاق؛ وهو ما حدا بي أن أركز النظر نحوه دون كل الناس من حولي لأترقب بعدها هل أبتسم له أم لا؟ لكن في نفس اللحظة أزال عني غبار الحيرة ليبدأ هو بابتسامة عذبة حلوة لا أنكر أنها أنستني جزءا كبيرا من شعوري بالوحدة والقلق النسبي. وقد بادرني بعد الابتسامة وبلغة مجزأة الأوصال بجملة السلام عليك ورحمة الله التي افتقدتها ساعات وكأنها أيام، فبادرته بابتسامة عميقة لأرد عليه السلام بلغة أوضح من لغته.. بعدها تركنا بعضنا؛ فكلانا على ما يبدو يبحث عن شيء ينتظره، فهو يتلفت وأنا أتلفت وهو ينتظر وأنا أنتظر حتى مرت علينا رحلات وبشر كانوا ينتظرون ويودعون، وبقينا وحدنا مع مجموعة قليلة، وكل فترة تأتي رحلة فتملأ ساحة الانتظار مرة أخرى، لكن في كل الأحوال كانت الساحة رائعة ولا تقل روعة عن كل أجزاء المطار.

    أصبح كلانا يتحرك في كل جوانب الساحة ليعثر على من ينتظره، لذا أخذ القلق منا حظا ونصيبا، وترتب على ذلك أن تقابلنا أكثر من مرة وجها لوجه في نفس المكان، ولكل مرة ابتسامة تعبر عن شيء ما لكن دون كلام حتى الآن.
    في المرة الرابعة التي تقابلنا فيها وجها لوجه سألني برقة وعذوبة وبلغة تبدو تركية لا أفهمها ومن ثم لا أستطع أن أجيبه، فأشرت إليه بعدم استطاعتي فهم اللغة التركية، ثم سألني بأكثر من لغة إلا الإنجليزية أو العربية، فقلت له: يمكنني التحدث معك بالعربية أو بقليل من الإنجليزية أو الإيطالية التي يمكن أن أفهمها، لكن يبدو أنني تأكدت أنه لا يعرف من العربية إلا السلام فقط! في نفس اللحظة نادى هو بنفسه على تركي كان يرافقه وكان يجيد العربية ليقوم بالترجمة بيننا، ثم سألني من خلال المترجم: هل تنتظر أحدا؟ فقلت له: نعم أنتظر مسئولا من المركز الإسلامي بـ"لوجانو"، فقال لي: مرحبا أخي، حمدا لله على السلامة، ثم قال لي: الأخ مسلم طبعا؟!! فقلت له: نعم الحمد لله، فأصر بعدها على احتضاني وكأنه يعرفني جيدا، ثم بادرني بقوله: هل سينتظرك هذا المسئول؟ قلت له: المفترض أنهم في انتظاري، فقال لي: ثوان ونعود إليك.

    كنت أخشى أن ينسى أنني أنتظره لذا كنت أنظر إليه كل فترة لكنني وجدته أحرص مني على ذلك؛ حيث آثرت أن أبتعد قليلا لأقف في مكان هادئ بعيدا عن حركة السفر والناس، فوجدته يشير إلي ألا أبتعد عنه، وغريبة تلك الابتسامة التي لم تفارقه لحظة!.
    دقائق معدودة فعلاً، ثم عاد إلي متفرغا تماما مع مرافقه ليقول لي: معك أخي، وأعتذر عن التأخير، ثم بادرني: هل معك رقم تليفون من تنتظره؟ فقلت له: لا أتذكر، لكن سأحاول. قال لي: أعطني الرقم، فحاولنا طلب الرقم أكثر من مرة لترد علينا امرأة سويسرية، وبعدها مرات دون جدوى لنتأكد بعدها أن الرقم خطأ، فحاولت التخمين أكثر من 4 مرات و4 محاولات خطأ حتى فتح الله علي وتذكرت الرقم الصحيح ليرد أخيرا مسئول المركز الإسلامي عليه، وبعد أن سلم عليه وتأكد أنه المسئول ترك لي تليفونه الخاص في أدب جم وذهب بعيدا حتى أستكمل المكالمة مع المسئول على راحتي، لكن كان على مسافة تسمح له بالمتابعة إن احتجت إليه!.

    بادرني مسئول المركز دون سلام أو كلام غير رد السلام: "مش معقول أنت فين؟!!" فقلت له: بالمطار، قال: واضح من الرقم أنك بزيورخ؟ فقلت له: نعم، فقال لي: مستحيل، فقلت له: لماذا؟ قال لي: لأني أُبْلغت أنك ستحضر غدا وليس اليوم!! فقلت له: بل أبلغتكم بالوصول اليوم، فذهل لأنه كان ينتظرني بعد يوم، المهم عرف أنني بالانتظار من 4 ساعات، فأحسست بوقع الألم عليه لحدوث هذا اللبس غير المتوقع؛ وهو ما جعلني أطمئنه بأن الله أراد خيرا لأخفف عنه وطأة الأمر، لكن لم يكترث لكلامي وقال لي: حالاً سأحضر لك إن شاء الله، فبادرته بأن هذا غير معقول لأن بيني وبينك 400 كيلو. ومعنى ذلك أنني سأنتظره 4 ساعات أخرى إضافية لساعات سفري معه للوصول للوجانو؛ أي 8 ساعات إضافية لانتظاري لتصبح المدة 12 ساعة، لتكون محصلة ساعات السفر والانتظار كلها 27 ساعة!! لذا قلت له: لا، سأحضر أنا بنفسي إن شاء الله، ويمكنني أخذ القطار من زيورخ للوجانو اختصارا للوقت، فقال: من سيوصلك لمحطة السكك الحديدية؟ فقلت له: الأخ الموجود معي الذي أتكلم من تليفونه الخاص، فقال لي: هل من الممكن أن أكلمه؟ وظل يكلمه عن طريق المترجم، وبدا لي أنه يؤكد لمسئول المركز أنه لن يتركني أبدا، وطمأنه بألا يقلق علي.
    عندها تمنيت ألا أشعر بأنني عبء عليه، لكن ابتسامته العذبة وترحابه الجميل جعلني أنسى هذا الإحساس، وقد اصطحبني بطريقة خاصة؛ حيث بادر بأخذ العجلة التي تحمل حقائبي وحاجياتي بنفسه، وقد حاولت جاهدا أن آخذها من يده دون جدوى ويقسم بالله على ذلك دون مناقشة، ويرفض حتى مجرد أن يساعده مرافقه برغم أنه أكبر منا سنا بكثير؛ حيث يصل عمره 56 عاما تقريبا!!.
    بعدها اصطحبني ثانية بطريقة ما؛ حيث أصر على أن يأخذ يدي تحت إبطيه ويشبك أصابعه في أصابعي لأشعر ببرودة كفه وملاصقة جزء من جسده الحنون.
    جرى مسرعا ليفتح لي باب السيارة الرائعة التي يمتلكها دون أن يترك لي فرصة لأفتحها بنفسي، وظل واقفا حتى دخلت وركبت مع مرافقه.
    تحرك بالسيارة بوتيرة هادئة حكيمة لا تقل عن هدوئه وحكمته، إضافة لوجهه النوراني الذي يتلألأ منه نور الحب العجيب والذكاء الواضح.


    لفت نظري!

    ما أعرفه أن المسافة بين المطار ومحطة القطار ليست كبيرة، فما الذي جعله يقطع 70 كيلو مترا بالسيارة ولم نصل بعد!! لقد جعلني أستغرب جدا وأسأل نفسي إلى أين هو ذاهب بالفعل؟! لكنني لم أسأله استحياء إلا بعد أن قطعنا 100 كيلو متر تقريبا، وترجم مرافقه سؤالي له، فابتسم وقال لي من خلاله: لا تقلق، فقلت له: لست قلقا فقط أسأل، فقال: مشوار صغير ونذهب سويا إلى محطة القطار، فعلمت أن هذا ليس طريق محطة القطار ولا يبدو لي ذلك، فظننت على الفور أنه ربما سيوصلني بالسيارة إلى لوجانو بدلا من رحلة القطار، فارتعدت لذلك لأن هذا يشكل تعبا كبيرا عليه مع كبر سنه نسبيا، فأقسمت على المترجم بأن يبلغه أن لا يفعل ذلك، فأخبرني المترجم بأن لا أقلق، وأصر على ذلك؛ بل لم يترك لي فرصة لأي نوع من الكلام. لذا فضلت أن أعاود النظر لأجمل وأروع ما رأيت على جانبي طريق زيورخ نيوشاتل؛ حيث الأشجار والورود ورائحة الفل والياسمين تتعانق مع رائحة التربة الممتزجة بالماء، كذلك أصوات الرياح وهى تصفر وتداعب المياه الموجودة من مصبات جبال الثلج التي تلمع في ضوء الشمس؛ حيث اجتمعت الشمس مع الثلوج في منظر لا يتكرر كثيرا لينزل الماء من قمم الجبال لتملأ الجداول والبحيرات حتى تهب أعذب وأجمل المعاني لبني البشر عبر مسطحات خضراء تمنح من يستمتع بها حسا وجمالاً ومحبة مفعمة بالأمل وحب الحياة، ومن قبل ذلك إيمانا بالخالق المبدع الذي لا يترك لك فرصة سوى أن تخر ساجدا بقلبك ووجدانك وروحك حتى وإن لم تسجد بجسدك.


    وأخيرا!!

    أخيرا، وبعد 100 كيلو متر تقريبا وجدته يدخل بسيارته طريقا ضيقا مرصوفا بين عمارتين لا يعبِّر بالمرة عن كونه طريقا لمحطة قطار، ولكن المؤكد أنه طريق لسكن؛ حيث يقع "جراج" بنهاية الممر لتقف السيارة في مكانها بعيدا عن الطريق الرئيسي بجانب بيت يزخر مدخله بالزهور والورود المتناثرة الأخاذة لأعلم بعدها أنه بيته الجميل، فعلمت عندها أن مدخل البيت لا يفرق كثيرا عن قلوب أصحاب البيت.


    سلام الله عليكم أهل البيت

    حدث ما حدث، وما كان لي حق الاعتراض؛ حيث أحضرني في بيته دون علمي ورغما عني ليفتح لي باب البيت الجميل الذي شعرت والله بحنو كل ركن فيه كصاحبه؛ حيث زال نصف تعبي بمجرد دخولي فيه، وشدتني رائحة العطر الهادئ الممزوج بروح الإيمان وترحاب أهل البيت؛ حيث خرجت عليّ أمٌّ حنون ترحب بي بأمومة منقطعة النظير وبابتسامة لا تشعر معها إلا بأنك جزء من هذا البيت الذي ما لبثت أن ارتحت فيه دقائق معدودة حتى أدخلوني لغرفة الطعام، فوجدت أنواعا من الطعام تفوق 14 نوعا من الطعام والشراب والفاكهة والعصائر، وأخيرا كوب الشاي الذي تمنيته بعد صداع وتعب وجوع، ما حبسني عنه إلا القلق في أثناء فترة السفر.
    لقد كان الرجل يناولني اللقمة تلو اللقمة على أن أرفق كل لقمة برشفة عصير أو مياه غازية دون سكر، وهي طبيعة أهل سويسرا والمقيمين عامة، وكان يصر بعد كل فترة أن يضع الطعام بنفسه في فمي وأنا ألامس كلتي يديه الحانية التي كانت تشعرني بهدوء نفسي منقطع النظير عندما ألامسها!.
    بعدها بقليل توقف عن الطعام ليتفرغ فقط لإطعامي، فيجهز لي اللقمة تلو اللقمة حتى أحسست بتصميم أن لا أكمل طعامي حتى يأكل معي، فبادر معي بلقيمات لمجرد المشاركة لكنْ كلتا عينيه عليَّ ليحقق لي ما أريده قبل أن تمتد يدي إلى أي نوع من الطعام حتى شبعت ولم أعد أقوى على تناول لقيمات أخرى، لكن ما إن شعر بذلك حتى تودد إلي وطلب مني أن آكل قطعة من اللحم البارد الرائع وهو أكثر ما أحببته، وظل يطلب مني بصورة أقرب للتوسل حتى أخذت منه لقيمات ولقيمات ما تصورت أني أقدر عليها! بعدها بادرني بالمشروبات الباردة قليلا، ثم الساخنة حتى كدت لا أنطق.. لم أجد بعد أن انتهيت من طعامي وشعوري بهذا الكم من الحب إلا أن أرفع صوتي بالدعاء بعد الطعام، فأخذت أدعو الله كثيرا لأهل البيت بقلبي قبل لساني وعيني مثقلة بالدموع وهو مغمض العينين يؤمِّن مع مرافقه، أما زوجته فقد تركت مطبخها لتحضر الدعاء بناء على طلبه وهي تؤمن معهم بلغة عربية مجزأة لكنها أكثر من رائعة؛ لأنهم مصممون على نطق الكلمة بالعربية رغم لغتهم التركية، فتخرج العربية مبللة بالتركية رغم أنف الجميع!.
    بعد كل هذا بدأت ديكتاتورية الرجل الجميلة تنساب خيطا وراء خيط ليبدو الرجل في شكل آخر مختلف عما كان عليه، وكأن لسان حاله يقول لي: بعد أن أكلت وارتحت واطمأننت عليك فكل شيء بعد ذلك قابل للنقاش بعد أن كان النقاش ممنوعا والأسئلة محرمة!!
    بعدها استأذنت على استحياء خوفا من أن يقفل باب الطلب والنقاش مثلما رفض من قبل، لكن ابتسم ابتسامة جميلة تعبر عن موافقته، ثم احتضني حضنا دافئا جميلا، وأبلغني بأنه حزين جدا لأنني سأسافر، لكنه لا يمكن أن يحبسني أكثر من هذا الوقت حتى لا يقلقوا علي هناك وحتى أتابع أعمالي!.
    مرة أخرى صحبته بالسيارة الرائعة، لكن هذه المرة على طريق القطار فعلاً لأكمل بالقطار رحلتي إلى لوجانو؛ حيث عدنا من الطريق الجميل نفسه لنصل للمحطة، ويصر على دفع قيمة التذاكر لي لكن تحت الإلحاح وافق بأن أعطيه قيمة التذاكر، وحمدت الله لأني كنت قد غيرت من العملة المصرية ما يكفي بعملة "اليورو" التي يسري التعامل بها رغم أن العملة الرسمية هي الفرنك.
    جلس معي حتى يأتي القطار المحدد وسط كم من القطارات التي لا يتصور جمالها ولا نظافتها حتى حضر قطار الجنوب السويسري الذي سيتجه إلى "كانتون تتشينو"؛ حيث جاءت لحظات الوداع الثانية، والتي ارتعشت فيها يداي قبل وداعه، ونظرت لوجهه الجميل المتلألئ نورا لأرى دموعا في عينيه قد حانت مع ميعاد القطار، مع وصايا أبوية رائعة أن أحافظ على نفسي، وأن أحرص على تغيير القطار في محطة ما، وأن لا أنساه بالدعاء، وسرعان ما أعطاني مظروفا به شيء وقد ضغط على كلتي يدي حتى أقبله دون رفض، غير أني فتحت المظروف لأجد مجموعة من الفرنكات ربما تكفي أياما بسويسرا، وحتما سأفشل في أي محاولة لأرد له المبلغ، فما كان مني إلا أن أشرت إليه أن يسأل شرطي القطار ليتأكد من خط سير القطار؛ وذلك حتى أتمكن من إرجاع المظروف إليه لكن عبر المرافق الذي معه، ونجحت الخطة بفضل الله حتى انشغلنا في السلام، واختلطت الدموع بلحظة الوداع الثانية!.


    أقسم لك!!

    أقسم لك أيها الرجل أنني أحببتك حبا لو قسم على أهل الأرض لوسعهم!
    وأقسم لك أيها الرجل أنني عرفت لغتك الجميلة دون أن أدرس حروفها أو مفرداتها، لكن ما تصورت أن تكون لغتك جميلة لهذا الحد!
    وأقسم لك أنني ما صدقت بعض الناس الذي يقولون إنني جزء وأنت جزء على أنني مصري وأنت تركي؛ لأنني أعلم أنك أخي!
    وأقسم لك أن أسرتك صارت أسرتي، وحلمك صار حلمي، وكل ما يؤلمك بعد اليوم يؤلمني، وسامحني عن كل تقصير مضى في حقك!
    لقد تعلمت معك لغة الحب الذي افتقدناه، ووعدا سأتعلم مع غيري هذا الحب الذي تعلمته منك؛ لأن من أخفى علما ألجمه الله بلجام من نار، فكيف بمن قصر في العلم والحب معا؟!!
    لن أنسى حبك، ولن أنسى دموعك، كما لن أنساك لأنني سأتحدى بحبك كل أنواع العشق والوله التي تعلمتها في لحظة ما.
    حزنت جدا لأنني نسيت أن آخذ رقمك أو عنوانك الذي أعجز أن أعود إليه بمفردي، وحزنت أكثر لأني وجدت أن مسئول المركز الذي كلمته على تليفونك الخاص لم يحتفظ برقمك، لكن حتما سأراك؛ لأن الله لن يفرق بين حبيبين اجتمعا عليه، وإن عجزت عن لقياك في الدنيا فحسبي أنك من أهل الجنة، فأدعو الله أن أكون معك في ظله يوم لا ظل إلا ظله، لكن حتما سألقاك بإذنه تعالى ما دمت أحمل معي اليقين في الله.


    سامحهم الله جميعا!!!

    سامح الله المثقفين والإعلاميين والمربين الذين غرسوا فينا أن الحب فقط للنساء عشقا وولها حتى صرنا كلما ذكر الحب تذكرنا المرأة فحسب!!
    وسامح الله آباء وأمهات علمونا أن نحب إخواننا في الأسرة فقط دون غيرهم، وأن كل من سوانا يعتبر غريبا!!
    وسامح الله بعض الدعاة الذين أفهمونا أن الصحابة ماتوا ولن يعودوا ثانية؛ لأنه لن يوجد مثلهم بعد اليوم!!
    وسامح الله حكاما لم يزرعوا بذور الحب بيننا، ووضعوا الحدود والقيود وغرسوا فينا جذور الخوف والقلق، وأوغلوا صدورنا حتى ضاقت علينا الأرض بما رحبت، وظننا أن لا ملجأ لنا إلا مع غيرنا دون إخواننا!



    منقـــــول

    آخر تعديل بواسطة عباس بن فرناس ، 17-09-2007 الساعة 09:51 PM
    توقيع العضو
    أستغفر الله العظيم
    http://forum.arabictrader.com/t231842.html

  2. #2
    الصورة الرمزية abo_malek_ali
    abo_malek_ali غير متواجد حالياً عضو نشيط
    تاريخ التسجيل
    Sep 2005
    الإقامة
    في ارض الله
    العمر
    42
    المشاركات
    2,301

    افتراضي رد: وحدة القلوب ( لمسات إيمانية بمطار زيورخ الدولي )

    الله ما اجملها من قصه
    باركك الله

المواضيع المتشابهه

  1. هل هناك استراتيجيه نجحت معكم ( لقد نجح معي التصحيح) اليومي
    By الجود in forum طرق و استراتيجيات التداول في أسواق المال
    مشاركات: 112
    آخر مشاركة: 20-11-2010, 10:25 PM
  2. زحام بمطار القاهرة بسبب عودة المعتمرين
    By احلام عمرنا in forum استراحة اعضاء المتداول العربي
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 13-09-2010, 01:30 AM
  3. خواطر إيمانية
    By بيسان in forum استراحة اعضاء المتداول العربي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 02-08-2007, 04:01 AM
  4. تم اغلاق مبنى الركاب رقم 3 بمطار هيثرو
    By m.salah in forum سوق تداول العملات الأجنبية والسلع والنفط والمعادن
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 02-07-2007, 12:20 AM
  5. إطلاق نار بمطار ميامي الأمريكي
    By shark net in forum سوق تداول العملات الأجنبية والسلع والنفط والمعادن
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-12-2005, 01:26 AM

الاوسمة لهذا الموضوع


1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17