بســم الله الـرحمــن الرحيــم
{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ألْقِيامَةِ أَعْمَى} * { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } * { قَالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ ألْيَوْمَ تُنْسَى}
عن ابن عبـاس، قوله: { فإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً } يقول: الشقاء.
عن مـجاهد وقتادة، قوله: { ضَنْكاً } قال: ضيقة.
واختلف أهل التأويـل فـي الـموضع الذي جعل الله لهؤلاء الـمعرضين عن ذكره العيشة الضنك، والـحال التـي جعلهم فـيها، فقال بعضهم: جعل ذلك لهم فـي الآخرة فـي جهنـم، وذلك أنهم جعل طعامهم فـيها الضريع والزقوم. ذكر من قال ذلك:
عن الـحسن، فـي قوله: { فإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً } قال: فـي جهنـم.
قال ابن زيد، فـي قوله: { وَمَنْ أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً } فقرأ حتـى بلغ:{ ولَـمْ يُؤْمِنْ بآياتِ رَبِّهِ }
قال: هؤلاء أهل الكفر. قال: ومعيشة ضنكاً فـي النار شوك من نار وزقوم وغسلـين، والضريع: شوك من نار، ولـيس فـي القبر ولا فـي الدنـيا معيشة، ما الـمعيشة والـحياة إلا فـي الآخرة، وقرأ قول الله عزّ وجلّ:{ يا لَـيْتَنِـي قَدَّمْتُ لِـحَياتِـي }قال: لـمعيشتـي قال: والغسلـين والزقوم: شيء لا يعرفه أهل الدنـيا. عن قتادة { فإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً } قال: فـي النار.
وقال آخرون: بل عنى بذلك: فإن له معيشة فـي الدنـيا حراماً. قال: ووصف الله جلّ وعزّ معيشتهم بـالضنك، لأن الـحرام وإن اتسع فهو ضنك. ذكر من قال ذلك:
عن عكرِمة فـي قوله: { ضَنْكاً } قال: هي الـمعيشة التـي أوسع الله علـيه من الـحرام.
وقال آخرون مـمن قال عنى أن لهؤلاء القوم الـمعيشة الضنك فـي الدنـيا،فتشتدّ لذلك علـيهم معيشتهم وتضيق ،ذكر من قال ذلك:
عن ابن عبـاس، قوله: { وَمَنْ أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً } يقول: كلّ مال أعطيته عبداً من عبـادي قلّ أو كثر، لا يتقـينـي فـيه، لا خير فـيه، وهو الضنك فـي الـمعيشة. ويقال: إن قوماً ضُلاَّلاً أعرضوا عن الـحق وكانوا أولـي سعة من الدنـيا مكثرين، فكانت معيشتهم ضنكا، وذلك أنهم كانوا يرون أن الله عزّ وجلّ لـيس بـمخـلف لهم معايشهم من سوء ظنهم بـالله، والتكذيب به، فإذا كان العبد يكذّب بـالله، ويسيء الظنّ به، اشتدّت علـيه معيشته، فذلك الضنك.
وقال آخرون: بل عنـي بذلك: أن ذلك لهم فـي البرزخ، وهو عذاب القبر. ذكر من قال ذلك
قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك ما قال الله تعالـى ذكره، وهو أنه يحشر أعمى عن الـحجة ورؤية الشيء كما أخبر جلّ ثناؤه، فعمّ ولـم يخصص.
وقوله: { قالَ كَذَلكَ أتَتْكَ آياتنا فَنَسِيتَها } يقول تعالـى ذكره، قال الله حينئذٍ للقائل له: { لِـمَ حَشَرْتَنِـي أعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً }: فعلت ذلك بك، فحشرتك أعمى كما أتتك آياتـي، وهي حججه وأدلته وبـيانه الذي بـيَّنه فـي كتابه، فنسيتها: يقول: فتركتها وأعرضت عنها، ولـم تؤمن بها، ولـم تعمل. وعنى بقوله { كَذَلكَ أتَتْك } هكذا أتتكَ.
وقوله: { وكذلكَ الـيَوْمَ تُنْسَى } يقول: فكما نسيت آياتنا فـي الدنـيا، فتركتها وأعرضت عنها، فكذلك الـيوم ننساك، فنتركك فـي النار
{ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا } والحياة المقطوعة الصلة بالله ورحمته الواسعة، ضنك مهما يكن فيها من سعة ومتاع. إنه ضنك الانقطاع عن الاتصال بالله والاطمئنان إلى حماه. ضنك الحيرة والقلق والشك. ضنك الحرص والحذر: الحرص على ما في اليد والحذر من الفوت. ضنك الجري وراء بارق المطامع والحسرة على كل ما يفوت. وما يشعر القلب بطمأنينة الاستقرار إلا في رحاب الله. وما يحس راحة الثقة إلا وهو مستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها.. إن طمأنينة الإيمان تضاعف الحياة طولاً وعرضاً وعمقاً وسعة، والحرمان منه شقوة لا تعدلها شقوة الفقر والحرمان
ومن أعرض عن هدى الله وطاعته فإنه يحيا حياة لا سعادة فيها، فلا يقنع بما قسم الله، ولا يستسلم إلى قضاء الله وقدره، حتى إذا كان يوم القيامة جاء إلى موقف الحساب مأخوذاً بذنبه، عاجزاً عن الحجة أتى يعتذر بها، كما كان في دنياه أعمى البصيرة عن النظر في آيات الله.
وفى هذا الموقف يسأل ربه في فزع: يا رب كيف أنسيتنى الحُجة، وأعجزتنى عن المعذرة، ووقفتنى كالأعمى؟! وقد كنت في الدنيا أُبصر ما حولى وأجادل وأدافع.
فيقول له ربه: جاءتك دلائلنا ورسلنا في الدنيا فنسيتها، وتعاميت عنها، ولم تؤمن بها، وكذلك اليوم تترك منسيا في العذاب والهوان.
ومثل هذا الجزاء السيئ نجزى في الدنيا من أقبل على المعصية، وكذب بالله وآياته، وإن عذاب الآخرة لأشد ألماً، وأدْوَم مما كان في الدنيا
فلننظر على سبيل المثال إلى روسيا فيما أوردته قناة Bbc
العربية: «تشير بعض التقارير المستقلة إلى أن الكثير من الرجال القادرين على العمل في روسيا حالياً إما يعانون من البطالة، أو يتواجدون في السجون، أو يدمنون على الكحول. فمن بين 20 مليون رجل قادر على العمل نجد مليون رجل في السجون، و4 ملايين يخدمون في القوات المسلحة، و5 ملايين يعانون البطالة، و4 ملايين من المدمنين على الخمر، ومليون يدمنون تعاطي المخدرات. كما أن حوالى 60% من إجمالي السكان في روسيا هم من المسنين والأطفال المعاقين».


هذه هي حال بلد حضاري، وما خفي كان أعظم
وقال الأديب الأمريكي الكبير جون شتاينيك في خطاب أرسله إلى صديقه إدلاى ستيفينسون: "إن مشكلة أمريكا هي ثراؤها، وأن لديها أشياء كثيرة، ولكن ليس لديها رسالة روحية كافية. إننا في حاجة إلى ضربة تجعلنا نفيق من ثرائنا، لقد انتصرنا على الطبيعة، ولكننا لم ننتصر على أنفسنا
وثمة شهادة أخرى من الدكتور (هنري لنك) طبيب النفس الأمريكي الشهير
وقال: "لن نهتدي إلى حل شاف لمشكلات الحياة العويصة، ولن ننهل من مورد السعادة عن طريق تقدم المعلومات والمعرفة العلمية وحدها. فارتقاء العلم معناه ازدياد الارتباك واضطر أد التخبط، وما لم يتم توحيد هذه العلوم كلها تحت راية حقائق الحياة اليومية الواضحة وإخضاعها، فلن تؤدي هذه العلوم إلى تحرير العقول التي ابتدعتها وابتـكرتها، بل ستقــود حتمًا إلى انهـيار هذه العقـول وتعفـنها، كما أن هذا التوحيد لا بد أن يأتي عن طريق آخر غير طريق العلم، وأعني به طريق الإيمان".
فأقول: إذا كانت المسيحية عاجزة عن القيام بدور المنقذ، فإن اليهودية أشد عجزًا! واليهودية نفسها لا تزعم أن لديها هداية تقدمها للبشر، فهي ديانة يغلب عليها الطابع العنصري، وبنو إسرائيل - وحدهم دون الناس - هم شعب الله المختار! ولغلبة العنصرية على اليهودية نراها في الغالب منغلقة على نفسها، ليس لها دعوة للناس تنشرها وتبلغها للعالم

إذا قلنا: إن العلم والفلسفة عاجزان عن القيام بمهمة الإنقاذ للبشرية اليوم مما تعانيه، وأن الدين وحده هو المنقذ، ولا شيء غيره. وإن كنا قد بينا أن المسيحية - باعتبارها دينًا - عاجزة عن القيام بهذا الدور، وأن اليهودية أشد منها عجزًا،وان الرأسمالية والشيوعية أدت إلى شقاء الإنسان، فلم يبق غير الإسلامِ دينًا يمكنه أن يقوم بهذا الدور الخطير في هذا الزمن البائس، الذي تتلمس فيه البشرية الخلاص، وتبحث عن طوق للنجاة.

اللهم اجعلنا من السعداء ولا تجعلنا من الأشقياء