بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رب السموات ورب الأرض رب العالمين، وأشهد أن نبنيا محمدًا عبده ورسوله الذي عبد ربه حتى أتاه اليقين، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد. فإن الحياة الدنيا زائلة، وكل نفس عليها ميتة قال سبحانه وتعالى: «أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة» وهذه الدنيا متاع الغرور قال جل وتقدس وعلا «كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور» وقال تعالى: ﴿ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ﴾ وقد جعلها الله مطية إلى الآخرة ومعبرًا وقال لنا جل وعلا: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ وقال تعالى: ﴿ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
وقد عبر الله عن الأجل ونهايته، والقيامة وأهوالها، والصحف وتطايرها ذات اليمين والشمال- بِغَدٍ لقربه وسرعة هجوم الموت وقيام الساعة، ومن أجل أن لا يغتر المؤمن بطول الأمل، فقال تقدست أسماؤه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ﴾ فلو أن كل إنسان استعد للموت وكأنه سيموت غدًا لما سوَّف في التوبة، وما أهمل العمل الصالح، ولو أن كل إنسان استعد للوقوف بين يدي الله وكأنه يوم غد لاستحيا الإنسان من ربه، وسارع حثيثًا في طاعته، ولم يصر على معصيته.
والعاصي غدًا في القيامة كأنه لم يلبث في هذه الدنيا الفانية إلا ساعة من نهار قال تقدست أسماؤه: ﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ *﴾ وقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ
فلا إله إلا الله ما أشد حسرة المفرطين غدًا حينما يقفون بين يدي الله حفاة عراة فرادى: ﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا
فلماذا يضيع العبد عمره ووقته في هذه الدنيا، ويتناسى الموت والقبر والبعث والنشور غدًا، وما من دار إلا ولها باب، والباب إلى القبر والآخرة هو الموت، فما هو إلا أن يموت العبد فيرى ما قدمت يداه ويرى بعينه الجنة والنار، فإن كان من أهل الجنة قيل له انظر إلى مكانك من النار لو أنك عصيت الله، وإن كان من أهل النار قيل له انظر إلى مكانك من الجنة لو أنك أطعت الله، وما من ميت إلا ويعرض عليه مقعده من الجنة إن كان من أهلها أو مقعده من النار إن كان من أهلها، حتى يبعثه الله.
قال سبحانه وتعالى عن آل فرعون: «النار يعرضون عليها غدوًا وعشيًا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب» والموت باب وكل الناس داخله، ألا ليت شعري بعد الموت ما الدار؟ الدار دار نعيم إن عملت لها وإن فرطت فالنار، فالله الله لا تفوتوا على أنفسكم وأهليكم من تحت مسؤوليتكم، لا تفوتوا فرصة العمل، وخذوا من الصحة للمرض، ومن الشباب للهرم، ومن الفراغ للشغل، ومن الحياة للموت الذي لا تدري في أي لحظة سينزل بك، وبما أن لمن حضره الموت على إخوانه المسلمين حقوقًا وواجبات فإليك هذا البيان لبعضها:
إجابة على ما طلب مني بيانه عن كيفية معاملة المحتضر وما ينبغي على المسلمين نحوه إلى أن يدفن في قبره، فأقول مستعينًا بالله، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب:
إن على المسلم إذا أحس بقرب أجله أن يحسن الظن بربه، وأن يرطب لسانه بذكر ربه، وأن يلهج بكلمة التوحيد لا إله إلا الله، ومن كان عند المحتضر فليراع حالته الخطيرة وليرفق به، وإن تيسر أن يمسح جببين المحتضر بخرقة مبلولة بماء فذلك مما يخفف من شدة سكرات الموت، وعلى من كان عند المحتضر أن يلقنه الشهادة برفق للحديث الذي رواه مسلم في صحيحه، وهو في السنن الأربع:« لقنوا موتاكم لا إله إلا الله»
وإن رأى المُلقن المحتضر في شدة فليبل حلقه بقطرات من الماء، قال ابن قاسم في الإحكام المجلد الثاني صفحة 18 :"ويُسن تعاهد أرفق أهله وأتقاهم وأعرفهم بمدارات المريض ببل حلقه بماء أو شراب، فيجرع الماء أو الشراب إن ظهرت أمارة تدل على احتياجه له، كأن يهش إذا فعل به ذلك، لأن العطش يغلب عند شدة النزع وقبض الروح، ويندي شفتيه بقطنة، لأن ذلك يطفئ ما نزل به أي يخفف من الشدة ويسهل عليه النطق بالشهادة".


وأجمع أهل العلم على وجوب الحضور عنده أي عند المحتضر لتذكيره وتأنيسه وتغميضه، فإذا خرجت الروح فعلى من كان عنده أن يقوم بإغماض عينيه وشد لحييه، وأن لا يقال عنده إلا خير، فإن الملائكة يؤمنون على ما يقال، لحديث أم سلمة قالت: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره، فأغمضه» رواه الإمام مسلم في صحيح.