قالوا في الانصاف : أن تعطي غيرك من الحقّ مثل الّذي تحبّ أن تأخذه منه لو كنت مكانه ويكون ذلك بالأقوال والأفعال،
في الرّضا والغضب، مع من نحبّ ومع من نكره .
الإنصاف عملة نادرة ، وسمة باهرة ، والإنصاف خلق محمود ، ونعمة من الرب المعبود ،
وهو عصمة لصاحبه من الجحود ، مع حبيب أو عدو لدود .
ما أحوج الواقع للإنصاف ، في زمان بخس الناس حقوقهم ، وتنقيص الناس من أقدارهم ، وفي زمان تحطيم الرؤوس ،
وتقزيم الموز ... ما أحوجنا إلى الإنصاف.

الإسلام علمنا الإنصاف وأمرنا به .. وأكد على وجوبه وتحريم الميل عنه والعدول إلى الظلم والبغي وإنكار الجميل ...!
ولم يأمرنا الإسلام بالإنصاف مع الأحباب أو الإخوان فحسب فهذا أمر طبيعي عادي
ولكن أمرنا بأن ننصف الخصوم ولو كانوا أشد عداوة لنا !

انظروا إلى نبينا وما أكثر ما ورد في ذلك ووالله لقد احترت في انتقاء ما أذكره فكل ما ورد جدير أن يذكر ولكن المقام لا يتسع ..
ها هو نبينا يعلنها للعالم أجمع ويلزم من أمن به أولا هذا الغرس وسلوك هذا الفج حتى مع أهل الذمة في حديث رائع ،
قال صلّى الله عليه وسلّم:
«من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس
فأنا حجيجه يوم القيامة»
[رواه أبو داوود]
وقد لزم أصحابه هذا أيما لزوم وأنصفوا الخصوم ويفعله ويمارسه أحدهم مفتخرا وما يروم ..
فإنه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم .. يكفيك في هذا مثلا وتكراري للتذكير فالأمثلة لا حصر لها " صدقني " ...
بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن رواحة إلى خيبر ليخرص لهم الثّمار، فأرادوا أن يرشوه،
فقال عبد الله: «يا معشر اليهود، أنتم أبغض الخلق إليّ، قتلتم أنبياء الله- عزّ وجلّ-، وكذبتم على الله،
وليس يحملني بغضي إيّاكم على أن أحيف عليكم. فقال اليهود: بهذا قامت السّموات والأرض»

موطأ الإمام مالك

هذا الذي فعل ابن رواحة ... هو أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم .. نعم لا تعجب أخي القارئ ..
هذا أمر الله .. وإليك بعض الآيات .

قال الله تعالى :
" أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً
فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً "

وقال تعالى :
"وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ "

وقال تعالى :
" وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ "

وقال تعالى :
" لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ "

كل هذه الآيات وأكثر تحث على الإنصاف وألا يحمل أحدنا البغض على ترك الإنصاف ..
بل يجب النزول للحق والاعتراف به وإعطاء الناس حقهم وقدرهم والشهادة بما لهم ..

فيا إخوة الخير لا يحسبن أحدكم أنه إذ يبخس حق إنسان ، أو ينكر بذله وجهده فإنه ينصر الدين ،
بل من الدين أن تعطي الناس حقوقهم وألا تتحرج من ذكر ذلك ، ومن الخلق والأمانة أن تنسب إليهم الفضل ...
فهذا من الإنصاف ..

ومن الإنصاف ألا تأخذ الجميع بخطأ الفرد ، فهذا عين البغي والظلم ، ووالله ما هذا خلق سيد النبين صلى الله عليه وسلم ،
بل يأخذ كل إنسان بجريرته وبذنبه
"وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى " ،
" وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ "

فمن الظلم أنه متى أساء من قوم أو من فصيل أو من طائفة إنسان أن تحمل الجميع هذه الإساءة
وتضع الجميع في نفس الكفة .. هذا بغي .

ومن الإنصاف أن تحسن إلى من أسدى إليك جميلا أو معروفا ، وأن تشكره
" لا يشكر الله من لا يشكر الناس "
اسناد صحيح رواه أحمد وأبو داود والترمذي

ومن الإنصاف أن تدفع الافتراء عليه أيا كانت شدة الخصومة بينك وبينه ، أو كان الخلاف بينك وبينه ،
فلا تفرح إن خاض الناس في خصمك بفرى وبواطل ! ، سبحان الله وكيف تقر الكذب وترتضى الظلم !

ومن الإنصاف أن تذكر محاسنه إذا أردت أن تبين خطئه ، فلا تهدمه كاملا لأجل خطأ ، بل إذكر فضله
ثم بين ما وقع فيه وتمنى له الصواب ... وهذا خلق أهل العدل .. راجعوا في الأولين تجدوا ذلك ،
يخطب عمّار بن ياسر- رضي الله عنهما- في أهل العراق- قبل وقعة الجمل- ليكفّهم عن الخروج مع أمّ المؤمنين عائشة
- رضي الله عنها- فقال:
«إن عائشة قد سارت إلى البصرة ووالله إنّها لزوجة نبيّكم صلّى الله عليه وسلّم في الدّنيا والآخرة،
ولكنّ الله تبارك وتعالى
ابتلاكم ليعلم إيّاه تطيعون أم هي» . صحيح البخاري- كتاب الفتن

وأخيرا .. أجد الباعث والدافع لهذا الخلق أمران ولن أفصل فيهما ...
الأول : الإخلاص والتجرد ...
والثاني : التماس فضل الإنصاف .. وأفضل ما ينال أهل الإنصاف رضا الله تعالى ...

أسأل الله أن نكون من المنصفين ....